ما يزال ربّان البحور يشق عباب الفاجعة
عندما كان الخليل بن أحمد الفراهيدي (100- 170هـ) وهو العلامة الفقيه اللغوي يتحرك في بهو داره في البصرة ذهاباً وإياباً وهو يحاكي نفسه ويحدثها بصوت مرتفع مطنطنا ومنغماً وملحناً ومقطعاً لأشعار العرب، كان الناظر إليه يحكم عليه من أول نظرة بالخرف والجنون أو ربما مسّه طائف من الشيطان، ولكن هذا المجنون العاقل أرسى للأدباء والشعراء بعد جهد جهيد قواعد البحور والعَروض في الشعر العربي، أو ما يعرف بالتفعيلات، فجاءت تفعيلاته خمسة عشراً بحرا وأضاف تلميذه الأخفش الأوسط سعيد بن مسعد المجاشعي (137- 215هـ) السادس عشر والأخير، فهي: (الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل، الهَزَج، الرَّجز، الرَّمَل، السريع ، المُنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المُجتث، المُتقارب، والمُحْدَث – المدق)، وقبله أضاف أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم العيني (139- 211هـ) بحر المتدارك (الخبب)، وقيل غير ذلك، وكل البحور القديمة تنضدت في ثمان تفعيلات هي: (فعولن، فاعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفاعيلن، مستفعلن، فاعلاتُنْ، مفعولات).
وعلى طريقة العرب في تسهيل حفظ قواعد العلوم جاء الشاعر أبو المحاس صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي (677- 752هـ)، ووضع لكل بحر بيتاً ليسهل معرفتها وحفظها عُرفت بمفاتيح البحور، وتلاه أبو الطاهر إسماعيل بن علي البيضاوي (766- 838هـ) وتسهيلاً لحفظ أسماء البحور فقد وضعهما في بيتين هما:
طَوِيلٌ يَمُدُّ البَسْطَ بِالوَفْرِ كَامِلٌ
وَيَهْزِجُ فِي رَجْزٍ وَيَرْمُلُ مُسْرِعَا
فَسَرِّحْ خَفِيفًا ضَارِعًا يقْتضِبْ لنا
مَنِ اجْتثَّ مِنْ قُرْبٍ لِنُدْرِكَ مَطْمَعَا
وبعد مضي قرون جاء الفقيه المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي المولود في كربلاء المقدسة بالعراق سنة 1947م ليضع زحافات البحور الخليلية وتشطيرات تفعيلاتها وجزئياتها ومنهوكاتها في قوالب منظومة جديدة فكانت (210) أبحر مع أسمائها، شرحها بالتفصيل مع مشاهداتها الشعرية في ثلاثة مؤلفات هي: "الأوزان الشعرية .. العروض والقافية"، و"هندسة العروض من الجديد"، و"بحور العَروض"، وكلها صدرت في العام 1432هـ (2011م).
عديد الحروف طويله
من المسلَّم به أن عنوان أي شيء دليل إلى مضمونه ومراده، وعندما اختار الخليل الفراهيدي عناوين تفعيلات بحوره، فإنما اختارها بناءً على عدد التفعيلات وتقطيعاتها وما يقابلها من الحروف في الصدر والعجز، وكان بحر الطويل هو أول البحور التام التفعيلات من التفعيلة الخليلية الذي استوعب شطر كل بيت 44 حرفاً، فكان مجموع حروف البيت وتقطيعه 48 حرفاً بالتمام والكمال ولهذا أسماه الطويل، وبقية البحور دونها من التفعيلات والحروف، فهو:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
فالعَروض وهو الجزء الأخير من صدر البيت جاء تقطيعه (مفاعيلن) وكذلك في ضربه وهو الجزء الأخير من عجز البيت جاء تقطيعه (مفاعيلن).
وجاء مفتاح صفي الدين الحلي للطويل على النحو التالي:
طويلٌ له دون البحور فضائل
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعِلُ
ويلاحظ في مفتاح الحلي أن عَروضه (مفاعيلن) وضربُه (مفاعلن)، فالطويل على ثلاثة أنواع الأول والثاني والثالث.
– فالفراهيدي بنى عروضه على الأصل ويعبر عنه بالطويل التام أو الطويل المثمّن وينتهي عرضه وضربه بـ :"مفاعيلن" وقلّة من الشعراء ينظمون عليه.
– والحلي بنى عروضه على بحر الطويل الثاني وينتهي ضربه بـ: "مفاعلُ" وهو المشهور ونحو 80 في المائة من الشعراء ينظمون عليه، ومنها عدد من المعلقات السبعة أو العشرة، من قبيل قول زهير بن أبي سلمى المزني المتوفى سنة 13 قبل الهجرة، في مطلع معلقته:
أمِنْ أمِّ أوفى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ
بحومانَةِ الدُّرّاج فالمُتَثَلَّمِ
– وبحر الطويل الثالث الذي ينتهي ضربه بـ "فعولُ".
وقد وصف الكرباسي بحر الطويل التام الأول في كتاب: بحور العَروض: 32، بقوله:
طويلُ المدى في بحره أربعاً سنّوا
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلنْ
متى رُمتنا ضيفاً ترانا .. تكن ربّاً
علينا طويل العزِّ فينا بِذا تأمَنْ
ومثّل له في كتاب: هندسة العروض من جديد: 204 بقوله:
تركتُ الأماني في بلادي لأجلافِ
رهيف الأعادي سالكاً نهجَ أسلافي
أو قول أبو الطيب أحمد بن الحسين الكندي المتنبي (303- 354هـ) راثياً جدته لأمه:
ألا لا أرى الأحداث مدْحاً ولا ذمًّا
فما بطشُها جهلاً، ولا كفُّها حِلمًا
عودة مع الدارج
يعود بنا الكرباسي مرة أخرى إلى بحر الطويل وبشكل تفصيلي، ولكن هذه المرة عبر منجزه الأدبي الجديد في الجزء الأول من "ديوان الطويل" الصادر العام 1444هـ (2023م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 420 صفحة من القطع الوزيري.
وعودته انتقالة جديدة من الفصيح إلى الدارج من المنظوم على بحر الطويل، وعودة إلى الحديث عن القصائد التي قيلت في الإمام الحسين عليه السلام في إطار تحريره لدائرة المعارف الحسينية، حيث يمثل هذا الديوان المجلد رقم (124) مما صدر عن الموسوعة الحسينية منذ أن بدأ بتحريرها سنة 1987م.
ويعلمنا المؤلف أن هذا البحر أكثر الشعراء من النظم عليه، ولهذا كما جاء في التمهيد: (يُقال له الركوب لكثرة ما يركّب العرب أشعارهم عليه، ويلقب بأمير البحور لنيله أكبر نسب من الأشعار العربية)، إشارة إلى النوع الثاني من بحر الطويل، فيما أكثر شعراء الشعر الشعبي أو الدارج من النظم على بحر الطويل الأول أو المثمَّن التام.
ويمثل المؤلف للأول من الفصحى ذي التفعيلات الثمان قوله في كتابه: ظلال العَروض في ظئاب المطالع والملاحق: 1/262:
تركتُ الأماني في بلادي لأجلافِ
رهينَ الأعادي سالكاً نهجَ أسلافي
وقد أكمل الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز بن مختار شبين المولود في الجزائر العاصمة سنة 1969م البيت بقصيدة من ثلاثة عشر بيتاً يضيف في أولها:
غريباً بأرض حيثُ لا كوكبُ الرؤيا
رآني ولا فجرٌ منيرٌ بأسدافي
ومن الثاني ذي التفعيلات الست قوله:
ألا يا مَن إليه الخلق محتاجُ
لقد خاض الورى هرجاً وقد ماجوا
ومن الثالث ذي التفعيلات الأربع قوله:
سقامُ النفس في الحقدِ
وحقدُ المرء في الرصدِ
ولاحظ المؤلف في النظم الدارج على الطويل أمور عدة، منها:
* يعد الطويل من أسلس الأوزان في الشعر الدارج لما أنَّ الصدر والعجز متوازنان من حيث التفعيلة، ومن هنا تكون له نغمة جميلة.
* ظهر هذا النمط من النظم في العقود الأولى من القرن الرابع عشر الهجري (العشرون الميلادي)، وقد استهواه معظم الشعراء الحسينيين ويداوله المنشدون لما فيه من عذوبة ورقة في قوافيه ويتناسب مع الألحان المستخدمة في هذا المجال، وعليه فهو من البحور البارزة في الشعر الحسيني المنبري في المدرستين الكربلائية والنجفية وعند أغلب الشعراء.
* مما يميز الشعر الدارج عن الفصيح أن العلل والزحافات تدخل في كل التفاعيل خلافاً للشعر الفصيح حيث قيّدها بعضهم ببعض التفاعيل وبالأخص الضرب العروض.
* مما يميز الشعر الدارج عن الفصيح أيضاً أنهم حوَّلوا مفاعيلن إلى مستفعلن.
بحر الحوادث
تختلف أبيات وأشطر القصائد المنبرية المنسوجة على منوال الطويل، من قصيدة إلى أُخرى وإن كان القاسم المشترك لكل الأشطر في البند الواحد كونه من بحر الطويل، فهناك البيت الواحد والبيتان والثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة، وكلها تقع تحت عنوان البند، ومجموع البنود تشكل قصيدة واحدة من بحر الطويل.
ومما يمكن الخروج به من قراءة إنطباعية عند مطالعة القصائد الواردة في الجزء الأول من "ديوان الطويل" ومعاينة عموم محتويات الديوان، الأمور التالية وأهمها:
* كل بند من بنود القصيدة الواحدة قلّت أو كثرت، يمثل حدثاً من حوادث النهضة الحسينية صاغه الشاعر بكلماته الدارجة.
* قوة البند أو ضعفه من حيث بيان أصل الحدث أو ما يعبر عنه بالجوهر أو الثيمة، خاضع للشاعر وثقافته التاريخية للحدث الحسيني أو غيره، فكلما كان الشاعر واقفاً على الحدث بكل جزئياته كان على أقدر على ايصال الصورة الشعرية إلى المتلقي بما هو الحدث كما هو.
* كلما كانت أشطر البند الواحد متعددة أمكن للشاعر إحتواء الحدث التاريخي نظماً واندكانه به.
* كل بند يمثل حلقة من سلسلة حدث بعينه، وبمجموع البنود تتحصل لدى المتلقي الصورة الكاملة عن ذلك الحدث.
* عند الإنتهاء من الديوان تتحصل لدى القارئ أو المتلقي قصة كاملة عن النهضة الحسينية وجزئياتها من قبل استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء في عاشوراء 61 للهجرة وما بعدها، فحيث مثل كل بند أو مجموعة بنود القصيدة الواحدة حدثاً متكاملاً، فبمجموع القصائد تتشكل القصة والرواية.
* ضمّ الديوان الأول من "بحر الطويل" (48) قصيدة بعدد حروف بحر الطويل لسبعة عشر شاعراً وشاعرة وهم: جابر جليل الكاظمي، سلمان محمد الشكرجي العبدلي، عبد الأمير علي الفتلاوي، عبد الحسين علي الشرع، عبد الصاحب ناصر الريحاني، عبد علي الناصري، عبد المحمد عبد علي الخطيب النجفي، عبود غفلة الشمرتي، علي كريم الموسوي، فرحان عبد علي البغدادي، كاظم حسن المنظور، كرار عبد الحسن الحسيناوي، مهدي حسن الخضري، مهدي هلال الكربلائي، نجم عبود الحلي الكواز، هادي عبد القصاب، والشاعرة هاشمية حسين البحرانية.
* أولى المؤلف للفهارس والمعاجم أهمية كبرى، بخاصة وإن الديوان قائم على اللغة الدارجة التي بالقطع واليقين عصية على الفهم إلا من يتداولها، وكل مجتمع ناطق باللغة العربية له لهجته ومفرداته الشعبية الدارجة نفهم بعضها ولا ندرك معاني جميعها، والعكس صحيح، وضمت قصائد الديوان أكثر من 1600 كلمة شعبية دارجة أفرد لها المؤلف فهرساً موسعاً في 45 صفحة من صفحات الكتاب شرح فيها معانيها مع فهرس من عشر صفحات لبيان معاني الكلمات الفصحى، وإلى جانب الفهرسين ضم الديوان 18 فهرساً آخر.
قصائد وقصص
* وزَّع المؤلف القصائد حسب الحروف الهجائية معتمداً قافية البيت الأول من البند، وقد ضم الجزء الأول حرف الألف حتى حرف الراء، على النحو التالي:
– قافية الألف: ثلاث قصائد بالعناوين التالية: معنى الوفاء، غدرته الكوفة، يراعي الثار.
– قافية الباء: سبع قصائد وعناوينها: هجوم الأعداء، نشوب المعركة، حق الشهيد، الأكبر سمع الحسين، ما تدري يبو الحسنين، صقر هاشم، المشرعة والسلب.
– قافية التاء: خمس قصائد وعناوينها: يا دمعة التلالي، هذا البيت، نخوة عمامي، إبجاه أم البنين، على العهد.
– قافية الثاء: قصيدتان وعنوانهما: يصيح الغوث، الموت يخاطب الحسين.
– قافية الجيم: قصيدة واحدة وعنوانها: رملة إتحشم إبجسام.
– قافية الحاء: قصيدة واحدة وعنوانها: جبريل ينعى الحسين.
– قافية الخاء: ثلاث قصائد وعناوينها: سجّل يا قلم، كل حر أو أبي، أهل بيت النبي.
– قافية الدال: تسع قصائد وعناوينها: خرج مسلم من طوعة، ليلة العشرين، رجّ الكون أبو فاضل، ظعن أبو سجاد، إني أحامي أبداً عن ديني، الوداع المفجع، صبر الحوراء زينب، يدمعة ويروحي، زيد الشهيد.
– قافية الذال: قصيدتان وعنوانهما: أسامي، شاغل الگلب.
– قافية الراء: خمس عشرة قصيدة وعناوينها: جهزته او شيعته القبره، يا فاطمة الزهراء، زينب بگت بين الگوم، مهجة الزهره، هاشم شدوا على الخيل، صوت الثورة، أترى تجيء فجيعة، الكوفة ومسلم، مخاطبة الإمام الباقر، سجادك يحامي الجار، شبل حيدر، لمصاب الطفل، مسلم ظل يدير العين، عنّك هالمصايب هاي، يا جمال.
وكل عنوان هو مدخل لحدث أو قصة من الرواية الطويلة لواقعة كربلاء واستشهاد سبط الرسول الأكرم محمد (ص) سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي عليهما السلام في القرن الأول الهجري، سجّلت فيها السيدة نادين دي دونكر (Nadine De Doncker) انطباعها عن الفاجعة الكبرى من خلال وقوفها على الجزء الأول من ديوان "ديوان الطويل"، وهي سيدة بلجيكية الأصل ولدت في مدينة أنتويرب (Antwerp) تأثرت بالرواية العاشورائية الحزينة فانقلبت على عقبيها من المسيحية إلى الإسلام سنة 1982م واتخذت لنفسها اسم (زينب) تيمناً بالسيدة زينب الكبرى الصابرة المحتسبة التي كانت تحملت الأعباء الثقيلة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.
تكتب بكل حرقة وألم في مقدمة ملحقة بنهاية الكتاب وباللغة البلجيكية عن: (واقعة كربلاء وهي مأساة كبرى لها أثر كبير على قلوب أتباع ومحبي الإمام الحسين عليه السلام، بل وتترك أثرها على كل أصحاب القيم والكرامة من كل الأديان والملل والنحل لأن النفس البشرية مجبولة على الخير وتواقة إلى مواجهة ومقابلة الظلم والقهر والفساد وهذا ما كانت عليه النهضة الحسينية).
ووجدت السيدة نادين (زينب) دونكر في دائرة المعارف الحسينية للمحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي ضالة كل صاحب قلم وصاحب قلب للتماهي والتناغم مع قيم النهضة الحسينية في الخلاص والحرية والتكافل الإجتماعي، وخير المعمورة وفلاح البشرية المقهورة، ويكفي في باب الأدب أنَّ أمير البحور ما يزال يشق عباب الفاجعة العاشورائية.