محمد مندور ناقدا ومناضلا وإنسانا
عندما كانت مصر تحتفل خلال عام 2005 بمثقفيها التنويريين، لم يأخذ محمد مندور مكانته الجدير بها في هذا الاحتفال، ولست أغالي إن قلت: لعل محمد مندور أن يتقدم بعض هؤلاء التنويريين الذين احتفلت بهم مصر، لست أقوم بمفاضلة، أو أقلل من قيمة هؤلاء التنويريين وإنما أحرص علي تأكيد معني يكاد يغيب ونحن نحتفل بالتيار التنويري في حياتنا وثقافتنا المصرية والعربية عامة، فما أكثر ما يقتصر فهمنا للتنوير عند حدود الرؤية أو الدعوة العقلانية العامة المجردة، دون تحديد لدلالة هذه الرؤية أو هذه الدعوة في سياقها الاجتماعي الخاص، حقا إن كل دعوة عقلانية هي دعوة تنويرية، ولكن ما أكثر ما توظف كذلك هذه العقلانية توظيفا خاليا بل متعارضا مع البعدين الوطني والاجتماعي!.
وما أكثر ما تعرض علي نحو توفيقي أو تلفيقي مع ما يناقض العقلانية ذاتها وما أكثر ما تتعارض كذلك هذه العقلانية في التعابير النظرية مع الممارسة السياسية والاجتماعية الفعلية، وما أكثر ما تتراوح وتختلف مواقف بعض التنويريين العقلانيين من مرحلة لأخري، بل لعل بعضهم يتخذ من العقلانية أداة تبريرية إما أدخل في تفاصيل أو تسميات، ولكن حسبي أن أقول إنه لهذا يرتفع اسم محمد مندور علما من أبرز أعلام الفكر التنويري المصري والعربي الذي يجمع بين العقلانية والوطنية والرؤية الاجتماعية والإنسانية المتقدمة، والذي تتسق آراؤه النظرية مع مواقفه العملية، وتكاد حياته تكون تجسيدا حيا لفكره.
كان محمد مندور ابن التراث الإنساني العقلاني، والتراث العربي الإسلامي العقلاني خاصة، والثقافة العربية التقدمية في مصر بوجه أشد خصوصية، واستطاع أن يوحد هذا كله في صيغة فكرية وحياتية متسقة، جعل منها مصباحا للتنوير وسلاحا للتعبير والتطوير، لم يكن المفكر العقلاني المتعالي عن مجتمعه وعصره، بل كان المفكر المتفهم لمجتمعه وعصره، والملتزم بهمومه، والمشارك مشاركة فعالة في الفعل التاريخي التنويري التغييري، لم يكن مثقفا تقليديا - كما يقول أحد الكتاب مستعيرا مصطلح جرامشي - بل كان مثقفا عضويا بالمصطلح الجرامشي نفسه.
ولم يكن مصادفة بل اختيارا واعيا أن يحصل محمد مندور في عامين متتاليين علي ليسانس الآداب وليسانس الحقوق في عامي 29 - 30 من جامعة القاهرة «فؤاد الأول سابقا»، فيجمع بين الثقافة الأدبية والثقافة الاجتماعية العلمية، وكان اختيارا واعيا أن يستقيل من الجامعة بعد عامين من بعثته في فرنسا وتعيينه في جامعة القاهرة، يستقيل لينغمر في العمل السياسي اليومي مناضلا ضد السلطة الملكية الإنجليزية الرجعية السائدة آنذاك مشاركا في تشكيل جبهة اليسار - الطليعة الوفدية - داخل صفوف حزب الوفد.. ولكنه يواصل الجمع بين الفعل التنويري الثقافي والفعل التغييري السياسي.
