الخميس ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٤

معلمون تحت الحصار

معاذ عبد القادر اشتيوي ـ نابلس ـ فلسطين

لم يبقى شيئا في هذا الوطن إلا حاربه، فحرق الزيتون، وجرف الزعتر، وهدم البيوت، وروع الأطفال، وأعاق مسيرة العلم، إلا أن هذا الشعب أبى أن يكون القلم الذي يكتب به دون أن يعترض فبإرادته الصلبة لثرى الوطن، وتصميمه على مواجهة التحديات صمد واستمر في مسيرة النضال، فلم يكن العلم أوفر حظا من غيره من أبناء الشعب ولم تكن معاناته بأقل درجة من اخوته وأقرانه.

في كل يوم ومع بزوغ فجر كل صباح أخرج من قرية كفر قدوم التي تبعد عشرة كيلو مترات غرب نابلس سيرا على الأقدام من بين أشجار الزيتون ومتسلقا الجبال متوجها لمكان عملي كمعلم في مدرسة نابلس الصناعية بمدينة نابلس متحديا الحواجز وغير آبه بالمخاطر لأقدم رسالة نبيلة تجاه طلابي وأبناء شعبي لأعود بالمساء مرتاح الضمير وأواجه نفس الصعوبات في اليوم التالي .

إلا أن ذلك اليوم كان مختلفا، لا زلت أذكره بكل وضوح، بكل حرقة وألم ،يوم خميس من شهر شباط عام 2002 وأثناء توجهي لمكان عملي في نابلس، في يوم صاف والشمس تبعث أشعتها الحارة والغبار يلوح بالأفق والناس يلهثون في الجبال محاولا بشكل جاهد العبور سيرا على الأقدام قبل وصول جنود الاحتلال الذين يبدأون بإطلاق الأعيرة النارية بمجرد وصولهم ودونما سابق إنذار باتجاه المواطنين ومنهم بالطبع الطلاب وزملائي المعلمون، تمكنت من الدخول بصعوبة لمدينة نابلس وتوجهت مباشرة للمدرسة وأثناء عودتي وقع معي حادث لن أنساه طوال حياتي، حيث سلكت الطريق الوعرة (الجبلية ) ما بين قرية صره وقرية جيت حيث علمت أن كل المسالك الأخرى مغلقة بشكل كامل من قبل المحتلين ولم يكن أمامي من سبيل سوى أن اسلك هذه الطريق رغم معرفتي المسبقة بخطورتها وتمركز الجنود الصهاينة في موقع لاقتناص كل من يقترب أو يسلك هذه الطريق إلا أنه لم يكن لدي أية أخبار.
ولفت انتباهي قلة الناس الذين سلكوا هذه الطريق خوفا على حياتهم، لاحظت أمامي شابا في الثلاثينات من عمره يمشي مسرعا فلحقت به وبدأنا نستأنس ببعضنا للقضاء على الخوف ووحشة الطريق ولنسس العناء والجهد والتعب الذي لاقانا أثناء المسير.

وما هي إلا لحظات حين شعرنا بأننا مراقبون من قبل الجنود الصهاينة الذين بدءوا بالصراخ علينا وطالبونا بالعودة من مكان بعيد ولم يمهلونا حتى بدأوا بإطلاق النار باتجاهنا رغم علمهم الأكيد بأننا عائدون أدراجنا ولا يبدو علينا إلا أننا مدنيون عزل وما هي إلا طرفة عين حتى وجدت الشاب ملقى أمامي فمازحته قائلا: هل وقعت خوفا من صوت الرصاص، فلم يجبني فأعدت السؤال فلم أجد جوابا، وعند اقترابي لمساعدته على النهوض وجدته مضرجا بدمائه ذات اللون الأحمر القاني، فعرفت أنه أصيب على الفور، سحبته تحت شجرة قريبة والجنود يواصلون إطلاق النار باتجاهنا، ولاحظت أنه قد أصيب بخاصرته ويده وإصابته بليغة وحاولت جاهدا إسعافه، واتصلت بالإسعاف رغم علمي الأكيد باستحالة وصوله إلى مكاننا وحاولت الاتصال ببعض أصدقائي، ومر وقت طويل قبل إن يصل شخص معه حمار فصرخت طالبا المساعدة لنقله إلى الشارع العام لإبعاده عن منطقة الخطر، وقمنا بنقله إلى منزل في قرية صره حيث ساعدنا أبناء القرية لنقله إلى مستشفى رفيديا بنابلس ولم تصل سيارة الإسعاف أبدا، وقفت انتظر خروجه لأهنأه بالسلامة وإذا بالطبيب يخرج من غرفة الطوارئ ليعلمني أن الشاب قد استشهد على الفور، وذنبه الوحيد أنه تاجر يبيع الزعتر ليعيل أسرته، فاستشهد أحمد عيد من قرية جينصافوط بعد أن روى أشتال الزعتر بدمائه.

معاذ عبد القادر اشتيوي ـ نابلس ـ فلسطين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى