مزج الحضارات في كتاب "إشراقة الشعر الغنائي اليوناني" للشاعر سعود الأسدي
حظيت في مرحلة الدراسة الثانوية بأن أتتلمذ على يدي الأستاذ الشاعر سعود الأسدي، وذلك في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة. وكان له ولبعض الأساتذة الآخرين الفضل الكبير في غرس شجرة تذوق اللغة العربية ومحبتها عامة، وللشعر العربي خاصة.
أذكره وهو يصول ويجول مع المتنبي وأبي العلاء وأبي نواس وغيرهم من الشعراء الفحول، وكأن روحه قد عانقت أرواحهم وامتزجت بها فأصبحت قالبا واحدا، وذلك من خلال شرحه لقصائدهم، وإظهار مدى إبداعهم لها ؛ فتحلق روحه معهم في أجواء الجمال والشاعرية عبر كلماتهم وأبياتهم الفذة.
أقول هذا لأنني على يقين أن هؤلاء الأساتذة الأفاضل، ومن بينهم الأستاذ الشاعر سعود الأسدي، قد أثّروا فيّ وأثْرَوْا معلوماتي ، مما حدا بي لإكمال دراستي الجامعية متخصصا في اللغة العربية وآدابها.
ومما زاد في سعادتي، وأثلج صدري أن أرى أستاذي الفاضل، في مكتبي في كلية سخنين لتأهيل المعلمين ، وهو يقدم لي هدية غالية محببة إلى نفسي، وهي كتابه الجديد "إشراقة الشعر الغنائي اليوناني"، وقفزَتْ حينها إلى ذهني صور جميلة عن الأستاذ ، ونظرت بعين خيالي إلى ذكريات عزيزة لأيام الثانوية، وما أدراك ما أيام الثانوية!
صدر الكتاب عن دار الحكيم للطباعة في الناصرة، وهو من منشورات "زرقاء اليمامة "فيها. ويقع في 106 صفحات من الحجم المتوسط، وقد ازدان ببعض اللوحات الفنية الحجرية، أو التي نقشت على أواني الزجاج أو الحجر وتحمل صور شعراء يونانيين مما أضفى رونقا وجمالا على مضمون الكتاب الشعري والنثري؛ إذ شكلت هذه اللوحات وسائل إيضاح تقرب إلى ذهن القارئ ما ورد في الكتاب من دراسة وأشعار.
إن الحضارة، كل حضارة، وليدة حب الإنسان للمعرفة، وسعيه وراء سبر أغوار الكون واكتشافه، ومنها وبسببها ينشأ العمران، وتعمر البلدان. وهي ليست حكرا على أحد؛ فالكل بإمكانه أن ينهل ويعبّ ، إن شاء ، من ينابيعها الثرّة النميرة ، وفي الوقت نفسه، يمكنه أن يضفي عليها من إبداعاته الخاصة، وتجاربه، وعندها يساهم في وضع لَبِنة في هذا الصرح الشامخ.
هذا ما قام به أستاذنا الشاعر سعود الأسدي؛ فما قام به لم يكن ولا بأيّ حال ترجمة حرفية جامدة جافة للأشعار اليونانية ، وأساطين قائليها ؛ وإنما مزج هذا المضمون من الأشعار والأفكار في بوتقة اللغة العربية ،وهو سادن من سدنة ثراثها ، بما فيها من مسحات السحر والجمال ؛ فأنتج ، وبحق ، نتاجا جديدا مصبوغا بصبغته الإبداعية الخاصة، وبأحاسيسه الذاتية، وهذا ما أعتبره مزجا بين حضارتين: اليونانية من جهة ، والعربية من جهة أخرى ؛ فنجده قد ترجم فأجاد ، وألّف فأتقن ، واختار فأحسن، وقد قالوا: "دليل عقل المرء في اختياره".