ولهذا نجد له هذا التراث الغزير الخصب في مجال النقد الأدبي الذي يكاد يكون مسحا شاملا للتراث النقدي العربي القديم ومتابعة دقيقة لأبرز تيارات الإبداع الأدبي الحديث والمعاصر، بمنهج يجمع بين التحليل الموضوعي التاريخي الدقيق، والإنصات الأمين إلي رفيف الذات المبدعة، والحرص علي اكتشاف دلالة المضمون الأدبي ومدي فاعليته الاجتماعية وقيمته الجمالية، وإلي جانب هذا التراث الغزير الخصب في النقد والدراسة الأدبية، نجد هذا التراث الغني والخصب كذلك من المقالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت صداما جسورا مع مظاهر التخلف والاستبداد والتبعية في المجتمع المصري آنذاك، وتحريضا جسورا علي التغيير والتجديد.
ولهذا كان من الطبيعي أن يدخل محمد مندور الحبس الاحتياطي أكثر من عشرين مرة بين عامي 45 - 1946، وكان من الطبيعي كذلك أن يكون من أبرز قادة الفكر والثقافة عامة في مرحلة من أخطر المراحل في تاريخ مصر الحديث التي كانت إرهاصا لكل ما حدث بعدها من تغيير وتأزم وتوتر حتي يومنا هذا هي مرحلة الأربعينيات.
ففي هذه المرحلة أخذ يمتزج الصراع السياسي الوطني ضد الاحتلال البريطاني بالصراع الاجتماعي الطبقي ضد النظام الرأسمالي التابع السائد، وأخذت تتداخل الحدود بين الثورة الوطنية الديمقراطية والثورة الاشتراكية، وأخذ الأدب يخرج من حدوده التقليدية والرومانطيقية ليمتزج إبداعا ونقدا بقضايا الواقع الاجتماعي الذي يغلي بالثورة وإرادة التغيير.
في هذه المرحلة من تاريخ مصر كان هناك بحث عن قيادة جديدة لمصر، ولعل اللجنة الوطنية للطلبة والعمال التي تشكلت عام 1946 أن تكون تجسيدا لهذه القيادة ولكنها لم تتمكن من المواصلة والتطور، وكان هناك إحساس عام غامر بضرورة تغيير المجتمع تغييرا بنيويا شاملا سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وانعكس هذا في كثير من التعابير الفكرية والأدبية.
كان محمد مندور من أبرز المعبرين عن هذه المرحلة والمناضلين في صفوف طلائعها والمشاركين في صياغة مفاهيمها وقيمها.
وكانت ثورة 23 يوليو 1952، بما رفعته من شعارات، وفي بعض ما حققته من منجزات، تعبيرا عن بعض أشواق محمد مندور وأحلامه التي شارك في صياغتها والنضال من أجلها في الأربعينيات، إلا أن الطابع العسكري البيروقراطي لهذه الثورة قد أرهق وأقلق ضمير محمد مندور وفكره، فقد كان يري في الديمقراطية وفي احترام حقوق الإنسان، مدخلا أساسيا لتحقيق أهداف أي تغيير ثوري صحيح.
ولهذا عكف محمد مندور علي ممارسة النقد الأدبي، مكرسا جهده الأكبر له، يعيش فيه كل أشواقه وأحلامه متسلحا بمنهج يجمع بين ذاتية التذوق وموضوعية الرؤية وبين التحليل الاجتماعي الإنساني للأدب والحرص علي قيمته الفنية الجمالية.
ولهذا اقتصرت في الخمسينيات وحتي منتصف الستينيات معاركه - التي لم يتوقف عن خوضها - علي معارك الفكر والأدب، دفاعا عن الفكر الاشتراكي الذي ازداد التصاقا والتزاما به، وكشفا عن الدلالة الواقعية والاجتماعية والإنسانية والدعوة إليها في الأدب.
والتفت حوله كوكبة من التلاميذ الذين شاركوا - ومازالوا يشاركون - في إغناء الحياة الفكرية والفنية والأدبية والثقافية عامة في مصر، فلم يكن محمد مندور مجرد مفكر كبير، بل كان كذلك معلما وإنسانا وشخصية غنية ملهمة معطاءة، كان يلهم ويعلم بشخصيته بقدر ما كان يلهم ويعلم بفكره.