لاهوت التحرير والوثنيات الجديدة (ج.1)
نص: ميكائيل لوفي∗
ما المراد بلاهوت التحرير؟ بالأساس هو خطّ ديني مسيحي يستلهم رؤاه من جملة من الكتابات ذات منحى لاهوتي نضالي، تم تأليفها منذ العام 1971 من قِبل مجموعة من رجال الدين المسيحيين، على غرار غوستافو غوتيراز من البيرو، وروبيم آلفز وهوغو آسمان وكارلوس ميستر والأخوين ليوناردو وكلودوفيس بوف من البرازيل، وجون سوبرينو وإغناسيو إيلاكوريا من السلفادور، وسغوندو غاليليا ورونالدو مونز من الشيلي، وبابلو ريتشارد من كوستاريكا، وجوزي ميغيل بونينو وخوان كارلوس سكانوني من الأرجنتين، وإنريك دوسيل من المكسيك، وخوان لويس سغوندو من الأوروغواي، لِنورد أسماء العناصر الأكثر شهرة من بين رموز هذا التوجه.
ذلك ليس مصادفة أن تظهر هذه الحركة في أمريكا اللاتينية، في جنوب القارة التي تفشّى فيها التباين الاجتماعي بشكل صارخ، وأين توالت، منذ تفجر الثورة الكوبية سنة 1959، نضالات اجتماعية تطلعت إلى إرساء العدالة، دعمتها حركات ثورية بشكل متلاحق.
ولئن برزت اختلافات جمّة بين آراء مجمل هؤلاء اللاهوتيين، فإننا نجد، في سائر أعمالهم، العديد من المحاور الرئيسية التي شكلت أرضية مشتركة ومنطلقا جذريا نابعا من المعتقد التقليدي، كما أرسته الكنائس المسيحية، سواء منها الكاثوليكية أو البروتستانتية:
تقريع أخلاقي واجتماعي للرأسمالية باعتبارها نظام حيف وجور، وبوصفها شكلا من أشكال الخطيئة البنيوية.
توظيف أدوات التحليل الماركسية بقصد تفهم دواعي الفقر، والإحاطة بتناقضات الرأسمالية وبمختلف أشكال الصراع الطبقي.
خيار موالاة الفقراء ومناصرة نضالاتهم في التحرر الاجتماعي الذاتي، والسعي الجاد من أجل إرساء العدالة الاجتماعية.
العمل على النهوض بالشرائح المسيحية المعدمة في أوساط الفقراء، كشكل جديد من جمهور الكنيسة، والبحث عن نمط بديل لحياة الفردانية التي أملاها النظام الرأسمالي.
قراءة مستجدّة للكتاب المقدس، تحوم أساسا حول جملة من الإصحاحات الواردة في سفر الخروج التوراتي، كنبراس للنضال من أجل التحرر لشعب يرزح تحت نير الاستعباد.
مجابهة الوثنية، لا الإلحاد، باعتبارها العدو الرئيس للدين – أي مناهضة أوثان الموت الجديدة المعبودة من قبل الفراعنة الجدد، ومن قبل القياصرة الجدد والهيرودسات الجدد (نسبة إلى هيرودس حاكم الجليل في عهد المسيح): مامون∗، والثروة، والقوة، والأمن الوطني، والدولة، والقوة العسكرية، و"الحضارة المسيحية الغربية".
نقد الثنائية اللاهوتية التقليدية باعتبارها نتاجا للفلسفة الأفلاطونية الإغريقية، وبوصفها لا تمتّ بصلة للتراث الكتابي التوراتي، الذي يتميز فيه التاريخ البشري عن المسار الإلهي ولا ينفصلان.
أولا: المنشأ الاجتماعي للاهوت التحرير
كما سبق أن أعلن ذلك اللاهوتي البرازيلي ليوناردو بوف، ان لاهوت التحرير هو في الآن انعكاس لفعل سابق وتأمّل في دلالاته. أو بشكل أدق، هو تعبير عن حركة اجتماعية واسعة، ظهرت في البدء مطلع الستينيات من القرن الماضي -بشكل سبق الأعمال اللاهوتية الجديدة. حيث تضم هذه الحركة قطاعات معتبرة من جمهور الكنيسة، المتشكل من طوائف الرهبان، والتنظيمات الدينية، والأساقفة والحركات الدينية اللائكية، على غرار تجمعات العمل الكاثوليكي، والشبيبة الطلابية المسيحية، والشبيبة العمالية المسيحية؛ واللجان الكنسية الراعوية ذات الطابع الشعبي، مثل التكتلات الراعوية العمالية، والتكتلات الراعوية العاملة في مجال الزراعة، والتكتلات الراعوية الحضرية والشرائح الكنسية المعوزة. فبدون إيلاء اهتمام لمختلف الأنشطة العملية لهذه الحركات الاجتماعية –وهو ما يمكن أن نطلق عليه مسيحية التحرير- يتعذّر علينا فهْم ظواهر اجتماعية وتاريخية مهمة في أمريكا اللاتينية، برزتْ خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، على غرار المدّ الثوري في أمريكا الوسطى، في كل من نيكارغوا والسلفادور، أو كذلك بروز حركة عمالية وفلاحية جديدة في البرازيل.
لم تؤثّر مسيحية التحرير بخطّها اللاهوتي سوى في مجموعة ضئيلة من كنائس أمريكا اللاتينية: حيث بقي التوجه السائد -في الغالب الأعم- إمّا محافظا أو معتدلا. لكن تأثير تلك المسيحية ما كان هيّنا أو عرضا، لا سيما في البرازيل أين رفض المؤتمر الأسقفي (CNBB)، برغم الضغوطات القوية المتأتية من حاضرة الفاتيكان وبشكل متكرر، إدانة لاهوت التحرير. ومن بين الأساقفة والكرادلة الأكثر شهرة في هذا التنظيم، نجد هلدر كامارا من البرازيل، وباولو أرنز من البرازيل أيضا، والمونسنيور روميرو من السلفادور، والمونسنيور مندز أرسيو من المكسيك، والمونسنيور صامويل رويز من المكسيك أيضا.
