منعرج الفاجعة
إليكم يا شرف أمتنا الأصيل ،
إليكم يا نبع مجدنا المتدفق بالألق،
إليك أيها المجاهد المرابط على قمم جنوب لبنان الأغر،
إليك أيها المتمترس خلف أسوار جنين الأسطورة،
إليك يا قلب أمتنا النابض بالحياة،
إليك يا سيفنا الصارم المسلول في وجه الذل و الخنوع،
إليك أيها الجريح الباسم لعزة هذا الدين ،
إليك أيها الشهيد المسجى في سبيل أن تعلو راية لا إله إلا الله مزارع شبعى و مآذن فلسطين المحتلة في سماء
ألف تحية وإجلال ، فلا تهنوا و لا تيئسوا و أنتم الغالبون بوعد الله
شيء ما بداخلك يؤرجح خوفك.. ينعي إليك راحة نفسك.. يخبرك بالرّهيب القادم من الظلام يطـــــــــــرق خاطرك..يهزه هزا..
الديجور لا يزال يجثم على المكان.. يحجب الرؤية و الأشجار العارية على جانبي الطريق.. الجلـــــــــــيد القارس يوخز البدن ، و الصمت يرقد بعمق..
صوت محرك سيارة بيجو خمسمائة و خمسة وحده يهدر.. صاحبك يهدهده دفئ سيارته وجلد صدر يته الشتوية السوداء..
يلتفت إليك.. يستقرئ ملامحك المضطربة في مهل .. يبتسم قائلا بصوته المبحوح:
– مالي أراك صامتا؟ عهدي بك كثير الكلام..
تكمشت في مقعدك، و حصرت يديك بين فخذيك ، و بصرك لا يبرح الطريق ، وقلت:
– لم أستيقظ بعد .. وتتأب..
ضحك صاحبك، و هتف:
– آه، لقد نسيت..
مدّ يده المحررة و شغل الشريط.. تجويد الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ينبعث مفركا الأفئدة .. ســورة يس تداعب مسمعك.. ما أحوجك إلى القرآن ،
فهو القادر على شحذ همتك، ورفع معنوياتك.. غير أن النفـــــــس ضعيفة أمام سلطان المجهول.. و المجهول مستلق في المنعرجات الآتية.
ما الذي أتى بي في هذا الوقت الباكر؟ كيف تهورت و رميت بنفسي في فك الهلاك ليفترسني.. لـــــــم تعجلت و لم أنتظر حافلة التاسعة صباحا..
الصبح آمن ، و الأشباح تخشى النور..
الطريق تتعرى أمامك .. تكشف عريها.. تفغر فاه و تبتلع السيارة.. السرعة وحدها قادرة على اختراق الرداء الأسود.. قلت لصاحبك:
– اضغط على البنزين.. لنجتز هاته المنعرجات الغابية.
فقال ، و هو يربت على كتفك:
– لا تقلق يا عبد الله.. الطريق آمنة في مثل هاته الساعة..
– و كم هي الساعة؟
– السادسة و النصف.
– السادسة و النصف.. الشمس أخلفت موعدها اليوم..
فابتسم ، و قال:
– يظهر أن الخوف أنساك أنه الشتاء..
فقلت و بصرك يحوم بين الأشجار باحثا عن شيء مريب :
– بل لأنه الشتاء أسأل عن الساعة..
فقال صاحبك بعجب:
– آه ، لم أكن أحسبك خوافا إلى هذا المدى..
فقلت ، و أنت تلتفت إليه :
– من جعل الخوف و الحذر رفيقه في هذا الزمن المتوحش ضمن لنفسه حبل النجاة يا أخي..
القرآن لا يزال يتردد صداه في رقة.. الوقت بدا لك يمشي متعمدا الهوينى.. كتل العتمة شياطين بشعة رؤوسها ناتئة يتقاطر منها النجس، عيونها صفراء فاقعة يتطاير من أحدا قها الشرر.. تحوم حولك تدغــــــــــدغ مخاوفك .. تقلق ركود دمك.. تنفخ عاصفة مولولة تخدش أمعاءك.. نفسك المتقطع رنّ بتشهد طويل..