أحسن الأسدي الاختيار في كل شيء ، فعندما استهل كتابه (ص5) بثلاثة أبيات شعرية من أنشودة بندار الثيبي، فقد تبنى من خلالها نظرية فلسفية صادقة ، وهي أن الإنسان مخلوق عجيب، عجيب في تكوينه، وخياله، وعقله، وإبداعاته، وحياته، ومماته، وغيرها الكثير، فيقول:
أرى المرءَ مخـلوقاً عجيباً وإنما
تقلُّبُهُ في العيش كالطيف في الحُلْمِ
إذا أنعم المــولى عليه بنوره
ورفَّ به إشـراقُـهُ رفّـة النَّجْمِ
تراه مشعًا يُســتضاء بنورِهِ
وأيامُه تــجري به عَذْبةَ الطعمِ
قدّم الأستاذ الشاعر بعدها كلمة ضافية للكتاب (ص6-13)، وشد ما لفت انتباهي في كلمة الكتاب، المقطوعة المترجمة لصولون(Solon) المشرع الحكيم في العطف على الفقراء، (ص8) والتي هي درس في الأخلاق يصلح لكل زمان ومكان ، مما جعله يخفّف وطأة الضرائب عنهم، وهي تذكرني بزهديات أبي العتاهية، وقد أبدع شاعرنا في ترجمتها، حتى غدت قطعة شعرية عربية صرفة من تأليفه ، بألفاظها ومعانيها، وسبكها، فيقول:
لا تنقصــنَّ إذا أرد ت العــدل من شأن الفقيرِ
أو تنقصنَّ مـن الـذي لم يمتلكْ شَرْوَى نقيـرِ
فلربَّ ذي نَشَبٍ غـدا في الفقر أحقرَ من حقيرِ
فينام مــن بعـد الوثيــر من الفراش على الحصيرِ
هي سنَّـــة الأيـــام ما تنفكُّ تــأتي بالعسيرِ
وعلى ذكر صولون ، يورد له أستاذنا الشاعر ثلاثة أبيات (ص27) خلتها قد قيلت في شعوب الأمة العربية المعاصرة وحكّامها ؛ إذ هي مطابقة لأوضاعهم الآنية، واصفة حالهم، وفيها يقول:
ضعفتم فعانيتم فما بــالكم إذن
تلومون ربَّ الكون في ذي المصائبِ
وحكامكم ســودتموهم عليكمُ
فلما استبدوا واعتلَوْا في المــراتبِ
وضعتم لكم أغلالهم في رقـابكمْ
بأيـــديكم فلتلدموا كالنوادبِ
وما أجمل القصيدة وأروعها التي أهداها الأستاذ إلى ربّة الشعر العاشرة ، كما أسماها أفلاطون ، ألا وهي الشاعرة سافو، وقد تخيّل نفسه واقفا "تحت عنبة تظلل شباك دارها منشدا لها "سيرانادا" ،أي أغنية مسائية كأغاني التروبادور ، راجيًا أن تليق بمقامها الرفيع". (ص9-13) ويظهر جلياً حبّ شاعرنا لها وإعجابه بها، وكأن روحه قد اتحدت مع شاعرة الغناء الأولى سافو، فهو معجب بها، وبسحر ألفاظها ومعانيها، ورقتها وعزفها على قيثارتها.
بعد ذلك، وتحت عنوان " إشراقة الشعر الغنائي اليوناني" يبحر أستاذنا حتى نهاية الكتاب، في خضمّ محيط زاخر بالشعراء اليونانيين، مهتديا في اتجاهاته ببوصلة أحاسيسه المرهفة الشاعرة، وروحه العذبة، وثقافته الواسعة، وشاعريته الأصيلة.
والحق، إن أستاذنا الشاعر قد فاقت إبداعاته الشعرية منها والنثرية، الأصل المترجم؛ فما ترجمه من ألفاظ قد صبغها بنفسيته هو، وصدرت عن إحساسه هو. وهذا واضح وضوح الشمس في المقطوعات الأربع التي ترجمها من مختارات ميشال ريتا مارتين في كتابه " The World’s Love Poetry " للشاعر أسكليبيادس (ص27-30).
انظر معي الفرق بين سعود الأسدي حين يكون ناثرا، وحين يكون شاعرا، وذلك في خطاب ألكايوس إلى سافو، وردها عليه (ص26 و 33):
أي سافو ! يا ذات التاج القرنفلي
يا طاهرة! يا ذات الابتسامة العذبة
أريد أن أحدثك عن أمر
ولكن الحياء يمنعني من أن أنطق به
وكان جوابها:
لو كانت رغباتك طيبة نبيلة
ولو كنت تريد ألا ينطق لسانك بما هو دنيء
لما أسدل الحياء على عينيك غشاوة
ولأفصحت عن رغباتك الطيبة العادلة
انظر هذا الكلام منظوما:
يا منية النفس يا سافو متوجة ً
لك ابتسامةُ زهرِ الروضةِ الخَضِلِ
ما أبتغي منك إنّي لا أبوحُ به
فإن بـوحي به يدعو إلى الخَجَلِ
فأجابته بقولها:
لو كان ما تبتغي أمرا له صلة ٌ
بما يشرِّفُ من قـولٍ ومن عَمَلِ
لما خجلتَ به لكنْ دنـاءتُهُ
وأنت أدرى بهـا أدّتْ إلى الخَجَلِ
حقًّا، إن من الشعر لحكمة.
بعد سافو ينقلنا الأستاذ الشاعر سعود الأسدي إلى هوميرس وهسيودس (ص44-48) وبعدهما إلى ألكايوس (ص49-51) معرجاً على أرخيلوخوس وثيوجنيس (ص52-53). ويقف وقفة طويلة نسبيا عند أناكريون شاعر الحب والخمرة (ص54-63)، موردًا له وبلغة شاعرية وأحاسيس جيّاشة، قصائد عديدة أروعها -برأيي- قصيدة "الشيخ على لسان فتاة" (ص59)، دون أن يقلل كلامي هذا من قصيدة "تكيُّف" (ص61).
وكم كان أستاذنا موفقا حين قارن بين أشعار أناكريون وعمر الخيام (ص54-55)؛ في قول الأول (أناكريون):
إن يومي وشراب الخمر لي
والغد المجهول بابٌ مقفـلُ
وأرى الجاهل قـد يشغله
همُّ مـا يـأتي به المستقبلُ
والغد الآتي سيمضي مثلما
أمسِ ولّى وهمومـي ترحلُ
والذي يشغلُ بـالي خمرةٌ
وفتــاة ٌغَضَّــةٌ لا أجملُ
هذه حلمي وتلكمْ سلوتي
وبشــيءٍآخـرٍ لا أُشغلُ
وقول الآخر (عمر الخيام):
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بـآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لــذاته
فليس في طبع الليالي الأمـان
وبعدها يأتي بإيجاز على ترجمة مقتضبة لترباندر وألكمان وأريون (ص64-70)، يعرج بعد ذلك على شعر الجوقات، ذاكرا ستاسكرس (ص73)، وسيمونيدس (ص74)، والذي بلغ الأوج في قصيدة "بعض النساء" ،ستة وخمسين بيتاً، وقد قسّم فيها النساء إلى ستة أصناف، وهي من أجمل القصائد لحسن سبكها ، وعذوبة ألفاظها، وحقيقة معانيها، ودقة وصفها (ص75-78)، أكتفي باقتطاف أول بيت من كل مقطوعة لتشويق القارئ إلى الاطلاع عليها كلها:
هــنّ النساء ُإذا ما شئتَ معرفةً
فاعلمْ يقيناً وكُنْ مثلي على حـذر ِ
هنـاكَ خنزيرة ٌمنهــنّ والـدةٌ
وَوُلْـدُها مثلها يسعَوْن في القـذر ِ
هنــاك ثـانية منهـن ثعلبـة
قد أرضعت من حليب المكر ِ في الصغرِ
وتلك ثالثة لا شـــيء يعجبها
قد حمَّلت زوجــها عبئا على الدَّبَرِ
وتلك رابعة قد صــاغ خالقهـا
منها النموذج من قشّ ومن مَــدَرِ
وتلك خامسة لغز وقـد خُلِقَتْ
لنا بطبعين حــــازا حيرة البصر
ختامهن هي الفضلى وقد دأبت
كنحلة تجتني أرْيـــــًا من الزَّهَرِ
ومن ثم يتحدث عن باكيليدس (ص79-80)، وبندار (ص81-84)، ويورد أنشودة أطفال لشاعر مجهول (ص85).
