مآزق الشِّعريّة
[الحلقة الأولى]
يقف الباحث في حلقات هذه الدراسة على شكل جديد تلفتُ إليه نصوص من قصيدة النثر، يتمثّل في أبنية إيقاعيّة، لكنها غير منضبطة على التفعيلة، ولا تخلو أيضًا من الاحتفاء بالتقفية. ومن ثَمَّ فهي لون جديد، يقع بَيْن بَيْن، أي بَيْن قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة.
وتعرّج الدراسة على بعض من كتبوا القصيدة بذلك الشكل المزدوج، في السعودية خاصة. على أنه لم يكن من غاية الباحث الاستقراء والاستقصاء، بمقدار ما هدف إلى إلقاء الضوء على كشفٍ أجناسيٍّ من خلال تجارب محدّدة. ولمّا كانت التصنيفات المطروحة لا تسعف في تصنيف تلك النصوص- المعدودة من قصيدة النثر- فقد اجتهد الباحث في اقتراح مصطلح جديد يميّز ذلك الشكل الشعري.
وتُظهر الدراسة أن بعض التجارب النصوصيّة لا تقف عند حدّ استخدام التفعيلة كيفما اتفق، بل إنها لتبتكر تشكيلات منتظمة، وكأنها تصطنع بحورًا وزنيّة، كثيرًا ما يردفها ترجيع القوافي.
وبذا تحاول الدراسة كشف اتجاه فنّيّ غير معلن وتسميته كي تمنحه شهادة ميلاده المستقلّة. وهو اتجاه، لو تكاثف وأصبح له رصيده الواسع من التجارب والاستجابات، لأمكن التنبؤ بأن ينتهي إلى فتح بدائل إيقاعية، عن عروض الخليل وشعر التفعيلة معًا، لا بنبذ الموسيقى الشِّعْريّة العربيّة، ولكن بالدوران في فلكها، بروح عربية تستعيد بكارتها.
في مقابل ذلك تقف الدراسة على نماذج من (القصة القصيرة جِدًّا)، تبدو أحيانًا قصائد نثرٍ وإنْ سُمّيت قصصًا قصيرة جِدًّا. والتزاوج بين هذين النوعين (قصيدة النثر والقصة القصيرة جِدًّا) هو من الدقة بحيث يتبدّى الفارق بينهما شفّافًا جِدًّا، حتى لا يكاد يميّز القصة القصيرة جِدًّا سوى التزامها حكائيّةً ما، في حين لا يلزم ذلك قصيدة النثر بالضرورة. وفي نماذج حلّلها الباحث يتضح توالج نصوصٍ من القصة القصيرة جِدًّا مع قصيدة النثر، إلى درجة التماهي. بل إن بعض تلك النصوص لتبدو- بما تتوافر عليه من خصائص شعريّة- أَشْعَر من كثيرٍ ممّا يسمّى قصيدة نثر.
ولمّا كان الجوّ الشعريّ حاضرًا في القصة القصيرة جِدًّا، فإن الإيقاع يحضر أحيانًا على غرار ما يحدث في بعض نماذج قصيدة النثر. من حيث إن الشعر يستدعي بنية إيقاعيّة ما، تستتبع صنعة الشعر البلاغيّة، من كثافة تقديم وتأخير، وتشبيه، واستعارة ونحوها، متمخضةً الانحرافات الأسلوبية تلك عن إيقاعات صوتية وأخرى دلالية.
وهكذا، فكما انزاح بعض الشعر صوب النثر عبر نافذة قصيدة النثر، فإن النثر قد ينزاح صوب الشعر عبر القصّة القصيرة جِدًّا! إذ يبدو أنه على غرار تشبّث قصيدة النثر بالشعريّة يأتي تشبّث بعض أنماط من القصّة بالقصصيّة، فيما القصصيّة في بعضها واهية، أو حتى مفقودة! وهذان الشكلان (قصيدة النثر والقصة القصيرة جِدًّا) شكلان خارجان على القانون في جنسَي الشعر والقصّة، وجمالهما يكمن في خروجهما، فلا غرابة أن يقع فيهما- وبينهما- ما يقع من تداخل. غير أن الإشكاليّة تظلّ في المصطلح، إذ ما ينسب إلى جنس الشعر يجب أن ينتمي إليه، وما ينسب إلى جنس القصّ يجب أن ينتمي إليه كذلك. فإن كان جنسًا مدجّنًا، وجب أن يأخذ تعريفه المائز وتسميته المستقلّة.