حولت بصرك إلى مؤشر السرعة.. إنه يتجاوز التسعين.. صاحبك يكرر سورة "يس" في اطمئنان .. تتساءل :
– من أين لك بكل هاته الشجاعة؟ ربما اعتدت ركوب الطريف في مثل هذا الوقت أو هو الإيمان بقضاء الله و قدره.. أجل هذا هو.. الإيمان بقضاء الله و قدره " وفل لن يصيبنا إلا ما كتب إلا لله لنا " آمنت بالله..
و كررتها بصوت مرتفع:
فالتفت إليك صاحبك هازا رأسه في دهشة ، و سألك:
– ما بك ؟ هل وسوس لك الشيطان الرجيم بعكس ذلك..
فقلت مبسما:
– كلا ، و لكن ذكرني التجويد المحكم بعظمة الله..
فهتف بخشوع:
– السورة عظيمة و التجويد يشرح النفس و يلين ما قسا منها.
فأومأت موافقا ، و صوت ارتطام عنيف يهزّ طبلة أذنك ، فيزلزل شتاتك، و يربك قيادة صاحبك ، لكنه تحكم في الموقد بمهارة مقتدر ، و أعاد السيارة إلى سيرتها الأولى..
المشهد مرّ في لمح البصر .. لم تفقه ما حدث.. وجدت جسمك ممدودا إلى الأمام ، يديك تمسكان بقوة المقعد و حاشية الزجاج الأمامي.. قلت في فزع:
– ماذا حدث ؟
– أكيد أن مؤخرة خنزير بري ارتطمت بمانع الصدمة.. الخنازير تكثر بالمنطقة..
فقلت ، و تنهيدة عميقة تزفرها كالبحار بعد أن استقمت في جلستك:
– الحمد لله أننا لم نصدمه كلّية و إلا لكانت الفاجعة..
فتنهد وقال:
– الحمد لله..
قطرات نوء خفقت تنقر الزجاج في تثاقل.. أكيد أنّها ستمطر.. الأحوال الجوّية أنبأت بذلك.. ليتها تمطر.. يسعدني النوء حينما يروي التربة ، فتعبق عطرا فريدا.. حينما يغسل النبات ، و يحليه بلآلئ وامضة..ليتنا نلج تلمسان و هي تمطر.. أعشق تلمسان أيام المطر و خاصة وقت الأصيل..
نسمة باردة تسللت من فتحة النافذة.. داعبت ببرودتها وجهك.. أنعشته .. تسترخي على المسند.. تسلم ذهنك لخاطر مسافر يخترق الحجاب المعتم مستشعرا أعماقك.. رعشة مثلجة تتسلق جلدك كالكهرباء.. العمق مستنقع دماء متخثرة.. حوافه رؤوس مجتثة ، وجثث ممزقة.. في وسطه تمثال وحش أسطوري من صدأ.. فمه مفتوح على صرخة و أنياب قرش يتقاطر منها القيح.. التمثال يتحرك .. عجيب.. غريب.. ينتبه لخفقان قلبك ، لحرارة دمك.. عيناه المظلمتان تجحظان.. حافريه يرفسان التخثر.. يتقدم نحوك.. نار حارقة تفور من منخاريه المنفرجين.. فراعته تجول و تصول في يمناه.. اللّعاب القذر يسيل من نصلها الحاد.. يتقدم.. و أنت واقف عند الحافة مذهولا ، مفزوعا.. العرق ينزف من مسامك.. تحاول الهرب.. قدماك أصابهما الشلل.. أياد متجعدة خشبية تمسك بهما.. تصرخ.. تستنجد.. صوتك مكتوم، لا أحد يسمعه.. لا أحد يعبأ بك.. وحدك تجابه مصيرك.. الوحش يمسك حزامك.. يدني وجهه البشع منك.. يزفر رمادا نثنا في وجهك.. يلعق نحرك.. صوتك محبوس في صدرك.. يزأر رافعا فراعته.. إنها تهوي عليك.. تصيح..
– ما بك يا عبد الحفيظ؟
تفرك عينيك يا عبد الحفيظ.. هل كنت تحلم؟ كابوس مشاكس أزعجك.. خلخل إغفاءك.. أكيد أنك رأيت حيّة رقطاء أمامك..
ماسح الزجاج يتوقف عن العمل.. النوم يأخذ راحة.. راحة قصيرة..الطريق مبللة لزجة.. تلألؤها يفضحها.. التجويد ينتهي..
تمدّ يدك تشغل المذياع.. تدير مغّير الموجات.. ميدي واحد تبث أخبارها.. الصحفي يذيع:
– الجزائر.. انفجار قنبلة تقليدية وسط البليدة خلفت قتيلا و إحدى عشرة جريحا قرب ثانوية.. و سيارة ملغمة تنفجر في حي زبانة بأرزيو مختلفة مقتل شخص واحد وجرح أربعة عشر آخرين.. المجازر تطيح بالرؤوس..
– لا حول ولا قوة إلا بالله.. المصائب تتولى كالفتن.. تقول متأسفا يا عبد الحفيظ..
تغيّر القناة لاعنا الإجرام الهمجي.. تسحب الشريط ثم تعيده.. عبد الباسط يترنم من جديد بآيات يس..
عيناك مستيقظتان كما لم تستيقظ أبدا.. تراقبان المنعرجات لا تريم عنها لحظة ، مترصدة مكامن الرّعب الغادر و نتوءات الفجائع ..
الخشية كلاّ ب حاد يقضمك يا عبد الحفيظ.. أحسك يا رفيقي.. المسالك الملتوية تهزّ أذيالها أجراس الإنذار .. العتمة خفاش يمتص دفئ دمك.. أفهمك و أعذرك.. أنا مثلك متوتر، منفعل..لكني صابر.. إيماني بقضاء الله يصبرني وآيات الذكر الحكيم تشدّ أزري.. أسألك بصدق:
– لم الخوف يا عبد الحفيظ؟ فالموت بالأجل..
– الخوف ليس من الموت يا عبد الله.. الخوف من ما بعد الموت .. الموت رعشة قصيرة.. سكرات مؤلمة.. لكنها قصيرة.. تأتيك لتنقلك إلى الرّعب الأكبر.. ياه.. إن رأسي ليشتعل شيبا كلما ذكرت هادم اللّذات .. الأمر خطير.. لو فقط، لو فقط تخبرني ملائكتي بمصيري و تقول لي: لا تحزن فموعدك الجنّة برحمة الله.. لجابهت الموت بعدها بصدر عار ، جامد الخفقان ، ثابت الهامة..
الأسف يراقص قسماتك بإيماءاته الحزينة .. يغوص في حنجرتك فتندوا عنك كلمات تعتريها قشعريرة..
– لكن و أسفاه ، جهلي لما يدون في صحائفي يجعلني أرتعد خيفة كلما برقت بيارق المجهول..
فابتسم لك قائلا:
– لن يخزيك الله أبدا يا عبد الحفيظ... فأنت عبد مؤمن محافظ على صلواتك و صيامك، مكثر للنوافل، يدك ممدودة بالصدقات ، سيرتك عطرة مع غيرك، حتى وإن .. و إن كثر زوغان بصرك..
فتمبجس عنك ضحكة، و تهتف:
– ذاك فوق مقدرتي و مركز ضعفي .. لكن يعلم الله أني لم أتجاوز حدّ النظر..
– أنا متأكد من ذلك يا عبد الحفيظ، فيكفي أن تقترب منك أنثى ليتضرج وجهك بالحمرة و تصطك أسنانك دهشة..
وتضحكان.. الطريق تطوى من خلف.. آيات القرآن تمسد السمع و الفؤاد.. عبد الله يتفقد الساعة.. إنها السابعة إلا خمس و عشرين..
ضوء السيارة يكشف أشباحا تقطع الطريق.. تولول عبد الله:
– سترك رباه، حاجز مزيف..
تصيح في وجه رفيقك و انفعال فوري يهزّ أطرافك هزا:
– اللّعنة ، ما العمل؟
عبد الحفيظ عيناه تجمدتا في محجريهما .. صوته المرجوج يغمغم:
– لا تتوقف .. اضغط على البنزين.. الموت بالرصاص و لا الخنجر.. اضغط...
– تتردد قليلا.. تشدّ عزمك.. تقطب حاجبيك.. تتوكل على الله و تضغط على البنزين.. عبد الحفيظ يغطس تحت المقعد مرددا التشهد.. العجلات تزمجر.. تندفع بأقصى سرعتها.. أشباح الموت يتصايحون.. يرتمون جانبا.. واحد منهم يقف متحديا فاتحا نار رشاشه محتميا بحجارة الحاجز..
السيارة تلتهم الرّصاص و الشبح معا.. رأسه المكور الصوفي يرتطم بالزجاج الأمامي.. كيانه يحلق قليلا و يسقط خرقة قذرة على الطريق.. دمه حمم تسوح على الزجاج المكسور و الحديد المبلل.. السيارة تمضي في الظلمة.. الرّصاص وابل يخترق الزجاج الخلفي.. يفجر العجل .. عجلة القيادة تضطرب في يد عبد الله.. يحاول جاهدا السيطرة عليها .. رصاصة لعينة أصابت كتفه من خلف.. الدم ينزف بغزارة.. السيارة تفقد سرعتها.. الإطارات الحديدية الخلفية تصرصر بازقة شررا متوهجا.. عبد الحفيظ يتململ في فزع شديد.. يحدق باندهاش في صاحبه البطل.. هزّة عنيفة ترجه رجا.. تلطمه.. الدم يتفصد من رأسه و فمه.. أنف السيارة ينحصر بين شجرتين.. دخان كثيف يتصاعد من المحرك..
عبد الله يرتخي على المقود الأحمر القاني يلون شفتيه و كتفيه، يتمتم في ألم و إرهاق:
– اهرب يا عبد الحفيظ.. الأشرار قادمون.. سيصلون قريبا.. اهرب..
ترتفع قليلا.. تستعيد وضعيتك الأولى في عجل ، و تقول:
– و أتركك..
– فات الأوان.. لن تستطيع فعل أي شيء لي.. هيا .. كفاك هدرا.. افلت بجلدك..
تتردد يا أخي.. أعلم أنك متردد.. تحدق في وجهي بأسف .. دموع حزينة تعبر خديك في قافلة جنائزية .. تتمتم بجرس متحسر:
– آسف يا عبد الله.. اغفر لي قلّة حيلتي.. اغفر لي..
تنفلت قافزا من الباب المفتوح.. تغوص في لمح البصر في الظلمة.. لحظة من الصمت هوت حولي.. وقع أقدام كثيرة تقترب..هياكل خشنة تحيط بي .. وجوه بدائية تبزق قذارة تخدشني بعيونها المسمارية الصدئة.. أياد تسحبني بعنف.. تلقي بي خارج السيارة.. أتمرغ في التربة.. أتألم.. تتجمهر حولي ذئاب جائعة.. أجيل نظري المرتخي فيما حولي.. آلام حادة تمزق كتفي .. أحاول النهوض.. غير أن قواي تخونني.. العالم يرتجف أمامي.. يدور و يدور.. يزداد سوادا.. لغو يتناهى إلى مسمعي:
– نذبحه يا أمير.. اللّعين قتل مصعب.. نقيم عليه الحدّ فورا..
ركلات قوية توجع كياني .. أتأوه.. كم أود أن أصرخ في وجوههم متحديا.. إلا أن نفسي ضيق.. الضعف يشلني.. أتلوى كالأفعى من الأوجاع.. صوت خشن يعوي.. إني أسمعه:
– ذباح .. أقم عليه الحد.. جرده من ثيابه أولا.. سعيد فتش السيارة قد تحتوي على غنائم..
الذباح ينفد الأمر.. يلطم وجهي.. يبزق عليه.. بزاقه جيفة قديمة.. اعلم رغبتهم في استرحامهم.. أطلب غفرانهم.. استرحم ما بقيّ من قلوبهم .. يجهلون أني ألمحها حديدية متآكلة.. تجردني من ثيابي.. تعريني.. ثيابي لعنة مستمرة على من سيرتدها.. أقسم بذالك.. ألملم ما بقي من طاقة.. أحاول المقاومة.. أزمجر في وجهك يا ذباح:
– تكلتك أمك يا عدو الله.. لعنة الله عليك إلى يوم الدين..
يلكمك بقوة.. الغضب يتطاير شواظا حارقة من عينيه.. ينهال عليك رجما بقدميه الثقيلتين.. تتلوى من الألم..غير أنك تضيف :
– جبناء.. أنذال.. تفترسون الضعفاء.. حقارة..
أميرهم يسمعك.. صخب الشياطين يلهبه.. ينعب كالبومة:
– أكتم صوت هذا الطاغوت الفاسق يا ذباح ..
ستكتم صوتي، لكنك لن تسكته يا ذباح.. سأطاردكم أينما حللتم.. لن تهدأ روحي إلا بعد أن أنتقم.. سأسكنكم التراب بلا كفن.. و يوم الحساب سألتصق بكم كالظل.. سأحوم حولكم كالعقاب و لن أكف عنكم حتى تصلون الجحيم.. حينها فقط سأرقص فرحا.. سأهلل و أحمد ربي على عدله.. هذا أجلي تجرني إليه يا ذباح.. تيقنت الآن من ذلك.. السكينة تهدهدني.. تنساب إلى أعماقي.. تدفئها.. تزعزع ركائز الخوف.. تطيحها شظايا.. تنفثها في كف الريح.. لم يعد يرهبني خنجرك يا ذباح.. أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله.. الله أكبر..الوحش البدائي يلطمه بمؤخرة رشاشه.. يخرب أسنانه.. يجره.. يكبل يديه خلف ظهره.. عواءه ينهمر كالفيض الدافق يقتلع نفسي المكتوم.. يفزعني.. ماذا أفعل يا إلهي.. حيلي ضاعت في متاهة لا نهاية لها.. يدك العزلاء تحقرك.. تذلك.. تعترف أن بنيتك قوية.. مهارتك في القتال مدعمة بحزام أسود في اليوسكان بيدو سوى أن ارتجاف أوصالك أمر خارج عن إرادتك.. جذوره تغرس مخالبها الهصورة في كل نأمة من كيانك.. مرآتك مشدوخة الآن..
السحاب الأسود يقطر عصيره البارد.. يبللك.. يروي ظمأ السدر الذي يواريك.. توقظ أشواكها.. تدثرك.. تصيرك قنفذا يُتوه الأبصار..
مُباركة أنت.. بوخزك تُخْفين ارتعاد مسامي.. قُدسية يا سدري.. أستجيرك، فاحميني.. لف حولي العتمة.. كشر أنيابك و افقئ العيون الكاسرة..
الخنجر الملعون يقد اللحم.. ينحر الرقبة.. يمضي إلى أعماقها هاتكا عرضها.. الدم الساخن يفور حمما.. شخير مخنوق ينداح متحررا.. رعدة النزع الأخير تربك قدميك عبد الله.. تتخبط.. تتخبط.. تحفر في الوحل حفرة تواري عويلك.. سبابتك منتصبة لا تبغي الارتخاء.. الجسد يستسلم لقدره.. يهمد.. يخمد.. ينطفئ إلى الأبد..
الوحوش البدائية تغمس أياديها في بركة الدم الفوارة.. تلعق حمرتها القانية.. ملحها الأجاج يستهويها.. أبدانها القذرة تستلذها..يحملون الجسد المفرغ العاري.. يثبتونه في مقعد السيارة.. مقعده..
أميرهم يتقدم.. و أنت من بعيد تمعن النظر في الفاجعة.. فاجعتك.. السيارة تلتهب.. انفجار رهيب يهزها.. البغاة يرقصون حولها مهللين.. مكبرين.. عواءهم يصعق البرية..
و أنت من بعيد تمعن النظر في الفاجعة.. فاجعتك.. رماد حاد في عينيك.. الماء ينقر قسماتك.. يحلل الدم المتخثر فوقها.. تتساءل:
– ״ هل ما يحدث حقيقة أم كابوس فارق يضاجع نعاسي؟ ربما ما زلت في السيارة نائما في مقعدي و ما أعيشه الآن كابوس لا يزيد و لا يقل.. فزعي من الظلمة.. من وحوشها البدائية ينشط مشاهد الموت في دماغي.. يوهمني.. أجل يوهمني.. سأستفيق.. لأغمض عيني و أستفيق.. عبد الله لم يمت.. إنه يقود السيارة و يستمع إلى القرآن..ينظر إليّ مبتسما.. يقول في نفسه أني لا أشبع من الرقاد.. لم يكذب.. لا أشبع من الرقاد و أنا الآن راقد.. الديكور المنبسط أمامي خدعة بصرية.. النار في السيارة و الوهج هناك سراب شيطاني.. متأكد أني سأستفيق.. حينما أفتح عيني كل شيء سيختفي..״
تفتح عينيك بمهل.. تجول ببصرك في المكان.. تنتحب في صمت..تتأوه في مرارة:
– المشهد حقيقة، حقيقة.. يا ويلي.. عبد الله ذبح..
سيارة تتوقف هناك بعيدا.. تتراجع بسرعة إلى الوراء مزمجرة.. تلتفت بمهارة.. الوحوش البدائية تفرغ ذخيرتها فيها.. لم تصب.. أفلتت بأعجوبة..
أحد الوحوش يشتم المكان.. يشك في أمر.. يصول بساطوره غير بعيد عنك.. أكيد اكتشف أثارك.. نعير جموسة مجروحة يعصف بعروقك.. إنه يقترب.. الآخرون خلف الصخور و الشجر.. خمسة يقفون بزيهم العسكري وسط الطريق.. يواصلون كمينهم.. الضياء المتثائب لا يخيفهم..
دماغك يتحفز نشطا يسطر كل الاحتمالات.. جبارك أيقظه نداء البقاء أخيرا.. المحارب المقدام يثب إلى السطح خفية.. المطر نبهه.. شجاعة أسطورية لا تدري مأتاها تستفحل في كل أعصابك تذِوب عنها الجليد.. الوادي أمامك ينفسح ضريرا يلملم جلبابه.. تنبطح أرضا.. تتسلل في حذر متوتر إلى المنحدر أمامك..
لو فقط كان بيدي كلشنكوف بألف ذخيرة لأربكت مضجعهم..لانتقمت لك عبد الله.. لو كان بيميني لما فعل الخوف في فعلته..
تتقدم و عيناك لا تفرقان الأمان و الخلف.. الوحش النثن يفتش سدرك.. لم ينتبه لتسللك بعد.. العتمة و مهارتك في الهرب زحفا تصيرك أفعى سوداء تزحف .. التربة المرتوية و الحصى و نبات الحريق بمسكون بك.. تزيد في سرعة زحفك.. شوكة ناتئة تائهة تخترق فخذك.. تألمك.. لكنك لا تتوقف..
المنحدر عاد على بعد متر.. تتوقف.. تحول بصرك إلى الخلف.. النار خمدت.. المطر المنهمر أخمدها.. الذئب المتعطش للنحور يلهث وراءك.. يمعن في التفتيش..
قد ييأس.. سيقتنع بأن صاحبي كان وحيدا.. وكان وحيدا حين قبض عليه.. وحيدا حين عانق الموت بجلد.. خانه عجزي.. آه من عجزي و قلة حيلتي..
تنعطف إلى السدر بجانبك الأيسر.. تجعلها درعك المنيع..
أزيز الرصاص يعبر دهاليز العراء البعيد..الوحش الكاسر يلتفت إلى منبع الصوت في هلع.. الهامات البدائية تفزع من مخابئها.. تستجيب للإنذار.. الأفق يمطر نورا خافتا و رصاصا..
كتيبة الموت تتجمع.. تحزم في هستيريا غنائمها و تركض مسعورة.. تقتحم الهضبة الغابة..
الوحش يخلع قناعه.. يستحيل جروا يمضغ ذيله..
اقتعدت الأرض.. كثافة السدر تخفي جذعك المتهرئ.. تحدق باندهاش إلى الطريق و هي تلد قافلة خضراء مدرعة.. لا تصدق عينيك..
السحاب يكف سيوله.. الشمس تدق أبراج السماء.. أنوارها تفكك عرش العتمة.. تفتته..
تعيد النظر إلى الغابة و قد بلعت الجراء البرية.. الفرج يرفع راياته.. أحشاؤك تزغرد سعادة..
– الحمد لله.. الحمد لله.. لقد نجوت بأعجوبة.. لا يزال في العمر بقية..
انكفأت على نفسك تنهنه.. البلل يرعشك.. يكبلك في مكانك..
سيارات الطيوطا و المدرعات توزعت محاصرة المكان.. كمنضو التدخل السريع مدعما بوحدات الحرس البلدي و المقاومين ينتشر في العراء.. طائرة هيلوكبتر عسكرية تمر على ارتفاع متوسط فوقك..
لم تستطع مغادرة مكانك.. قدماك عجزتا عن رفعك.. أصبحت حملا ثقيلا.. رفعت رأسك المدمى ناظرا في السماء.. كان هناك وجه مجعد، نحيل، بشارب و ذقن أشيبين، تدثر رأسه طاقية صوفية رمادية، يفيض عليك بابتسامة عريضة و يد ممدودة..