السبت ١٧ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

محمود درويش: تفاؤل البدايات وخيبة النهايات

يرى ادوارد سعيد في مقالته "تلاحم عسير للشعر وللذاكرة الجمعية" أن قصيدة "أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الاندلسي" تنطوي على "نغمة الكلل وهبوط الروح والتسليم بالقدر، والتي تلتقط - عند العديد من الفلسطينيين- مؤشر الانحدار في أقدار فلسطين التي، مثل الاندلس، هبطت من ذروة ثقافية كبرى الى حضيض فظيع من الفقد، على صعيد الواقعة والاستعارة معا" (مجلة القاهرة، العدد 151، حزيران 1995، ص 23).

وتحيل هذه المقولة قاريء درويش الى بدايات الشاعر وتطوره وما آل اليه، ليلحظ إن كان هناك ضرب من التوازي الطردي ما بين اشعار الشاعر وحركة المقاومة الفلسطينية، صعودا وهبوطا، قوة وضعفا، وصلتها ايضا وحركة المقاومة العربية والثورات العالمية. وكما نعرف فقد غادر درويش حيفا عام 1970، تاركا الحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي انطوى تحت لوائه، ليلتحق بالمقاومة الفلسطينية وليعمل في مؤسساتها الثقافية.

وكان درويش، يوم كان مقيما في فلسطين، قد أنجز العديد من المجموعات الشعرية التي لم تخل من ثقة بالمستقبل ومن ايمان بانتصار الاشتراكية وحركات التحرر الوطني في العالم. وانعكس هذا، بوضوح، في "أوراق الزيتون" (1964) و”عاشق من فلسطين” (1966) و"آخر الليل" (1967) و"العصافير تموت في الجليل" (1970) و“حبيبتي تنهض من نومها” (1970). واذا تجاوز المرء دلالات العناوين وايحاءاتها الى القصائد، فسيرى ان الشاعر كان في أكثر شعره متفائلا، وهو ما بدا في هذا المقطع الذي كتبه بعد حرب حزيران 1967:

خســرت حلما جميلا

خسرت لسع الزنابق

وكــان ليلي طويـــــلا

على سـياج الحدائق

وما خسرت السبيلا

(أ.ك، مجلد 1، ط 14، 1996).

واستمرت هذه النغمة في اشعاره بعد خروجه من الأرض المحتلة، على الرغم من الهزات التي تعرضت لها المقاومة الفلسطينية في أماكن مختلفة، وإن كان المرء يلحظ أن الشاعر، بين الفينة والفينة، كان يكتب قصائد لا تخلو من حس حزين يصل احيانا الى درجة التشاؤم ويعبر عن ندم شديد لخروجه من حيفا. ولا تخلو بعض عناوين مجموعاته من دلالات التفاؤل "أحبك أولا أحبك" (1971) و"محاولة رقم 7” (1974) و“أعراس “ (1977) ويكفي أن نشير الى القصيدة التي صدر بها ديوانه الأخير. ومع أن “حصار لمدائح البحر" (1983) لم يخل من قصائد لا تخلو من روح التحدي، وبخاصة أنها معظمها كتبت قبل رحيل الثورة عن بيروت، الا ان العنوان ذو دلالة.

يمكن، مثلا، قراءة قصيدة "بيروت" (1981) وملاحظة مدى إصرار الشاعر على مواصلة النضال، وكانت الثورة يومها قوية، ومن هنا قال:

"لن نترك الخندق

حتى يمر الليل" (أ. ك، مجلد 2، ص 221).

بل ويمكن قراءة قصيدة "مديح الظل العالي" التي أنجزها إثر الخروج من بيروت. وكان يفترض أن تكون نهايتها سوداوية، لا نهاية ممتلئة إصرارا وقوة وتحديا. ويبدو أن بطولات الفدائيين كانت ماثلة أمامه وهو يكتبها:

"عبثا تحاول يا أبي ملكا ومملكة
فسر للجلجلة
واصعد معي
لنعيد للروح المشرد أوله
ماذا تريد، وأنت سيد روحنا
يا سيد الكينونة المتحولة ؟
يا سيد الجمرة / يا سيد الشعلة
ما أوسع الثورة
ما أضيق الرحلة
ما أكبر الفكرة
ما أصغر الدولة ! (أ.ك، مجلد 2، ص 77)

وبدأ التحول في خطابه الشعري منذ لحظة الاسترخاء الفلسطيني، فقد أصبح الفلسطينيون بلا بر وبدون بحر قريب من فلسطين. ويصدر الشاعر عام 1983 "حصار لمدائح البحر" وقد ضمت القصائد التي كتبها قبل 1982، وأخرى، وهي قليلة، كتبها بعد الخروج. ويبدو العنوان، كما ذكرت، لافتا للنظر.