وهكذا فإن هذه الدراسة تخوض في عملية استكشافية في ثنايا نماذج من النصوص الحديثة، ملتبسة البنى، مضطربة الهويّة، من أجل إعادة النظر في بعض التصنيفات الأجناسيّة، التي لا تقوم في كثير من الأحيان على سبر الخصائص الفنيّة لما ينضوي تحتها.
– 2-
لقد كانت رؤية سوزان برنار [1]في قصيدة النثر تنطوي على فكرة التعايش النوعيّ بينها وقصيدة الشِّعْر، بخلاف ما يُشاع من أرباب قصيدة النثر في مشهدنا الشعريّ العربي غالبًا من رهان على أن قصيدة النثر شكلٌ شعريّ يَجُبّ ما قبله. بل إن برنار [2] لتخلص- في آخر سطرٍ من كتابها- إلى أن قصيدة النثر ليست بتجديد للشكل الشعريّ، بمقدار ما هي ثورة احتجاجٍ ونضالٍ فكريّة للإنسان ضدّ مصيره. وقد تبدّى لنا من مقاربة سابقة أن ما يُسَمَّى قصيدة نثر، كما تمخّضتْ عنه التجاربُ العربيّة إلى الآن، لا جديد حقيقيًّا فيه- لا من الوجهة الشعريّة ولا النثريّة- أكثر من تعليق مصطلح ملتبس لما كان يسمى قديمًا بالأقاويل الشعرية، أو الإشراقات الصوفيّة، أمّا الشكل المدعّى لقصيدة النثر فليس بالجديد [3]. فيما تؤكّد (برنار) [4]نفسها أن قصيدة النثر: "نثرٌ"، لا "شِعْر"، وأنها "تستجيب لحاجات أخرى غير الشِّعْر".
وفي التجربة النصوصيّة العربية الحديثة سمّى (جورجي زيدان، -1914) ما نشره (أمين الريحاني، -1940) في ديوانه "هتاف الأودية"، سنة 1905، من هذا الشكل الكتابي المجرّد من الوزن والقافية: شعرًا منثورًا [5]. بل لقد تحدّث الريحاني نفسه عن هذا الشكل الكتابي باسم "الشِّعْر النثريّ"، وشبّهه بشعر الأمريكي (والت وايتمان)، في ديوان "أوراق العشب Grass leaves". كما كان لبعض الأسماء من العراق إسهام في تلك البدايات من قصيدة النثر العربيّة( [6]. ونُسب إلى الشاعر معروف الرصافي كتابة "قصيدة نثرٍ" ما، سنة 1924، قائلاً عنها إذ ذاك: إن "الشِّعْر المنثور العاري من الوزن والقافية هو شعر بالمعنى الأعمّ للكلمة"، واقترح تسميته بـ"الشِّعْر الصامت"؛ لعدم اقترانه بالموسيقى [7]. ما يعني أن الرصافي إنما كان يرى فيه "الشِّعريّة"، بمعناها "الأعمّ"، لا "الشِّعر"، بصفته جنسًا أدبيًّا. وهذا يتّفق مع رؤية القدماء لهذا الشكل الكتابي في إطار ما أسموه "الأقاويل الشِّعريّة". ثم خلف من بعدهم خلْف ارتضوا تلك الكتابة شِعرًا، كأدونيس، وجبرا إبراهيم جبرا، وشوقي أبي شقرا، ومحمّد الماغوط، ويوسف الخال. وسمّاه بعضهم: "قصيدة الأدب"، أو "قصيدة التجاوز والتخطّي". ولعلّ نازك الملائكة هي من اقترحت اسم "قصيدة النثر"، تقليلاً من شأنه [8].
