ملامح القضية الفلسطينية في أدب المهجريين
– جمال طالبي قره قشلاقی، طالب دکتوراة فی قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة أصفهان.
الملخص:
تناول هذا المقال إحدى أهم القضايا العربية والإسلامية في الأدب المهجري وهي قضية فلسطين. فإن الأديب المهجري بالرغم من بعده عن الوطن العربي ومعاناته من قسوة الحياة في بلاد الغربة، ظلّ يتعاطف مع إخوانه الذين آثروا البقاء في أوطانهم وتحملوا آلاماً كثيرة لا تطاق من قبل المستعمرين والمحتلين الذين ساموهم سوء الحال.كان أدباء المهجر يتابعون أخبار الوطن العربيّ وقد تنبهوا إلی الخطر المحدق بالبلاد العربية من قبل الصهاينة ورفعوا أصواتهم ليلفتوا انتباه حكّام العرب إلی الدسائس التي تحاك ضدهم وأشادوا بكفاح أبناء فلسطين وثوراتهم المتواصلة ونددوا بالإستعمار البريطاني واعتبروا ما حل بالشعب الفلسطيني مؤامرة قد حيكت من قبله. وفي هذه الدراسة تابعنا مسألة فلسطين في الأدب المهجري من ثماني جهات وهي :
1-التنبيه إلى الخطر الصهيوني في وقت مبكر 2-تصوير آلام الشعب الفلسطيني ومآسيه 3- إدانة عدوانية الصهاينة وكشف زيفها 4-التنديد بتقصير العرب وحكامهم في الدفاع عن فلسطين 5-تهديد المحتلين والدعوة إلى النضال 6-التنديد بالإنكليز من أجل مساعدتهم للصهاينة على إقامة كيان لهم في فلسطين 7- ضرورة الوحدة العربية الإسلامية 8-اقتراح تشكيل دولة يهودية في مكان آخر.
الکلمات الدليلية: فلسطين، أدب المهجر، المقاومة، الخطر الصهيوني.
المقدمة:
قلما نری في التاريخ أمة جرى عليها ما جرى علی الشعب الفلسطيني، من اغتصاب أراضيه وتشريده منها. غير أن مأساتهم التي تصدّعت لها القلوب وانهالت من أجلها الدموع كانت مرتعاً خصباً للكتاب والشعراء داخل الأقطار العربية والإسلامية وخارجها.
عندما اقترح بلفور وزير الخارجية البريطاني عام 1917م تشكيل دولة يهودية في فلسطين قامت الاحتجاجات ضدّه في الأراضي الفلسطينية وخارجها، ولعب الأدب دوراً هاماً في هذا المجال، لأن الشعراء والكتاب أخذوا ينظمون القصائد ويدبّجون المقالات مناهضين العدوان الصهيوني.
والسبب الرئيسي الذي دفعنا إلى دراسة هذا الموضوع، أن دارسي الأدب المهجري اعتنوا بدراسة هذا الأدب من زوايا مختلفة، وبذلوا في ذلك جهوداً متضافرةً، ولكن الحظّ الأوفر من تلك الجهود صرف إلى دراسة الحنين في أدب المهجريين، والإتجاه القصصي والتأملي، والظاهرة القومية في أدبهم. غير أن القضية الفلسطينية التي تشكل جانباً هامّاً من الظاهرة القومية في أدبهم لم تحظَ بعناية كبيرة. فإننا حين ندرس تلك الآثار والمؤلفات المعتنية بأدب المهجريين نجد أن هؤلاء الدارسين اكتفوا بإشارات عابرة إلی هذا الموضوع ولم يعطوه حقّه من الدراسة والتحليل كما ينبغي. والذي يراجع ما كتب عن القضية الفلسطينية يجد هناك ايضاحات مختزلة اقتصرت على عدّة اسطر وبعض الشواهد الشعرية.
تتضح أهمية هذه المسألة عندما يجد القارئ لسيرتهم أن أكثر الشعراء المهاجرين كانوا من المسيحيين العرب الذين هاجروا إلى القارة الأمريكية وقلما نرى بينهم من كان يدين بدين الإسلام. كما أننا ما وجدنا من بينهم من كانت فلسطين مسقط رأسه، وهذا يعكس مدى القيم الخلقية والإنسانية في أدبهم. ولذلك ما تهدف إليه هذه الدراسة المتواضعة هو تبيين مرتكزات القضية الفلسطينية وملامحها في أدب المهجريين. وبما أن القضية الفلسطينية في أدب المهجريين تعد من الأدب الملتزم، إذاً فلابد لنا أن نتطرق إلی تعريف الإلتزام في الأدب وخصائصه.
الالتزام فی أدب المهجريين:
إذا کان مفهوم الالتزام مشارکة الشاعر و الأديب «مشارکات واعية فی القضايا الإنسانية الکبری السياسية و الإجتماعية و الفکرية»[1] فإنّ کثير من شعراء المهجر و أدباءه يقعون فی مقدمة الشعراء الملتزمين بالمعنی الصحيح لهذه الکلمة.
لم يشهد القرن العشرون مأساة کوت قلوب الإنسانية، أکبر من مأساة الفلسطينيين الذين أخرجوا من مسقط رأسهم و احتلّ العدوّ الغاصب أراضيهم، فانعکست أصداء هذه المأساة فی أدب کثير من المهجريين الذين لم يکن فلسطين موطنهم،.لذلک اتخذت قضية فلسطين طابعاً انسانياً فی نتاجاتهم الفکرية.هؤلاء الشعراء و الأدباء کانوا يشعرون بالمسؤولية أمام المجتمع الذی ينتمون إليه و أمام الإنسانية جمعاء،و کانوا يحاولون أن يتخذوا موقفاً صريحاً إزاء ما يحدث حول فلسطين علی الصعيد الدولی و الإقليمی.