ويبدو أن الشاعر بدأ يشعر بالمأزق الحقيقي للثورة، وقد جاءت قصائد "هي أغنية... هي أغنية" (1986) و"ورد أقل" (1986)، في أكثرها، لتعبر عن هذا. ويبدو عنوان المجموعة الثانية "ورد أقل" عنوانا دالا بما فيه الكفاية. حتى اذا ما قرأنا عناوين قصائد المجموعة الاولى تيقنا من ذلك، ولنلاحظ: “هذا خريفي كله” و“أربعة عناوين شخصية: متر مربع في السجن، مقعد في قطار، حجرة العناية الفائقة، غرفة في فندق" و"انا العاشق السيء الحظ" و"محاولة انتحار” و“آن للشاعر ان يقتل نفسه”.

حقا ان قصائد "ورد أقل" ليست كلها ذات نبره حزينة يغلب عليها سمة التشاؤم، اذ في قسم منها ما يعبر عن ارادة قوية ممتلئة اصرارا وثقة بقوة الذات، الا ان أكثرها يعبر عن قلق وشعور بالضياع، ولنلاحظ عناوين بعض القصائد: “تضيق بنا الأرض” و“يعانق قاتله” و“تخالفنا الريح” و“يحبونني ميتا” و“خسرنا ولم يربح الحب”.

واختلفت هذه النبرة يوم بدأت الانتفاضة. لقد شعر الفلسطينيون انهم ما زالوا يملكون اوراقا اخرى ما كانت ورقة بيروت اخرها. وشعر الشاعر ايضا بهذا، وجاءت قصيدته التي أقامت الدنيا "عابرون في كلام عابر" (1988)، لتعبر عن روح تعلو فيها نزعة التحدي. لقد شعر الشاعر أن الروح التي دبت في شعبه وقد انتقلت اليه. وتذكر هذه القصيدة بتلك المقالات التي كتبها درويش في اثناء حرب تشرين (1973)، المقالات التي جمعها ونشرها في كتاب "وداعا ايتها الحرب...وداعا ايها السلام” (1974). يكتب درويش في “عابرون

آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الاول
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا... والاخرة"

(عابرون في كلام عابر، بيروت، دار العودة، 1994، ط 2، ص 53)

وقد بلغ الأمر مبلغه، لنجد الشاعر في قصيدة “مأساة النرجس...ملهاة الفضة” (1989) يبشر الفلسطينيين بالعودة، وقد تخيلها، ونجد القصيدة التي بدأت بالفعل "عادوا" تنتهي بما يلي:

"يعرفون، ويحلمون، ويرجعون، ويحلمون، ويعرفون، ويرجعون ويرجعون، ويحلمون، ويحلمون، ويرجعون". (أ.ك، مجلد 2، ص 447)

ولما كان درويش واحدا ممن ذهبوا الى مدريد، فقد كنا نتوقع ان يصدر عنه شعر لا يخلو من احساس بالانجاز، فماذا قرأنا له ؟

ابتداء أشير الى أن تتبع مواقف الشاعر السياسية يقول لنا انه لم يعد يؤيد العملية السلمية بالكامل، ولكنه في الوقت نفسه لم يرفضها بالكامل، وان كان استقال من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الا انه قرأ نصوص (أوسلو) بحد أدنى من العدالة للفلسطينيين فوجدها “لا تعرف الارض الفلسطينية المحتلة بأنها محتلة، وبالتالي لم يرد فيها أي تعبير يتضمن الانسحاب. والحديث عن "إعادة انتشار" في الضفة الغربية يعني أن السيادة الاسرائيلية تامة، والا لاستخدموا تعبيرالانسحاب" (الكرمل، 52، 1997، ص 222).

سأقف، الان، أمام نصوص الشاعر التي كتبها بعد (مدريد) و(أوسلو) لأبرهن صدق ما ذهبت اليه، ساعة اخترت العنوان، ولأبين انها - أي قصائده - تعبر عن خيبة الشاعر لا عن تفاؤله، وسوف أقف أمام عناوين القصائد وثنائياتها الرئيسة ونهاياتها.

1- العناوين:

يرى (السيميائيون) أن العنوان "أول مفتاح اجرائي به نفتح مغالق هذا النص سيميائيا، من اجل تفكيك مكوناته قصد اعادة بنائها من جديد” وأنه - أي العنوان- “بمثابة رأس للجسد، والنص تخطيط له، وتحوير، إما بالزيادة او الاستبدال او النقصان او التحويل" و"انه يقدم لنا معرفة كبرى لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه، اذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد انتاج نفسه، وهو الذي يحدد هوية القصيدة" بالاضافة الى أنه يعلن "مقصدية ونوايا المبدع ومراميه الايديولوجية" بحيث "يحاول المؤلف ان يثبت فيه قصده برمته.." (انظر د. جميل حمداوي، السيموطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 25، ع3، آذار 1997، ص 107 وما بعدها).

يحتوي ديوان "احد عشر كوكبا" على ستة عناوين رئيسة لست قصائد، الاولى منها تحتوي على عناوين فرعية. وقد اختار درويش جزءا من عنوان القصيدة الاولى ليكون عنوانا للديوان برمته. وقد يتبادر الى الذهن، عندما يقرأ المرء العنوان، أنه ذو دلالة دينية، فنحن، المسلمين، سرعان ما نتذكر الاية القرآنية من سورة يوسف (إني رأيت احد عشر كوكبا..)، واذا صح ان عنوان القصيدة كان "احد عشر قمرا على آخر المشهد الاندلسي " فلا ارى ان درويش كان مصيبا في استبدال مفردة باخرى، ولو ظل على ما كان عليه بداية، لما انصرف ذهننا الى ما انصرف اليه، وليس هناك من شك في ان الكوكب، هنا، هو المقطع الشعري، لا الأخ، كما يفهم من النص القرآني، لأن القصيدة الاولى تتكون من احد عشر مقطعا. وعموما فان العنوان الرئيسي يعبر عن نهاية لا عن بداية، كما لو اننا نقرأ مرثية تتشكل من احد عشر مقطعا، ولنلاحظ عبارة "آخر المشهد الاندلسي". وتعزز العناوين الفرعية الأمر: "في المساء الاخير على هذه الارض”، “أنا واحد من ملوك النهاية”، “للحقيقة وجهان والثلج اسود، “من انا بعد ليل الغريبة ؟” “في الرحيل الكبير احبك اكثر"، "لا اريد من الحب غير البداية".. الخ.

وتلي هذه القصيدة قصيدة "خطبة" الهندي الاحمر "ما قبل الاخيرة امام الرجل الابيض" ولنلاحظ كلمة "الاخيرة"، وليس ثمة شك في انه عنوان يحيلنا الى موضوعة كبيرة لانه يستثير فينا، كما استثار العنوان الاول، قصة شعب اباده شعب اخر، او اتى عليه حيث لم يبق له في مكانه شيئا.

ولا يختلف العنوان الثالث كثيرا "على حجر كنعاني في البحر الميت"، فالبحر ميت، وليس هناك ما يشير الى كائن حي يعرف ما هو موجود على الحجر. ولعلنا هنا نشير الى الاجتهاد الموفق للدكتور احمد الزعبي في تفسيره للقصيدة ودلالاتها الرمزية. (حول ذلك انظر كتابة: الشاعر الغاضب محمود دريوش، دلالات اللغة واشاراتها واحالاتها، اربد، 1995، ص 25 وما بعدها، حيث يرى في البحر الميت رمزا للأمة العربية، وفي الحجر حجر الفلسطيني في الانتفاضة).

ويشذ عنوان القصيدة الرابعة "سنختار سوفوكليس"، ولعله الاستثناء الذي يعزز القاعدة، فيما يدعم العنوان الخامس العناوين الثلاثة الاولى "شتاء ريتا الطويل"، ويعززها كذلك العنوان السادس "فرس للغريب. الى شاعر عراقي "فالفرس للغريب لا للشاعر العراقي.

وهكذا نلحظ كلمات "آخر" و"الاخيرة" و"ميت" و"شتاء طويل" , "غريب"، وهي كلمات لا تعبر عن تفاؤل قدر تعبيرها عن تشاؤم وموات.

واذا انتقلنا الى ديوان “لماذا تركت الحصان وحيدا ؟” ووقفنا امام القسم الاخير الذي يحمل عنوان “أغلقوا المشهد”، باعتباره القسم المعبر عن تجربة ما بعد (مدريد) و(اوسلو) لاحظنا الشيء نفسه. وكما ذكرت، فان اغلاق المشهد تم من طرف واحد لا من طرفين، والا لاستخدم الشاعر “اغلقنا” الفعل الذي يدل على المشاركة بالتساوي، خلافا لاغلقوا الذي يعبر عن قيام طرف بالاغلاق هو الطرف القادر.