إن التمرّدٌ على قانونٍ فنّي دون استبداله بآخر محض فوضى، ولا فنّ إلاّ بنظام. "وهل تكون قصائد لو لم يكن الأمر كذلك؟"- كما تساءلت (برنار) [9]- إذ تقول:
"من المؤكّد أن قصيدة النثر تحتوي على مبدأ فوضويّ وهدّام؛ لأنها وُلدتْ من تمرّد على قوانين عِلْم العَروض، وأحيانًا على القوانين المعتادة للّغة، بيد أن أيّ تمرّد على القوانين القائمة سرعان ما يجد نفسه مكرهًا على تعويض هذه القوانين بأُخرى، لئلاّ يصل إلى اللا عضويّ واللا شكل، إذا ما أراد عمل نتاجٍ ناجح. إذ إن مطلب الوصول إلى خلق "شكل"، أي بعبارة أخرى تفسير وتنظيم العالم الغامض الذي يحمله الشاعر في نفسه هو شيء خاصٌّ بالشِّعْر. ولن يكون بمستطاع الشاعر عدم استخدام اللغة وعدم إعطائها قوانين، وإنْ كان ذلك لمجرد تفسير التمرّد والفوضى."
وفي معمعة الاضطرابات تلك بين نظاميّ الشعريّ والنثريّ، جاءت سخريتنا- نحن العرب المُحدثين- من قُدامى النّقاد العرب حين قالوا: إن الشِّعْر هو: "كلام موزون مقفّى يدلّ على معنى" [10]، فسفّهنا قولهم، بنزوع للتخفّف من الوزن والقافية، ثم من موسيقى الشِّعْر جملةً، وإنْ بفهمٍ قاصر، لا يخلو من أدلجة، ومن تشويهٍ لحقيقة ما قالوه وعَنَوْه. إلاّ أن تلك المقولة تبقَى منطقيّة، لا بحسب تأوّلنا إيّاها كي نصم قائليها بالحمق النقديّ، ولكن بالنظر إلى أنهم حينما قالوها- مركّزين على الموسيقى اللغوية في الشِّعْر- كانوا ينظرون إلى أخصّ مميّزات الشِّعْر العربي: الوزن والتقفية؛ من حيث إن الخصائص الأسلوبية الأخرى كلها مشتركة بين الشِّعْر والنثر، لا يختلفان فيها إلاّ كمّيًّا؛ من حيث إن الشِّعْر يكثّف عناصرها- من صوتيّات، وصُوَر، وتقديم وتأخير، وغيرها- وجميعها تدخل في بناء النثر الأدبي، لكن بتكثيف أخفّ وتركيز أقلّ. أمّا ما يتفرّد به النصّ الشعريّ العربيّ- بوصفه جنسًا أدبيًّا- فالوزن والقافية وموسيقى اللغة. تلك هي علامته الفارقة التي التفت إليها تعريف النَّقد العربي القديم. وكذا من يريد أن يعرّف مادة تعريفًا فارقًا، فارزًا لها عن غيرها، سيعمد إلى تعيين أخص خصائصها التي لا يشاركها فيها غيرها. أمّا لو قال، مثلاً: "الشعر هو: كلام موزون، مقفّى، يدلّ على معنى، وفيه أخيلة، وتصوير، وعواطف إنسانيّة".. إلى آخر ما هنالك، فسوف يدخل فيما قاله كثير من النثر، باستثناء العنصرين الأوّلين.
وتلكم إذن هي العلامة الفارقة التي لا يحفل بها النقد الحديث كثيرًا، بل يُسقطها الشِّعْر الحديث، أو يعيث فيها، وقد يتخلّى عنها برمّتها، كما في قصيدة النثر، ثم يصرّ مع ذلك على أن ما يفعل ينتمي إلى جنس الشِّعر، ليمسخ الشِّعْر نثرًا، ويدعو النثر شعرًا! [11]