ذلك أن مسار التأصيل اللاهوتي في الثقافة الكاثوليكية، في أمريكا اللاتينية، وهو ما سيقود إلى بروز لاهوت التحرير، لم ينطلق من قمة الكنيسة ليسير نحو القاعدة، ولا من القاعدة الشعبية باتجاه القمة، ولكن من الهامش باتجاه المركز. فالشرائح أو القطاعات الاجتماعية، في الحقل الديني الكنسي، التي ستغدو المحرك الفاعل في عملية التجدد، كلها ذات طابع هامشي أو متحدرة من الأطراف بالنسبة إلى المؤسسة: الجهاز الكنسي اللائكي∗ وأعوانه، والخبراء اللائكيون، والكهنة الأجانب، والتنظيمات الدينية. ففي بعض الحالات استولت الحركات على "المركز" وأثّرت على المؤتمرات الأسقفية (لا سيما في البرازيل)، وفي حالات أخرى بقيت معزولةً على "هامش" المؤسسة.
ليس في البرازيل وفي الشيلي فحسب، حيث شاهدنا على مدار الستينيات من القرن الماضي سياقا من التأصيل اللاهوتي في بعض الأوساط المسيحية (مسّ طائفة الإكليروس أو طائفة اللائكيين)؛ بل وتحت أشكال مغايرة، نشبت أحداث مماثلة في بلدان أخرى: الأكثر شهرة من بينها حالة كاميلو توريس، فبعد إنشائه حركة شعبية مناضلة، انخرط في صفوف جيش التحرير الوطني (ELN) سنة 1965، وهو جيش متشكّل من متمردين كولومبيين من أتباع فيديل كاسترو؛ لقي توريس حتفه في مواجهة مع الجيش سنة 1966، وقد كان لرحيله دور بارز في تأجيج الحماس السياسي في صفوف المسيحيين في أمريكا اللاتينية.
لقد جاء كلّ هذا الغليان، ضمن سياق من التجديد، في أعقاب نتائج مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965م)، وهو ما انتهى بزعزعة مجمل أركان كنيسة القارة. فأثناء انعقاد مؤتمر أساقفة أمريكا اللاتينية في مدلين خلال العام 1968، تم تبني قرارات جديدة، وحدثَ للمرة الأولى، ليس فحسب التنديد بالبنى السائدة الداعمة للجور، والظلم الاجتماعي، وانتهاك حقوق الشعوب وممارسة "العنف الممنهج"؛ بل أيضا جرى الاعتراف (في بعض الحالات) بمشروعية العمل الثوري، علاوة على التضامن مع تطلعات الشعوب "للتحرر من كافة أشكال القهر".
ضمن هذا السياق جاء ميلاد لاهوت التحرير. بدأ موضوع التحرر يشغل لاهوتيي أمريكا اللاتينية الأكثر تقدما -غير مقتنعين "بلاهوت التنمية" الرائج في جنوب القارة- منذ أواخر ستينيات القرن الماضي. وعلى سبيل الذكر نورد حالة اللاهوتي البرازيلي هوغو آسمان، الذي سبق أن تلقى تعليمه في فرانكفورت. فقد لعب دورا بارزا، منذ سنة 1970، في حشد أولى العناصر لبلورة نقد مسيحي ذي طابع لاهوتي تحريري للتنمية الاقتصادية المستدامة. لكن بحلول العام 1971، ومع صدور مؤلف غوستافو غوتيراز – اليسوعي البيروفي، الذي أنهى تحصيله العلمي في جامعتي لوفان وليون الكاثوليكيتين- كان المولد الفعلي للاهوت التحرير. ففي مؤلفه المعنون بـ"لاهوت التحرير - السياقات"، سيطرح غوتيراز جملة من الأفكار الاحتجاجية، ستكون مدعاة لإثارة بلبلة في التصورات اللاهوتية داخل الكنيسة. في مستوى أول، ألحّ على ضرورة تهشيم الثنائية المتوارثة عن الفكر الإغريقي: فلا وجود لواقعين، أحدهما "زمني" والآخر "روحي"؛ أو تاريخين، أحدهما "مقدّس" والآخر "مدنّس". هناك تاريخ موحَّد فحسب، وفي حضن هذا التاريخ الإنساني والزمني ينبغي أن تتحقق العدالة الاجتماعية، والخلاص، ومملكة الرب. لا يتعلّق الأمر بترقّب الخلاص من أعلى: فالخروج التوراتي يبيّن لنا بشكل لا لبس فيه "أن بناء الإنسان عمل من صنعه، يتأتى تبعاً لنضاله السياسي التاريخي". كما أن مسار الخلاص يغدو مسارا جماعيا و"شاملا" بعد أن كان خيارا فرديا وخاصا، حيث لا يتمثل الرهان في أن ينجو المرء بنفسه، بل في خلاص وتحرر شعب بأسره يرزح رهن الاستعباد. فليس الفقراء، ضمن هذه السياق، مجرد موضوع للشفقة أو هدفا للإحسان، لكنهم على غرار سائر المستضعَفين من بني إسرائيل، صنّاع تحررهم. وفي ما يتعلّق بالكنيسة، ينبغي أن تكفّ عن لعبها دور الشريك في جهاز السيطرة: متبعة التراث العظيم لأنبياء التوراة والنموذج الشخصي للمسيح، وأن تواجه الجبابرة وتندد بالظلم الاجتماعي.