ويحتوي هذا العنوان على عناوين اربعة فرعية هي: “شهادات من برتولد بريخت

امام محكمة عسكرية” و“خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس" و"متتاليات لزمن اخر" و"عندما يبتعد". واذا ما اخذنا بمقولة "النص والاستثارة"، فما من شك ان هذه العناوين تستثير في اذهان المثقف اليساري الفلسطيني وغير الفلسطيني، القاريء لأشعار درويش، اشياء كثيرة. ثمة يساري يشهد أمام محكمة عسكرية، وشخص لعله بريخت / درويش يختلف خلافا غير لغوي مع امريء القيس ابن الملك، والعنوانان يشيران الى ان هناك طرفين هما الضحية والجلاد او المثقف والسلطة، ولعجز الاول فانه يكتب متتاليات لزمن اخر غير هذا الزمن الذي يضم الضعيف والقوي، الانسان والجلاد، وتكون النهاية في زمن مثل هذا ابتعاد الانسان، انه يختار الابتعاد حتى يحافظ على انسانيته. والقوي هو الذي يغلق المشهد، فيما يبتعد الضعيف مضطرا ومقهورا وغير راض.

حقا ان العنوان لا يقول كل شيء، هنا، ولكنه ذو دلالة، والدلالة ليست بخافية: أنت تدلي بشهادتك لخلافك مع امريء القيس، ولانك ضعيف تغني لزمن اخر وتبتعد. وقد يقول قائل ان الضعيف هنا ليس واحدا، فهو تارة درويش، وطورا الجندي الاسرائيلي الذي يرفض ما تقوم به اسرائيل من قمع لشعب بريء ومسالم. وهنا يمكن الاسترشاد بأراء درويش حول انا المتكلم في نصه يقول: "أنا الشاعر مكونة من عدة ذوات، وقد تروي قصة جماعية، وهذه الانا قد تتحول الى انا الاخر، وأنا العالم..." (الكرمل، 52، 1997، ص 219).

واذا ما قارنا عناوين قصائد مرحلة السلام بعناوين قصائد الانتفاضة، وبخاصة المشهورة منها وهي قصيدة “عابرون في كلام عابر" ابصرنا الفرق واضحا.

2- ثنائية المنتصر والمهزوم:

لو نظرنا في قصائد "احد عشر كوكبا على اخر المشهد الاندلسي" و"خطبة الهندي الاحمر - ما قبل الاخيرة - امام الرجل الابيض" و"فرس للغريب" و"خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس" فسنجد انها تقوم على ثنائية المنتصر والمهزوم، القوي والضعيف، وسنرى ان الشاعر، في اكثرها، يمثل الجانب الثاني وينطق باسمه، ويعبر في طريقة كلامه عن ذات تشعر بالخواء وتقر بالهزيمة، ذات ضعيفة بلغت منها الهزيمة مبلغا بعيدا لدرجة تبدو فيها غير قادرة
على الفعل اطلاقا. ولم يكن الحال كذلك في قصيدة "مديح الظل العالي" وقصيدة "عابرون في كلام عابر"، بل وفي قصيدة "أرى ما اريد" وقصيدة "مأساة النرجس ملهاة الفضة"، والقصائد الثلاث الاخيرة كتبت في فترة الانتفاضة.

في قصيدة “احد عشر كوكبا” هناك قطبان اساسيان هما “الفاتحون الجدد” الذين وصلوا، و”الفاتحون القدامى الذين مضوا جنوبا شعوبا ترمم ايامها في ركام التحول"، وينتمي انا الشاعر الى الاخيرين الذين بكت الكمنجات على خروجهم من الاندلس. وتتكرر عبارة “قد ذهب الفاتحون واتى الفاتحون”. ثمة فتح وفتح مضاد، وثمة زمان قديم يسلم هذا الزمان الجديد مفاتيح ابوابنا. والفكرة هذه هي محور القصيدة الثانية في الديوان - أي قصيدة "خطبة الهندي”. ويمهد درويش لها بالنص التالي الذي قاله (سياتل، زعيم دواميش):

"هل قلت: موتى ؟
لا موت هناك..
هناك، فقط، تبديل عوالم” (أ.ك، مجلد 2، ص 499)