لم يکن التزام شعراء المهجر و أدبائه مجرد تأييد نظری للفلسطينيين،فإنّما کان سعياً حثيثاً لتحقيق آمالهم و محاولة تغيير الواقع الراهن.فلذلک خرجت محاولاتهم من الإطار الفکری و أخذت صورة فعلية تظهر فی طيات نتاجاتهم الغزيرة.و من هنا کان الالتزام عندهم«مرتبطاً بالعقيدة منبثقاً من شدة الإيمان بها صادراً فی جميع أشکاله و أحواله عن ايديولوجية معينة يدين بها الفکر الملتزم»[2]
فلسطين في أدب المهجريين:
إن القضية الفلسطينية تعدّ أكبر تحدّ واجهته الأمة العربية الإسلامية في العصر الحديث، وقد حظيت باهتمام الأديب العربي منذ وعد بلفور الذي إعترف بحق اليهود المزعوم في إنشاء وطن لهم في أرض فلسطين وقد جرّ هذا الوعد مآسٍ ومصائب كثيرة علی الشعب الفلسطيني والأمة العربية. وشعراء المهجر تابعوا القضايا التي مرت بوطنهم منذ ساعة رحيلهم عنه خاصةً قضيّة فلسطين. «ومع مأساة فلسطين انسكبت شكوى الإنسان العربي بحمىً مخيفة، لقد كان جرحه ينزف باستمرار مأساوي مرعب سيولاً من الكلمات المتمردة المعذبة وكان ماضيه الذي يمتزج بشبح الأرض العذراء المنسرحة الشاكية يموسق أغنيته للأرض الأم».[3]
إن القضية الفلسطينية شغلت العقل العربي وألهمت شعراءه وكتّابه من المشرق إلى المغرب وهذا يدل علی الأهمية البالغة التي تمتلكها هذه الأرض المقدسة في قلب الأمة العربية والإسلامية. إن الإبداعات الشعرية والنثرية تعبر عن تألم الأدباء من العدوان الصهيوني ومن إعتدائهم على فلذة عزيزة من الوطن العربي وتؤكد مساندة الشعوب العربية الأخری لفلسطين لإسترجاع عزتها وسيادتها. وهذه القضية هي خير مثال لصيحة أطلقها أدباء العرب في وجه عدو مشترك.
ولقد احتلت قضية فلسطين مكاناً واسعاً في أدب المهجريين، «إذ لا يكاد يخلو نصٌ يقدمه شاعر من الشعراء المبدعين من فلسطين ومما يعانيه أهلها من ظلم الصهاينة وجورهم حتی إننا نری بعض القصائد تخرج عن الإطار الفني في صياغتها. وما ذلك إلا نتيجةً للحماسة الفائقة والحمية الصادقة التي تعتري الشاعر عندما يتعرض لفلسطين وأهلها. وهذا ليس غريباً لأن الغصن وإن إمتد خارج دائرة شجرته إلا أنه يظل في حنين دائم إلى جذوره التي تهبه عناصر الحياة».[4]
إنّ أدباء المهجر كانوا يهتمون بالقضية الفلسطينية إهتماماً خالصاً وكانوا يسعون ليميطوا اللثام عن المؤامرات البشعة التي تضمرها الصهاينة للعرب والمسلمين، وقد أدّوا رسالتهم في هذا المضمار خير ما تؤدّی رسالة. ولكن في آذان الملوك صمم وعلى أبصارهم غشاوة.
لم يکن جلّ اهتمام أدباء المهجر مصروفاً إلی تصوير أوجاع الفلسطينيين و المشارکة فی آلامهم، بل إنهم استوعبوا قضية الفلسطين فی جميع جوانبها مؤکدين تضامنهم مع الشعب الفلسطينی المظلوم.و فيما يأتی، نشير إلی أهم ملامح قضية فلسطين فی أدب المهجريين:
1-التنبيه في وقت مبكر إلى الخطر الصهيوني:
منذ بداية القرن العشرين نری أن كثيراً من الشعراء والأدباء قد تنبّهوا إلی الخطر المحدق بالعرب والمسلمين من قبل الصهاينة ولم يكن أدباء المهجر بمعزل عن ذلك حتی نری أن أدبهم قد طبع بميزة وهي التنبيه إلی هذا الخطر.
من الشعراء والأدباء الذين تنبهوا مبكراً للخطر الصهيوني واستشعروا ما تحوم حول الأرض المقدسة من أهوال، الشاعر المهجري ابو الفضل الوليد. وقد أولی القضية الفلسطينية اهتماماً كثيراً ونری ديوانه زاخراً بالقصائد التي تعالج اغتصاب فلسطين. ونری فيها أنه كان يتنبأ نوايا اليهود والصهاينة ومطامعهم العدوانية ومؤامرة العدوان ضد الشعب الفلسطيني الإسلامي في الأربعينات وجاء في أشعاره:[5]
فلا تنامي علي الضيم ولاتقفي حيری فروح صلاح الدين ترعاك
من الفرنج أری الإسلام فی خطرٍ ولليهود انتهاک بعد انهاک
و يظهر من البيتين المذکورين أن أبا الفضل الوليد کان واعياً إزاء الأحداث و کان يرصدها بعيون يقظة، و يستشعر الخطر المحدق من قبل الدول الأروبية ضدّ الشعب الفلسطينی.ومن جانب آخر نری الشاعر، کأنّه يريد أن ينبّه إلی مسألتين.الأولی:إن الإسلام لا يقبل الظلم و العدوان.و الشاعر يستدعی لذلک الشخصيات البطولية فی تاريخ الإسلام التی کانت لهم دور ريادی فی الفتوحات الإسلامية حتّی يحرّض الشعب و الدول العربية و الإسلامية لتصدی العدوان الذی يکمن لهم.الثانية:يشير الشاعر إلی اليهود و ما کان لهم من نقض العهود زمن الرسول الأعظم(ص) و إيذاء الرسول و المسلمين.و بذلک يعکس مدی التزامه و تضامنه مع الشعوب العربية و الإسلامية.
والأديب الآخر الذي ساهم في توعية الشعب العربي لنيّات الإنجليز والصهاينة المغرضة هو الكاتب الرحالة أمين الريحاني الذي تجول في كثير من البلدان العربية في الشرق الأوسط واطلع علی أحوالها عن كثب. وهو أدرك خطر الصهيونية، قبل أن تولد إسرائيل.يتجلّی اهتمام الريحانی بقضية الفلسطين فی مقالاته التی کان ينشرها فی الصحف و المجلات، فيقول في إحدی مقالاته محرّضاً الشعب العربی و الإسلامی: «الصهيونية متحدة فعلينا بالإتحاد.الصهيونية منظمة فعلينا بالتنظيم. الصهيونية مجاهدة فعلينا بالجهاد. الصهيونية شديدة الإيمان فعلينا بإيماننا العربي القومي نوحده ونعززه. الصهيونية غنية وما نحن بفقراء. وللصهيونية دعاية كبيرة في العالم فعلينا أن نقاومها بدعاية مثلها. »[6]
يبدو أن الريحانی يدعو فی هذه المقالة إلی الوحدة و التضامن ضدّ الصهاينة.غير أن هذه المقالة ترجع إلی عدّة سنِن قبل تشکيل الدولة الصهيونية.فقد اهتم الريحاني بالخطر الصهيوني منذ مطلع القرن، فكتب وحاضر في أميركا وفي البلاد العربية محذراً من الأطماع الإستيطانية في فلسطين، وندّد بوعد بلفور وبنكوص الدول العربية أمام الخطر المحدق بهم قائلاً: «عما يعترينا نحن العرب من النقص والضعف والفساد مما أدی بنا إلی ما نحن اليوم فيه»[7]
2-تصوير آلام الشعب الفلسطيني ومآسيه:
إنّ إغتصاب أرض فلسطين وإخراج أهلها منها لمأساة عظيمة متعددة الجوانب، وكل جانب منها يستأهل أن يكون موضوعاً لعشرات القصائد والقصص والمقالات فاستعان أدباء المهجر بقرائحهم الوقادة وصوّروا كثيراً من تلك المآسي في قصائد وقصص رائعة.من هؤلا الأدباء الشاعر القروي يقول في قصيدة له مخاطباً الصهاينة:[8]
تجني علي وطن المسيح مدمراً
وتذيع أنك في البلاد معمر
يعتبر الصهاينة أنفسهم معمرين مصلحين في الأرض بينما لم يتركوا في فلسطين إلا الخراب والدمار. ولما حلّت النكبة بأرض فلسطين وأخذ أهلها ينزحون عنها شاردين، لاجئين فتحول صوت الشعراء والأدباء صراخاً يدوی فی مشارق الأرض ومغاربها يستفسر الوجدان الإنسانی ويستنهض الضمير العربی الإسلامی و الانسانی. فانسحب الشعر من ساحة العقل والتأمل ليدخل واحة العاطفة والإحساس ليکون أبلغ فی التعبير عن مأساة الشعب الفلسطينی. ونراه في موضع آخر يهجو الشاعر العبراني روبين الذي نشر قصيدةً في جريدة فلسطنية يذم فيها العرب وقد خاطبه قائلاً:[9]
روبين تلك يراعة أم حية بالحبر تكتب أم بسمّ تقطر؟شكراً علی المدح الذي أسديتة إن اللئيم علی المذمة يشكرترمي الأعارب بالنذالة مثلما يرمي الكواكب بالسفالة بحتر
و هنا ينبّهنا الشاعر القروی أن القضية الفلسطينية قد خرجت من إطار السياسة و دخلت فی عوالم الأدب عامة و الشعر خاصة، و هذا يبدو واضحاً من هجاء روبين الشاعر العبرانی، العرب و ذمّهم.و لذلک نری القروی يغلی غضبه و تجيش عاطفته،و يتّهمه بأنه حيّة يلدغ العرب و يشکره من أجل هجائه و مذمّته، فکأنه يشير إلی قول الشاعر العربی:
و لقد أمرّ علی اللئيم يسبّنیفمضيت ثمّت قلت لا يعنينی
كان ايليا أبي ماضي من شعراء المهجر الذين بذلوا إهتماماً بالغاً لمسألة فلسطين ولتصوير آلآم الشعب الفلسطينی معاناته والمصائب التي يتحملها. ومن أفضل قصائده القومية، قصيدة قالها في فلسطين وعنوانها «تأبي فلسطين أن تذعنا»وقدّم فيها صورة رائعة للمعاناة التی عاشها العرب فی فلسطين، نراه يقول:[10]
فخطبُ فلسطين خطبُ العليوما كان رزء العلى هيّناًو كيف يزور الكري أعيناًتري حولها للرّدي أعيناً؟وكيف تطيبُ الحياةُ لقومٍعليهم دروب المنىبلادهم عرضة للضياعوأمتهم عرضة للفنايريد اليهود بأن يصلبوهاوتأبى فلسطين أن تذعناوتأبى المروءة في أهلهاوتأبى السيوف وتأبى القنا
يصف الشاعر في هذه القصيدة حال الشعب الفلسطينی وأن خطبه وبلاءه هو خطب الله سبحانه تعالی وهو ليس بقليلٍ ولا هينٍ وأن الشعب الفلسطينی لم يذق للنوم طعماً، کيف ينام وعيون الموت تحدق به من کل جانب وکيف تهنأ لهم الحياة وأن آمالهم سدّت أمامها الطرقُ. بلادهم أمست عرضة للضياع والهلاک وشعبهم يهدده الفناء والدمار. کيف يطيب العيش لأمة يريد اليهود أن يصلبوها. ولکنها أمةٌ أبيةٌ لاترضخ بسهولة لهذه المقاصد الشيطانية والمروؤة التی تحملها بين جنبيها تأبی علی أن تبقی سيوفها مغمدةً ورماحها مطروحةً.
کما ذکرنا آنفاً أن أبا الفضل الوليد الشاعر المسلم کان من شعراء المهجر الذين بذلوا أقصی جهودهم ليصوروا آلآم الشعب الفلسطينی فی أشعارهم، يقول ابو الفضل الوليد فی قصيدة له وکأنه يعزف بقيثارته نغمةً حزينةً:[11]
و كم عليها دماء المسلمين جرت وكم تساقط فيها من سراياكيا قدس ، مكّة قد آستك باكيةً لما أتاه بنفي الدين منعاكإن الرزيئة كبرى لا عزاء لها حتّى اليهودي أخزانا وأخزاكعلى نبيهم غدا في أرضهم أسراً ولم يكن في حماهم غير هتّاكيا حسرتا ويا ويلاه من زمنٍ أضرى الثعالب فانتاشت بقاياكمن إرثه يحرم الفادي له بدمٍ ولليهود إحتكام بعد إملاك
يرثی أبو الفضل الوليد لدماء المسلمين التی إنسابت فوق أرضهم وللبيوت التی تهدمت علی رؤوس ساکنيها ويری أن ما حل بفلسطين رزية کبری حتی أن مکة أخذت تؤاسيها باکيةً لما سمعت بنعيها. ويعتقد الشاعر أن الجانب المزری فی هذه المصيبة التی نزلت علی العرب أنها جاءت من قوم کانوا محتقرين طوال التاريخ وهو يقول:«حتی اليهودی أخزانا وأخزاک» ويتحسر من زمانٍ أمست فيه الثعالب (اليهود) کالضواری تهتک وتفتک من دون أن يقف أمامها اسد ليردّ عها عما تفعل.
توفيق بربر شاعر آخر من شعراء المهجر وقد أعطی فلسطين والعرب جزءأً من حياته وأدبه. يشبّه توفيق بربر في إحدی قصائده حال الأمة العربية بالكبد التي تقطّعت وإنتثرت وهي صامتة لم تنبس بكلمةٍ لما حلّ بفلذتها المقدسة ولكنه يری أن هذا السكوت ليس إلا هوادةً. والشعب العربي الإسلامي يستيقظ من سباته رادّاً العدوّ من اراضيه. كذلك يأمل الشاعر أن تلتحم هذه القطع وتنزل علی العدوّ صواعق تغمره بالنار والموت:[12]
أرى قطعاً من أمتي في عرائه نثرن كأشلاء وقد كنّ أكبدارويداً فلسطين فليلكَ ينجلي وما أقرب اليوم الذي كان أبعداسكتنا عن الباغي اللئيم هوادةً وقد غرّه منا الندى فتمرداسننقض في الجلّى عليهم صواعقاً ونغمرهم بالنار والعار والردى
و الشاعر يصور بصورة رائعة تمزق الأمةالعربية وتشتّت شملها وتفرق كلمتها. ولكن هذا لايعود إلی الأمة العربية بنفسها بل هو من بلادة حكامها، أما الشعوب فقلوبها متضامنة وستنقض عاجلاً أم آجلاً علی عدوها وتغمره بالنار والعار.
3-كشف زيف الصهيونية وإدانة عدوانيتها:
يدّعي الصهاينة أن أجدادهم كانوا يسكنون أرض فلسطين، إذن هي ميراثهم ويحق لهم المطالبة بها. فتصدّی الأدباء لهذا الإدعاء الزائف وقاموا بتسفيهه في قصائدهم ووصفوا عمله بالاحتلال والاغتصاب. من الأدباء الذين ردّوا علی هذا الزعم الباطل إيليا ابو ماضي الذي دحض فكرة حق الغزاة في أرض فلسطين وأجابهم بأن هذه الأرض كانت سكناً لأجدادنا وسوف تبقی لأحفادنا بعدنا وأنتم تستطيعون أن تستغنوا عنها بسواها ولكننا لا غني لنا عنها ولا تحسبوا أنكم تستطيعون أن تتخذوها موطناً لكم لأنها لم تكن يوماً موطناً لكم:[13]
و كانت لأجدادنا قبلناوتبقي لأحفادنا بعدناو إن لكم بسواها غنيًوليس لنا بسواها غنيًفلا تحسبوها لكم موطناًفلم تك يوماً لكم موطنانصحناكم فارعووا وانبذوابليفور ذيّالك الأرعناو إما أبيتم فأوصيكمبأن تحملوا معكم الأكفنافإنا سنجعل من أرضنالنا وطناً ولكم وطنا
نری في هذه القصيدة أن ايليا أبا ماضي يكرر ما للعرب من حق في هذه الأرض بقوله:«وكانت لأجدادنا قبلناو...» ويهدد اليهود إن أرادوا أن يسكنوا علی هذه الأرض بقوة السلاح فإن العرب سوف يواجهونهم بمثل تلك القوة وهو ينصحهم أن لا يظنوا أنها كانت يوماً ما موطناً لهم بل هي أرض عربية، وسوف تبقی للعرب ايضاً وليس هذا مطلباً عسيراً علينا وما ترومونه أقرب إلی المحال.ثم يصعد الشاع من لهجته ويهددهم، إن لم يأخذوا بنصائحه فعليهم أن يحملوا أکفانهم معهم ويهيؤوا أنفسهم للموت.
الشاعر القروي يندّد باليهود الذين إغتصبوا فلسطين،و قصيدته"وعد بلفور"تبلغ سبعين بيتاً وفيها يمتلئ قلبه غيظاً وتشتعل حماسةً لإنقاذ الوطن السليب. هو لم يتصنّع ولو يزخرف عواطفه بل كان يتصبّب كالحمم ويندفع كالشلال.
«هو في أعاصيره ناقم على من هدروا الحق العربي في الأرض وسلّموا فلسطين رخيصةً لحفنةٍ من الغزاة على حساب شعب كامل.إنه ضد الحكومة جلالة الملكة الإنكليزية بالمطلق وضد عطوفة معاني بلفور الذي رأى أنه يمثل الحق وجوانبه الفضلى والمثلى فهو أبعد ما يكون عن الحق، بل والحق منه براء. »[14]
فيقول الشاعر القروي في هذا الشأن:[15]
الحق منك..و من وعودك أكبر فاحسب حساب الحق يا متجبرتعِدُ الوعود وتقتضي إنجازها مهج العباد،خسئت يا مستعمرعد من تشاء بما تشاء فإنما دعواك خاسرة ووعدك أخسريا مصدر الكذب الذي ما بعده كذب تعالي الحق عمّا تنشر
إنّ الشاعر القروی يهدف أساس الکيان الصهيونی معتبراً اياه کذباً، و يعتقد أنّه يسير نحو الزوال و الاضمحلال.و نری الشاعر يخاطبهم بلفظة المستعمر،و هذا أشدّ ايقاعاً عليهم، لأنّ المستعمر لابدّ له أن يترک الأرض المحتلّة إذا قام الشعب و استخدم سلاح الوحدة و الإرادة.
4-التنديد بتقصير العرب وحكامهم في الدفاع عن الحق:
كان الشاعر القروي في مقدمة من ندّدوا بسياسة حكام العرب و تقصيرهم عن مسؤوليتهم الإسلامی و الانسانی وقال في ذلك: «ما صدر بيان عن مؤتمرٍ من مؤتمراتنا أو تصريح لزعيم من زعمائها إلّا وكانت حقوق شعب فلسطين خاتمة مطافه كأنّه "و السلام عليكم ورحمة الله" ليقال إن المؤتمرين أو المدلين بالتصاريح لم يغفلوا هذه الناحية أو لأنّهم يخشون إذا هم أهملوا ذكرها، سخط الجماهير..فكأنّما هذه الحقوق قضيية فرعية بالنسبة إلی ما يعدونه القضية الجذرية الأولی بالتقديم، وهي رجوع إسرائيل عن أراضينا التي إحتلّها سنة 1967.و كأنّما هم يجعلون إصرارهم علي وضع هذا البند كلّ مرّة في جملة أو نهاية البنود التي يتّفقون عليها، منّة يمنّون بها علي الشعب الشريد وجهاداً سياسياً في سبيله لايقلّ عن الجهاد الحربي.فهل نسی هؤلاء السادة أن مأساة المآسي كلّها إنما هي احتلال فلسطين، وأنه لولا احتلال فلسطين لما احتلّ سواها. »[16]
و ما ذکرناه من الشاعر القروی واضح إلی أبعد حدّ، و ذلک لا يحتاج إلی أیّ تعليق،لأن العبارات تؤدی معناها جليّاً،فهو يتّهم زعماء العرب بالقصور عن مهمّتهم العربية و الانسانية،لأنّهم افترضوا قضية الفلسطين مسألة فرعية، بينما هی مسألة أساسية تفوق جميع القضايا العربية الإسلامية،و هی لمأساة عظيمة ينظر إليها زعماء العرب کأنه لم يحدث شئ.
و يقول ابوالفضل الوليد في هذا المضمار متسائلاً عن الذين قصّروا في سبيل وطنهم:[17]
كل شعبٍ له أرضٌ يدبّرهافيم التّصدي لمسعانا ومسعاكمن ذا يرقّ لمفجوعٍ بموطنهبين الأراذل أو من يسمع الشاكي
يشكو الشاعر في هذين البيتين من ظلم الشعب الفلسطيني ويندب الإنسانية ويسأل مسترحماً: هل من إنسانٍ يرقّ لحال شعب فجع في موطنه؟ ومن فجعوه ليسوا إلا أراذل لا يرجی منهم أيّ خيرٍ. ويبدو من ظاهر البيتين أن الشاعر يندب الإنسانية جميعاً سواءً كانوا عرباً أم غير العرب،"فإذا كان الشعب الفلسطيني مقصراً في إحتلال أرضه بيد الصهاينة فإنّ الحكام العرب اكثر تقصيراً منه لأنهم لم يواجهوا العدو ولم يدعموا الشعب الفلسطيني. بقيت آذان الحكام العرب صماء وعيونهم عمياء، لا يرون ولايسمعون إلا ما يراد لهم أن يسمعوه أو يبصروه من أسيادهم».[18]
و نری الشاعر تهزّه هذه النکبة فيذمّ زعماء الدول العربية و قادتها و ينعتهم بالخيانة و العار.لذلک لا يری بدّاً إلّا أن يدعو إلی الثورة و الانتفاضة.و نری أبا الفضل الوليد يعطی قضية الفلسطين طابعاً عربياً إسلامياً حيث يقول: «أصحيحٌ يتغلب نصف ميليون يهودي علي 70 ميليون عربي و400 ميليون مسلم؟أ صحيحٌ أن فلسطين ذهبت لقمةً سائغةً في فم المشردين،و شعباً يقف متفرجاً،أو هو ضحية الكذب والخداع وخيانة القادة والحكام؟»[19]
و يستخدم الوليد لغة السخرية فی التعريض بحکّام العرب و قادته و هو يختلف عن سائر الشعراء و الأدباء فی هذا المضمار فنراه يقول مستهزئاً بالقادة والحكام العرب:[20]
ملوكٌ ظنناهم صقوراً وعندما غزينا رأينا صاحب التاج هدهد
يحسب الشاعر حکام العرب صقوراً صعبة المراس، لكنهم في الشدائد أماطوا اللثام عن هداهد لاخير فيها ولا منفعة.و هو يتهم الحكام الذين اعتبروا أنفسهم حماة فلسطين أنهم هم الذين حالفوا امريكا واسرائيل علی ابنائهم، قائلاً: «لو لم يغدر به الذين يزعمون أنهم حماته ولا يزالون يغدرون ويحالفون اميركا واسرائيل لإبادة أبنائه».[21]
و نجد الشاعر القروي في «الأعاصير" و"الزمازم" "ينحي باللائمة كثيراً علی أعوان الأجانب من أبناء البلاد العربية الذين كانوا للدخيل سنداً ورمزاً:[22]
في فلسطين آية للرسول المنافقِسجّلت في صحائفٍ من قتام الحرائقِرتّلتهن للوری فوّهات البنادقوروتهنّ ألسنٌ من حبال المشانقيا لئاماً بعهدهم لم يقم عذر واثقكلكم جدّ آفكٍ كذبونا بصادق!
في هذه الأبيات يری الشاعر القروي أن فلسطين أصبحت علامة نستطيع أن نعرف بها الرسول المنافق المرائي من الرسول الحقيقي المجاهد وكل ما جری عليها وما رتلته بنادق الحرب وما روته حبال المشانق كشف عن زيف الحكام وعن عهودهم الكاذبة.
وهذا موسي حداد شاعر مهجريّ آخر قد أعطی فلسطين جزءاً غير يسير من أشعاره وندّد بحكام العرب وبتخاذلهم أمام تمرد الصهاينة ويصف حال الشعب الفلسطيني كيف مدّ يده للمساعدة ولكن حكام العرب نيام أو كالنيام يقول:[23]
فلسطين مدت يديها وصاحت أغيثوا فلسطين طال الهجود
5-تهديد المحتلين والدعوة إلی النضال:
ومما قام به أدباء المهجر في نضالهم الأدبي مع العدو المحتل أنهم كانوا يهددون الصهاينة ويدعون مواطنيهم إلی مقاومة العدو ومحاربته. والبعض منهم كان يعتبره المبدأ الأول لتحرير أرض فلسطين يقول أمين الريحاني في إحدی كتاباته:«و المبدأ الجوهري الأول هو مقاومة الصهيونية، فهل تستطيعون أن تقاوموها بشقاقكم يا تری، وبتخربكم، وبمطاعن بعضكم إلی بعض؟»[24]
وأنصت إلی الشاعر القروي وهو يحرض العرب علی الثورة:[25]
يا عرب، والثارات قد خلقت لكم اليوم تفتخر العلی أن تثأروايدعوك شعبك يا صلاح الدين قم تأبی المروءة أن تنام ويسهروانسي الصليبيون ما علّمتهم قبل الرحيل فعُدْ إليهم يذكرواإن تأمني خطر البحار فإنما دمع الأرامل واليتامي أخطر
يهيّج الشاعر الشعب العربی الإسلامی بأنّهم أصحاب الثأر، و التاريخ يشهد بذلک، فيذکّرهم أيامهم الخالدة و خاصة أيام صلاح الدين و ما فعله بالصليبيين. ويطلب منه أن يعود و يکرّر ضربته القاضية عليهم لأنّهم نسوا درسه و طعنوا فی فلذة من الوطن العربی الإسلامی، فمن يأمن من أخطار البحر فإن دموع اليتامی لامنجی منها وهي سوف تقوض عرش الظلم حتماً.
و يتضح وعي الشاعر ابو الفضل الوليد بالقضايا المصيرية وخاصةً قضية فلسطين في قصيدته "المقدسية" فيقول مخاطباً القدس:[26]
أنت العظيمة فوق الرمل نائمةٌ أنت الكريمة في أيام بؤساكوافاك في ليلة المعراج سيدنا محمد وكتاب الله سماكإن السيوف علي الأغماد حاقدة لأنها لم تجرد في رزاياكيمشي الأجانب في غوغائهم مرحاً ولا سكون لمن شاقته سكناك
و لا يكفي ابوالفضل ابوالوليد بالندم والبكاء أمام أطلال الذكريات في القدس،بل يدعو إلی الثورة و يعتقد أنّ السيوف إذا کانت فی أغماده فلا يجدی شيئاً و لو کانت حاقدة.فالقوة تفرض إرادتها ولا قوة بغير وحدة تدك عرش التخاذل وتزلزل جدار الإستسلام والتفرقة.هذا يثبت أنّ رؤية الوليد السياسية کانت ناضجة إزاء هذه القضية التی تتعلق بالانسانية عربياً و إسلامياً.
وهو يقول في مكان آخر:[27]
فحرّضيهم علی تقطيع سلسلةٍ هم راسفون لها ما بين أشراكبالروم ضحّي وضحّي باليهود معاً فالله ترضيه في الأضحی ضحاياك
كذلک إلياس فرحات الذی أحس بنوايا الحكومة البريطانية وهي تقدم فلسطين لقمة سائغة إلی اليهود. فأخذ يهاجم الملوك العرب لتصديقهم بوعود الغرب المزيفة وسکوتهم إزاء المظالم التی تجری فی فلسطين، فكتب ملحمة شعرية يقول فيها:[28]
يا من طغوا وتمادوا عاقدين علی وعد سخيف بناء الشمخ القببستعلمون متی حاق البلاء بكم كم في الوعود وفي الآمال من كذبسنغسل القدس من أوساخ أمتكم يا أمة الوسخ المطلي بالذهبو التل،تل أبيب سوف نتركها تلاً من الروم في بحر من اللهببنيتموها بمال السحت عاصمةً وليس يعصمكم منا سوي الهرب
هذا المقطع من القصيدة تمتلیء بالمفردات التی تحمل معانی السخط والغضب «طغوا، تمردوا، وعد سخي،أمة الوسخ...»وهی تعبر عن مدی مايحمله الشاعر في نفسه من همّ. و نری الشاعر يصفهم بالطغيان والتمادی فی غيّهم.ثم يهدّدهم بإيقاع البلاء عليهم فعندئذٍ يتضح کذب آمالهم و أمانيهم.و الشاعر ينعتهم بما عرفوا زمن النبی من الوساخة و القذارة و يعدهم بأن الشعب العربی الإسلامی سيزیل من القدس أوساخهم و سيترک تل آبيب تلّاً فی بحرٍ من النار.
وفی قصيدةٍ أخری ينظر الشاعر الياس فرحات إلى يهود نظرة احتقار وازدراء ويعتبرهم دون البشر، يقول وهو يسخر منهم:[29]
و ما شأن اليهود وكيف تعلو مع التزآر اصوات النعيبو هل صار اليهود اليوم ناساً إذن فالناس في وضع معيب
ينظر القروي إلى المستقبل ويصف واقع اليهود وصفاً دقيقاً لامساً بؤرة الجرح وكاشفاً اللثام عن أطماع اليهود، ويری أن السلام في العالم أمنية لاتحقق لأن امريكا واليهود أكبر همهما هو التسلح وبثّ النشاط في الشركات التي تولد الآلات الفتاكة فهم في الواقع يتنكرون خلف جلود ظاهرها إنسان وخلفها وحشٍ ضارٍ ومهما بلغوا في المدنية يقون بربراً بل أخس من البربر يقول:[30]
أمنية الدنيا السلام وإنما تحقيقها فرضٌ علي من يقدرهيهات والتسليح أكبر همك والوحش خلف جلودكم متنكرما روض التمساح صقل أديمه مهما تمدنتم فأنتم بربر
وينادي ابوالفضل الوليد الأمة العربية ويطلب منها أن تطهر القدس الشريفة من رجس اليهود ومن دنسهم ولاتأتمن علی قوم لاشرف لهم ولاهم يلتزمون بوعودهم ولا ذمة لهم تردعهم من الفتك بضعاف الناس، يقول في ذلك:[31]
و طهّري القدس من رجسٍ ومن دنسٍ وأصلي سيف سفّاكٍ لسفاكماذا ترجين من قومٍ بلا شرفٍ ولا عهودٍ ومنهم كلّ فتّاك
6- التنديد بالإنكليز من أجل مساعدتها للصهاينة على إقامة كيان لهم في فلسطين:
إن شعراء المهجر کانوا يعيشون فی الغرب و کانوا مطلعين تماماً علی ما يجري فی الساحة السياسية العالمية وکانوا يعلمون أيضاً أن اليهود لم يتمكنوا من أرض فلسطين إلا بمساندة الغرب لهم فی سياسته وأسلحته الفتاکة. جاء فی کتابات الياس فرحات بهذا الصدد:
هم «لا يستطيعون الوقوف في وجه العرب،و لكن الذي ساعدهم علي احتلال فلسطين وجود الإنجليز والدول الأروبية من ورائهم.أما بعد أن يخرج الإنجليز من فلسطين،فلن يكون هناك من يحميهم ويدافع عنهم،و لن يستطيعوا الوقوف في وجه العرب،إذ سرعان ما سيبتلعهم المحيط العربي،و لابد أن يتحملوا مسؤولية أعمالهم. »[32] هكذا كان يفكر فرحات،و هذا ما جعله يرفع صوته من خلال دوامة ألم النكبة قائلاً:[33]
قل للمغير علی منازلنا كالسيل ينفذ من هنا وهناحملت نفسك فوق طاقتها وركبت ويحك مركباً خشناإن لم يكن زمن يوافقنا للثأر منك سنخلق الزمنافاجعل ضريحك جاهزاً أبدا وأعد نعشك واحمل الكفنا
يهدّد الشاعر فی هذه الأبيات المغتصبين الذين أغاروا علی هذه الأرض المقدسة ويقول لهم بأنهم حمّلوا أنفسهم ما لا تطيق حمله ورکبوا مرکباً لم يلبثوا طويلاً فوقه وإذا کان الزمان لا يجارينا لنثأر منکم فإننا سوف نخلق الزمان خلقاًجديداًً واستعدوا للموت فإنه آتيكم لا محالة.
و يقول ابوالفضل الوليد:[34]
الإنكليز استبدوا واليهود بغوا
مستضحكين لدمع المسلم الباكي
إن نزوعه القومي الصادق واضح في هذا البيت ولم تغب عن بصيرته الأحداث التی تجری علی أمته وإن غابت عن بصره.و كان كمن يرصد كل ما يحدث في وطنه ليرسمه في قوافيه.فكان يفرحه ما يفرح أهله وأحبته في وطنه ويبكيه ما يبكيهم.
ومن الأدباء الذين نددوا بسياسة الإنكليز لمساعداته علی تشكيل حكومة اليهود هو الأديب المهجري ميخائيل نعيمه، يری ميخائيل أن ما قامت به الإنكليز من مساعدة اليهود ليستوطنوا أرض فلسطين عمل غير شرعي لاتجوزه الديانات السماوية وكيف يحق للإنكليز أن يدّعوا أن أجداد اليهود سكنوا أرض فلسطين فهي ملك لهم قد غصبها الفلسطينيون، وهل عاش السكسونيون امريكا وكندا واسترالية من قبل حتی يحق للإنكليز أن يستحلوها اليوم جاء في مقال له بعنوان«فلسطين مملكة يهودية»:
«فبأي شرعٍ أو دين أو حق يجوز للإنكليزي أو سواه أن يأتي بيهوديٍّ الي ساكن فلسطين ويقول له:"أجداد هذا الرجل كانوا يقطنون في هذه البلاد من ألفي سنةٍ.و هكذا فالأرض أرضه لأنه ورثها عن أجداده.أما أنت ففتّش لك عن أرض غير هذه الأرض فقد تعدّيت علي حقوق هذا الإنسان تعدِياً".فهل قطن أجداد الإنكليزي في كندا أو استراليا أو الترنسفال أو مصر أو هند أو غيرها؟و من أوحي له بحق الوراثة في تلك البلدان؟»[35]
و يعتبر ميخائيل نعيمة تشکيل دولة يهودية فی الأراضی الفلسطينية بأنّها جريمة لا تغتفر، و يعتقد أن أسباب هذه المسألة ترجع إلی الأهداف السياسية و الدينية البغيضة.أنصت إليه و هو يقول: «و الله لتلک أکبر جريمة ترتکبها انکلترا بل العالم کلّه إذا باعوا فلسطين و سکانها لليهود لمطامح سياسية أو ترهات دينية».[36]
و بهذا وقف الشعراء والأدباء المهجريون موقفاً صارماً لا غبار عليها، ضد الاستعمار البريطانی- الإسرائيلي وكان غضبهم واضحاً في شعرهم ونثرهم، وکان إعتناءهم ببيان افکارهم أکثر من إلتزامهم بالأمور الفنية فی الأدب.
7- ضرورة الوحدة العربية الإسلامية:
إن أمين الريحاني كما تنبأ بنوايا الإنكليز واليهود لتأسيس دولة اليهود علی أرض فلسطين كذلك علم أن الطريق الوحيد للخلاص من هذه الكارثة التي تنداح في سماء العالم العربي الإسلامي هي المقاومة ووحدة الأمم العربية الإسلامية وقد قسم الأمور التي تتعلق بهذه القضية الی ثلاثة أقسام: 1- إتحاد الشعب الفلسطيني والأمة العربية. 2- جهاد عام يشمل كل الأمة العربية. 3- التضحية بالنفس والنفيس في هذا السبيل.
جاء في مقاله:
«إخواني،من الأمور التي تتعلق بقضيتنا العربية ثلاثة أصبحت عندي في منزلة اليقين:أولاً:إن اتحاد عرب فلسطين-في فلسطين اتحاد ثابت وطيد لا يتزعزع،هو المثال الأعلی لما ينبغي أن يكون هدف الأمة العربية جمعاء.ثانياً:إن الجهاد في سبيل القضية الفلسطينية خصوصاً والقضية العربية عموماً جهاد شديد عميم، يخولنا أن نغتبط به. ثالثاً: إن التضحية بالدم والمال في سبيل الوطن لاتذهب اليوم سدیً. »[37]
هذه السطور التی أوردناها يکشف بوضوح عن موقف الريحانی إزاء قضية فلسطين، و تقع فی مقدمتها الدعوة إلی الوحدة و التضامن.يعتقد الريحانی أن الأمة العربية الإسلامية إذا لم تکن متحدة فلا تثمر و لا تجدی انتفاضتهم و لا تنتهی إلی تحرير الأراضی المحتلة.كما أنه كان يدعو إلی الوحدة في كثير من محاضراته التي كان يلقيها في الولايات المتحدة، يطلب من عرب فلسطين الذين ينقسمون إلی طوائف متعددة أن ينبذوا خلافاتهم القومية والقبلية ويتحدوا أمام هذا العدو المشترك وإلا فإن الكارثة ستحل لا محالة بأرض فلسطين، نراه يرفع عقيرته في إحدی هذه المحاضرات قائلاً:[38]
«الفلسطينيون والعرب عليهم أن يتوحدوا في المعركة ضد الصهيونية.و الا تستنزل بهم المصيبة والكارثة.الحسينيون وآل نشاشيبي وآل طوقان وآل عبد الهادي وغيرهم من السلائل الفلسطينية المعروفة إذا ظلوا منقسمين فستحل الكارثة بفلسطين».
والشاعر القروي يمجد الشهداء الذين أصبحوا كحبل وحلقة وصل تجمع ما تناثر من دنيا العروبة تجمع بين ما انفرد منها وكلامه يعتبر صرخة مدوية في وجه أنانية اليهود الغاشمة يقول:[39]
أكرم بحبل غدا للعرب رابطة
وعقدة وحّدت للعرب معتقدا
واضح أن القروی يعتبر الإسلام رمزاً للوحدة بين الدولالإسلامية ، و کأنه اقتبس بيته المذکور من هذه الآية الکريمة«و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا».
8- اقتراح تشكيل دولة يهودية في بلاد أخرى:
كان مقتل ملايين من اليهود-لو صح-في الحرب العالمية الثانية بيد هيتلر ذريعةً على تأسيس دولةٍ يهوديةٍ في الأراضي الفلسطينية. إن الشعراء والأدباء كانوا في مقدمة الذين قاموا بالنضال ضد هذه المسألة، واتخذوا من أدبهم مجالاً لأن يفضحوا الدولتين الإنكليزية والأمريكية. هولاء الأدباء كانوا واعين بخطورة تشكيل دولة يهودية في أرض فلسطين، لذلك قاموا بالتنديد بهذا العمل واقترحوا أمكنة أخرى لتشكيل هذه الدولة المشؤومة.
واقترح ايليا ابوماضي في قصيدته تحت عنوان"خطب فلسطين" تأسيس دولة يهودية في لندن.وكان يعتقد أن لندن أوسع لهم من القدس وأحب إليهم من القدس:[40]
فقل لليهود وأشياعهملقد خدعتكم بروق المنىألا ليت بلفور أعطاكمبلاداً له لا بلاداً لنافلندن أرحب من "قدسنا"وأنتم أحب إلى "لندنا"
ويبدو أن هناك اقتراحاً من قبل أمين الريحاني لتأسيس دولة لليهود في ولاية تكساس بأميركة جاء في مقال نشرته مجلة «فلسطين وشرق الأردن»الإنكليزية ولكنا لم نعثر علی نص الاقتراح.[41]
هذا ولا ندّعي أنّنا استوفينا المأساة الفلسطينية بجميع جوانبه في الأدب المهجري، لأنها مأساة تجل عن الوصف وكل جانب منها يستوعب لعشرات الكتب والمقالات.
النتائج:
1-إن الشعراء والأدباء المهجريين كانوا ملتزمين بكثيرٍ من القضايا الوطنية والإنسانية رغم أنهم كانوا يعيشون خارج الوطن العربي .لكنهم كانوا يتابعون قضايا وطنهم وشعبهم، وهذا يعكس مدى وعيهم ووطنيتهم.
2-كانت القضية الفلسطينة ذات طابع انساني عام، لأن الشعراء المهجريين كانوا مسيحيين وكان مسقط رأسهم سائر الأقطار العربية، فهذا لم يمنعهم من التطرق الى مسئلة تتعلق بجزءٍ من الوطن العربي.
3 – كان كثير من الأدباء والشعراء المهجريين على وعي لفكرة تشكيل دولة يهودية في فلسطين في وقت مبكرٍ، فكثيراً ما نراهم كانوا يحذّرون الحكام والشعب العربي والفلسطيني من ذلك .و هذا يثبت دور الأدب الإجتماعي في توعية الشعب.
4 – إن الأدب المهجري رغم أنه نشأ خارج الأقطار العربية، إلّا أنه كان يساير الأحداث التي تحدث فيها.كانوا يناقشون الأعداء مناقشة منطقية. يثبت هذا أنهم كانوا في الصفّ المقدم فی مواجهة أعداء الإنسانية.
المصادر:
1-ابوماضي،ايليا،الديوان،قدم له وعلق عليه:ابراهيم شمس الدين ،منشورات مؤسسة النور للمطبوعات،بيروت،الطبعة الأولي،2005م.
2-أبوحاقة، أحمد، الإلتزام في الشعر العربي، بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الأولی،1979م.
3-الريحاني، أمين، القوميات ج2، دار الريحاني، بيروت 1956م.
4-العالم ،محمود أمين، الثقافة والثورة، دار الآداب، 1970م.
5-امطانيوس،ميخائيل،دراسات في الشعر العربي الحديث(وفق المنهج النقدي الديالكتيكي)منشورات المكتبة العصرية،صيدا-بيروت،الطبعة الأولی،1968).
6-البرادعي، محيي الدين ،المهاجرة والمهاجرين،المجلد الأول،منشورات وزارة الثقافة،دمشق،2006.
7-سويد، أحمد، امين الريحاني ،دارالعلم للملايين،الطبعة الأولي،1988م.
8-فرحات، إلياس، الخريف، سان بالو، البرازيل 1954م.
9- فرحات، إلياس، مطلع الشتاء، مكتبة القاهرة 1967م.
10-توفيق بيضون،حيدر،الشاعر القروي رشيد سليم الخوري،دار الكتب العلمية ،بيروت، الطبعة الأولي،1993.
11-جبر،جميل،امين الريحاني سيرته وأدبه،منشورات المكتبة العصرية،صيدا-بيروت 1964..
12-شرارة، عبداللطيف، الشاعر القروي، دار صادر، بيروت، 1936.
13- الشاعر القروي،الأعمال الكاملة للنثر، جمعه وبوّبه وضبطه وشرحه وقدم له :د.محمد أحمد قاسم ،منشورات جروس پرس، طرابلس-لبنان، الطبعة الأولی 1996.
14- الشاعر القروي، الأعمال الكاملة للشعر، ،جمعه وبوبه وضبطه وشرحه وقدم له:مكتب التدقيق اللغوي،طرابلس،منشورات جروس بروس،دون سنة طبع.
15-عبدالدايم،صابر،ادب المهجر،دار المعارف،الطبعة الاولي،1993.
16- عبد الله الخوري، بشارة، شعر الأخطل الصغير، دار الكتاب العربي، الطبعة الرابعة، 1993.
17- عواد، سيمون ، احاديث مع الصحافة، ، مؤسسة،أ.بدران وشركاء للطباعة والنشر،لبنان،1973م.
18-الوليد،ابوالفضل،(الياس عبدالله طعمة،الجندي المجهول) الديوان،راجعه وقدّم له: جورج مصروع، دار الثقافة،بيروت، 1972م.
حواشی:
[1]ابوحاقة،1970،ص:13[2]المصدر نفسه،ص:14[3]امطانيوس،1968م، ص:280[4]عبدالدايم،1993م، ص:107[5]الوليد،1972م،ص:92[6]الريحاني، 1956م، ص:148[7]المصدر نفسه، ص:147[8]القروي،1983م،ص:227[9] المصدر نفسه، ص:229[10]ابوماضي،2005م، ص:440[11]الوليد،ص:94-92[12]البرادعي،2006م، ص:392[13]المصدر نفسه،ص:441[14]بيضون،1993م،ص:71[15]القروي،ص:227[16]الشاعر القروي، الأعمال الكاملة للنثر،ص:379[17]الوليد،ص:94-93[18]قطامی،ص:147[19]المصدر نفسه ،ص:146[20]المصدر نفسه،ص:149[21]المصدر نفسه ، ص:379[22]شرارة،1936م،ص:26[23]البرادعي، ص:300[24]الريحاني،1979م،ص:71[25]القروی،صص:228-227[26]الوليد،ص:93[27]المصدر نفسه ،ص:94-93[28]فرحات1954م،ص:62[29] فرحات،1967م،ص:49[30]القروي،1996م، صص: 230-227[31]الوليد،ص:93[32]قطامی،ص:151[33]فرحات،صص:88-89[34]الوليد،ص:95[35]عواد،دون سنة طبع،ص:10[36] المصدر نفسه،ص:10[37]سويد،1988م، ص:72[38]المصدر نفسه، ص:71[39]القروي،ص:135[40]أبوماضي،2005م،ص:440[41]جبر،1964م،ص:135