ينتقل بعدها إلى أناشيد الرعاة (ص87-96) مكرسا، وبحق، ثماني صفحات لأبي الصُّوَر والأشعار الرعوية، ألا وهو الشاعر ثيوقريطس (ص89-96)، وأجمل ما فيها القصيدة الحوارية "مراودة الصبية" (ص92-96)، المأخوذة من كتاب "Erotic Poetry"، الذي جمعه وليم كول، أقتطف للقارئ فاتحتها وخاتمتها:
– الصبية: كيف وقعت هيلين الذكية في يد عاشق فلاح مثلك؟
– دافنس: كلا؛ فإن هيلين الحقيقية كانت تقبّلني منذ لحظة.
– الصبية: لا تفتخر أيها الشبق! وهل هناك أتفه من القبلة؟
– دافنس: ومع ذلك فإن في التافه اللذيذ نعمة وأي نعمة.
...
– الصبية: لتغفري لي يا أرتميس! فالناسكة حنثت بقسمها. أواه لي!!
– دافنس: الحب، وحب الأم، ذلك ما وجب بين البقرة وعجلها.
– الصبية: أواه لي!
– دافنس: كوني امرأة! كوني أمًّا! فإنك لست بِكرا بعد اليوم.
ينهي الشاعر سعود الأسدي كتابه بصفحتين موجزتين عن تاريخ الثقافة والعلم والفن في العصر الهليّني (ص97-98)، خاتما كتابه بأربع صفحات عن مدرسة الشعر الإسكندري (ص99-102).
أما الصفحة الأخيرة من الكتاب (ص103)، فهي قصيدة جميلة أبدع شاعرنا بترجمتها، وترويضها للغتنا، وهي بعنوان "قوة الجمال" لشاعر يوناني مجهول، في تمجيد الطبيعة، وما وهبته للمخلوقات من حيوانات وطيور، ونساء ورجال، جاءت ألفاظها منسابة، سلسة، خفيفة الظل، مطلعها:
نعم الطبيعة إذ تعطي وإذ تهــبُ
فهي السخية تسخو فوق ما يجبُ
إن المصادر التي اعتمدها الشاعر، وأثبتها في نهاية الكتاب (ص104-105)، لتدل دون شك على سعة اطلاع، وقدرة في البحث والتنقيب، وهي في اللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والعبرية؛ مع أنه كان ينبغي عليه أن يثبتها خلال بحثه، عند الاقتباس منها؛ ولكن يشفع له ما قاله في ختام كتابه: "... وقد نوهت بأشهر الشعراء الغنائيين، وترجمت بعض أشعارهم، ولم أستوعبهم بالطبع جميعا لكثرتهم، كما أنني لا أدّعي أنني عالجت جميع جوانبهم، وما كتبته عنهم لم يكن دراسة تفصيلية متخصصة؛ بل معالجات بدافع رغبة ذاتية ممتعة، ونظرة سريعة خاصة لشعراء أحببتهم وأعجبت بهم، وأرجو أن يشاركني القارئ الكريم ذلك الحب وهذا الإعجاب، والسلام" (ص102).
أطال الله في عمرك، أبا تميم، وبارك فيه؛ لتتحفنا دائما بما يتفتق عنه ذهنك المتقد، وشاعريتك الفياضة.
مشاركة منتدى
24 شباط (فبراير) 2006, 09:29, بقلم روان
استاذ رضا اغبارية وردة الاساتذة أفتخر بك كمعلم لانك وسام يعتز به ويرفع به الرأس بك أرفع رأسي واتخذك كاأبا لي او نورا لتينر دربي العلمي والادبي الطويل بنصائحك ومواعظك أستفيد. الله يوفقك ويديمك للمجتع العربي