وهكذا يحل الرجل الابيض محل الرجل الاحمر - الهندي الاحمر- هذا الذي نصغي الى صوته، تماما كما اصغينا الى صوت المنتمي للمهزومين في القصيدة السابقة. واذا كان الاخير قال:

والنهاية تمشي الى السور واثقة من خطاها
فوق هذا البلاط المبلل بالدمع، واثقة من خطاها
من سينزل اعلامنا: نحن ام هم ؟ ومن
سوف يتلو علينا "معاهدة الصلح" يا ملك الاحتضار ؟
(أ. ك، مجلد 2، ص 485).
فإن الأول يقول:
ونحن نودع نيراننا، لا نرد التحية.. لا تكتبوا
علينا وصايا الاله الجديد، اله الحديد، ولا تطلبوا
معاهدة للسلام مع الميتين، فلم يبق منهم احد
يبشركم بالسلام مع النفس والاخرين..(أ. ك، مجلد 2، 509)
ولا يختلف انا المتكلم في فرس للغريب" عنه في "احد عشر كوكبا"، وقطبا المعركة في القصيدة هما العراق، وأمريكا ودول التحالف، وتخسر الاولى التي يقف الشاعر الى جانبها الحرب:
وللقمر البابلي على شجر الليل مملكة لم تعد
لنا، منذ عاد التتار على خيلنا، والتتار الجدد
يجرون اسماءنا خلفهم في شعاب الجبال، وينسوننا
وينسون فينا نخيلا ونهرين: ينسون فينا العراق. (أ. ك، مجلد 2، ص 551)

وتبدو ثنائية الاسرائيلي المنتصر والفلسطيني الخاسر واضحة في "خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس". وهكذا نجد انفسنا، في القصائد السابقة، أمام عرب الاندلس والهنود الحمر والعراقيين والفلسطينين، وجميع هؤلاء خاسرون، وينطق الشاعر باسمهم، وأمام الاوروبيين والرجل الابيض والامريكيين والاسرائيليين، وهؤلاء رابحون فقد حل اكثرهم محل الاخرين او انتصروا عليهم. ثمة تبديل عوالم. فهل دفع الاحساس العميق بالخسارة الشاعر ليكتب هذه القصائد ؟

3- نهايات القصائد:

يذهب بعض نقاد الشعر الى ان القصيدة "تنبني على مقومات ثلاثة هي العنوان وبؤرة القصيدة والنهاية" (انظر جميل حمداوي، ص 107)، والنهاية هي نتيجة النص وتعود على بدء القصيدة، وفيها يكشف الشاعر مرماه. فيكف بدت نهايات قصائد درويش فيما بعد (مدريد) و(اوسلو) ؟ تنتهي قصيدة “احد عشر كوكبا” بالسطرين التاليين:

الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الاندلس

الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين الى الاندلس
والبكاء هو بكاء الرثاء لا بكاء الفرح. وتتكرر كلمة (موتى)، في المقطع الاخير من "خطبة الهندي الاحمر.." ست مرات، ويعقد السلام بين الرجل الابيض والهندي الاحمر، ولكنه سلام المنتصر مع الميتين. وتشكل هذه القصيدة عموما الوجه الاخر ل “عابرون في كلام عابر”، والفارق بينهما يكمن في ان الاخيرة كتبت في فترة الانتفاضة فجاءت تعبر عن روح التحدي، والثانية كتبت في فترة مفاوضات السلام، وكانت تعبر عن روح تشعر بالهزيمة.

ولا تختلف نهاية “فرس للغريب”. حقا ان فيها ما يدل على ان الشاعر يملك حسا تفاؤليا بالمستقبل، وهو ما يبدو في قوله: "سوف تطرز بنت عراقية ثوبها باول زهرة لوز/ وتكتب أول حرف من اسمك/ على طرف السهم فوق اسمها../ في مهب العراق” الا ان روح القصيدة تشعر القاريء بغير ذلك.

ويطلب انا المتكلم في "خلاف، غير لغوي، مع امريء القيس " ان يذهب وحده على درب قيصر، لأن قوم الشاعر، بعد توقيع معاهدة الصلح، رأوا الدخان يطل من الوقت اسود، ولهذا فلم يجدوا نجمة للشمال ولا خيمة للجنوب، ولم يتعرفوا على صوتهم ابدا.

ويبدو ان درويش في اشعاره خير معبر عن شعور الثوريين العرب الذين دافعوا عن المشروع الاشتراكي والمشروع القومي والمشروع الوطني، وكانت النتيجة ان اخفقت هذه المشاريع الثلاثة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى