ليل طويل
الشركة مؤلفة من طابقين في حي السليمانية مقابل الجامع الذي طاح سقفه لخلل في البناء.
الأرضي مقر الشركة, والفوقي سكن الخواجات, المدير العام والمحاسب والمهندسون الزائرون الذين يأتون من مركز الشركة في لوس أنجلس.
فوق, يوجد ست غرف كبيرة وحمامان وفرش ديلوكس, ويصل بين الأرضي والفوقي درج داخل البناء من الرخام الطلياني الأخضر الفاتح, اللامع دائما, وعلى حائط الدرج صورة زيتية كبيرة لبدوي عجوز عيونه حادة ووجهه مخدد كالرمال, وعلى يده يقف صقر.
غلين هوليمان, محاسب الشركة, رجل كبير, فوق الستين, مريض بالسكري وأشياء أخرى تجعل أنفه يسيل ويتريل أيضا, و يحرص أن يُظهر نفسه بأنه على أحسن حال على الرغم من أن الشركة نقلته أكثر من مرة إلى قاعدة سلاح المهندسين الأمريكي في ألمانيا للعلاج. وغلين حاد الذكاء والخبث, ونشيط ولكن ببطء.
المدير العام إدوارد أندرسن سافر لمركز الشركة في لوس أنجليس, عمل وإجازة, لهذا أضطر تشودري خادم الشركة الباكستاني أن يصرف وقتا أطول مع غلين لخدمتِهِ وشراء حوائجه من سوبرماركت السيفويه أو بنده إلى جانب تنظيف الطابقين. وكان أيضا يزوره عند المساء لدقائق يجلب له أفلام فيديو وسجائر ومشروب مهرب بتنكات مغلقة تحمل ماركة زيت مازولا أو زيت زيتون ماركة نابليون. و تشودري هذا يسكن في غرفة في طرف حديقة المبنى تحت نافذة غرفة غلين ونظره. لم يسبق لغلين أن زاره تحت, وغلين على العموم لا ينزل للحديقة لشدة الحرارة ولإحساسة أنه عندما يخرج من المبنى كأنه يخرج من الولايات المتحدة ويدخل البلد الصحراوي المقيم فيها التي لا يحبها.
كان تشودري يومها يسقي الحديقة عندما تناهى لسمعه موسيقى الجاز خافتا من نافذة غلين. رفع رأسه وأصبح يلعِّب المياه باسراف فوق شتلات الزهور الخضراء وهو يبتسم.. أغلق حنفية الماء وجفف يديه بطرف قميصه الزاهي اللون, ثم دخل غرفته واستلقى على سريرة جانب الطاولة التي عليها تلفون وعلبة سجائر "ونستون". كان ينظر إلى السقف منتظرا, وكان يقاوم لذة الاستسلام للنوم بعد التعب, وكان مدركا أن غلين سيكون سعيدا جدا هذه المرة.
رنَّ جرس التلفون. رنَّ مرة واحدة, فهبَّ تشودري من غفوته داخل ضجيج مكيف الهواء.. رفع السماعة:
– "ألو.." وكان يعرف أنه غلين. ثم قال له:
– "سآتيك فورا.."
أخرج تشودري من تحت القمصان المكوية في خزانة ملابسه لفة ورقية سميكة ملفوفة بمطاطة بالطول والعرض, وخرج من غرفته. صعد الدرج الرخامي الأخضر النظيف اللامع فشعر بغبطة لحسن تنظيفه, وشم رائحة المعقمات وبخاخ خشب الصندل الذي يبخ منه الغرف عندما ينتهي من تنظيف المكان. نقر على باب غرفة غلين.
"أدخل.."
– "مساء الخير.. يا سيدي.."
كان غلين مستلقيا على سريره, عار, وقد غطى نصف جسده السفلي بغطاء قطني أصفر فاتح, وكانت السيجارة عند نهايتها مبلولة بين شفتيه, وعينه اليسرى محمرة دامعة من الدخان. مد غلين يده بإبتهاج ظاهر في عينيه المتغضنتين وقال وهو يأخذ اللفة الورقية من تشودري:
"ماذا عندك اليوم؟"
– "ستكون سعيدا للغاية هذا المساء يا سيدي.."
– "صحيح؟"
– "هذه المرة غير كل مرة.. ستكون مسرورا جدا."
دسَّ غلين في يد تشودري خمس دولارات..
– "سأرى.."
كشف عنه غطاء السرير ونزل بتثاقل من سريرة وسار دون حرج نحو جهاز الفيديو. وضع الفيلم ووقف ليس بعيدا عن التلفزيون وعن تشودري الذي لم يكن ينظر إليه.
أكد له تشودري حتمية ابتهاجه قائلا:
– "من عمر الورد.."
– "آه.. يا خبيث.."
– "وقتا سعيدا.."
وضحكا, ثم خرج تشودري.
ليلتها أيضا لم يرتفع أذان العشاء من المسجد المجاور الذي طاح سقفه, وكان الليل غارقا بالظلام, مسربلا بالصمت, غامضا ومكشوفا, وكانت موسيقى البلوز المنبعثة من نافذة غلين فاترة, طافحة بالغياب والعتمة, مختلطة بأصوات المآذن البعيدة, القليلة المتداخلة, المتدرجة في البعد, الجاهدة للوصول من بعيد عبر ليل طويل.