الأحد ٢٨ تموز (يوليو) ٢٠١٩
بقلم عبده حقي

من أجل فهم ما يجري من بشاعات

ما حدث وما هو محتمل أن يحدث من وقائع الإجرام الهيتشكوكية في بلادنا ربما لا نسمع بحدوث مثله في بلدان عربية أخرى نتقاسم معها بعضا من أزمات الخريف العربي و خساراته السياسية والاقتصادية والتحولات السوسيورقمية والتكنولوجية الراهنة.

إن بعض مشاهد العنف الغرائبية التي تقع من حين لآخر في دروبنا وأحيائنا السلفى تفرض علينا كمجتمع مثقفين وحقوقيين ورجالات فقه وأساتذة قانون وخبراء تربية وإعلاميين ..إلخ الآن قبل أي وقت مضى إعادة النظر في أساليب وآليات الردع القانونية والأمنية لقطع دابر مثل هؤلاء المجرمين السيكوباتيين الذين من دون شك الكثير منهم يقترفون جرائمهم البشعة كروبوتات بشرية فاقدة للوعي والإحساس الإنساني تحت تأثير مواد وعقاقير مخدرة وتحت ضغوط حاجتهم للمال والجنس على الخصوص .. ما يجعلهم لا يستفيقون من طقسهم الدموي وغيبوبتهم الحمراء إلا بعد استنفاذ مفعول المخدر في دمهم الذي يتحول من دم إنسان له أحاسيس ومشاعر إلى دم وحش جائع للحم الجنس وهشيم المال.

لم يعد اليوم المواطن معني بسلامة أخيه المواطن في جسده وراحة عيشه بل أصبح معنيا أكثر بالتنفيس عن آلامه ومعاناته من خلال توثيق عذابات الآخرين بهاتفه النقال والتلذذ بتفاصيل عنفها و تجزية الوقت بمشاهدتها عشرات المرات بل والتباهي بعرضها على الآخرين وتحقيق ذاته من خلالها عبر تقاسمها على مواقع التواصل الاجتماعي.. وهو يعتقد بهذا الموقف السلبي أنه قد قدم إنجازا إخباريا وفرجويا متفردا للمجتمع الذي يحيط به.. فقد بات من الأولى لهذا المواطن توثيق اللحظة الطارئة بتفاصيلها الدامية والدرامية أكثر من البحث عن إمكانية إنقاذ الضحايا والتدخل لإسعاف حياة الآخرين وكمثال على هذا الوضع السلبي صورة ذلك الغريق في البحر الذي كان يصرخ ويستغيث بالناس لإنقاذه من غرق محتوم فيما كان هؤلاء منشغلين بتصويره بهواتهم النقالة وهو يغرق بدل استعمالها للاتصال برجال الوقاية المدنية.

لقد اهتز الرأي العام المغربي وربما العالمي كذلك مؤخرا لواقعة مجزرة الشابة حنان بالرباط بتلك الطريقة الهمجية والسادية على يد وحش آدمي بعد أن سلبها شرفها وجمالها وزهرة شبابها وأفرغ في جسدها كل حقده المجتمعي وعدوانيته للمرأة لسنوات طويلة وأخيرا سلب حياتها وأسكت صوتها المقهور إلى الأبد.

ولم يكد يندمل جرح المجتمع لمقتل الجميلة حنان حتى زلزلت الأرض مرة أخرى لواقعة الطفل الذي تم اغتصابه وقتله وشنقه في غرفة مهجورة بمكناس.

جرائم عديدة لا حصر لها باتت تتساقط وقائعها الواحدة تلو الأخرى على مواقعي التواصل الاجتماعي يوتيوب وفيسبوك وتختلف في درجات بشاعتها لكنها تلتقي جميعها في موضوع واحد يدور إما حول عطب جنسي أو عوز اقتصادي يعاني منهما المجرمون والضحايا سواء بسواء . فلا برامج التعليم ولا الإعلام ولا القنوات الدينية ولا جماعات الوعظ والإرشاد ولا الأحزاب ولا الجمعيات ولا وزارة الأوقاف ولا خطب الجمعة استطاعت متضافرة جميعها للتخفيف ولا أقول للحد من تعاظم هذه الجرائم المتعددة الغايات والوسائل .. فلم إذن تصرف كل هذه الميزانيات الباهظة على جميع هذه القطاعات المختلفة إذا لم تكن برامجها ذات جدوى وفعالية على سلوك المواطن في أرض الواقع ونتائجها بادية للعيان في سلامة المواطنين ورغد العيش المجتمعي.

فكيف يمكن للدولة بمؤسساتها والمجتمع بثقافة تعايشه أن يخفف من درجة هذه الهمجية ويعود إلى هدنة وطمأنينة الأمس القريب..؟ هل بالعودة إلى أساليب القمع والردع القديمة التي باتت تتنافى مع المواثيق والأعراف الدولية كالتطواف بالمجرمين والقصاص الجماعي منهم والشنق في الساحات العمومية وتطبيق شرع اليد؟ أم بتشديد عقوبات المسطرة الجنائية حتى تتلاءم مع تطور بشاعة هذه الجرائم ووحشية المجرمين؟ أم بتطبيق عقوبة الإعدام العلني وعدم الرضوخ لضغوطات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية على غرار ما تنفذه دول أخرى مثل السعودية وإيران والعراق ..إلخ؟

قد أجد ربما الجواب في هذه القصة الواقعية التي مفادها: أن أحد الحقوقيين المغاربة كان يشغل خادمة في بيته . وحدث ذات مرة أن ضاعت مجوهرات نفيسة لزوجته من الصوان.. فذهب إلى أقرب دائرة أمنية وتقدم بشكاية في الموضوع.. لم يتطلب البحث جهدا كبيرا ما دامت الخادمة هي الشخص الوحيد المشتبه به في اقتراف السرقة.. استدعى الضابط الخادمة ورب الأسرة الحقوقي وشرع بلباقة ولطف يستنطقهما معا.. غير أن الخادمة أنكرت إطلاقا علمها بالمجوهرات.. قال الضابط لرب الأسرة: أرأيت كيف أنك ظلمت هذه السيدة حين اتهمتها بالسرقة وهي بريئة منها تماما؟ فاستشاط هذا الحقوقي غاضبا وقال: سيدي الضابط ليس في البيت شخص آخر بيننا يمكن إن يسرق المجوهرات غير هذه الخادمة .. فرد الضابط: وما العمل إذن وأنتم الحقوقيين تناهضون بعض إجراءاتنا الناجعة في الوصول إلى الحقائق بأقصر الطرق ثم أردف عد في الغد ربما قد تظهر معطيات جديدة في البحث؟

ظل الحقوقي وزوجته حائرين وغير مقتنعين بالتعامل اللطيف والإنساني من طرف الضابط مع الخادمة.. وفي الغذ عاد رب الأسرة والخادمة إلى الضابط.. وما إن سأل الضابط الخادمة مرة أخرى حتى أنكرت تهمة السرقة باعتداد زائد عن الأمس.. لم يكن بوسع الضابط في تلك اللحظة إلا أن صفعها صفعة على خدها الأيمن وحين هم بصفعها على خدها الأيسر اعترفت فجأة بجزع وتلعثم: كفى.. كفى اسمحوا لي أنا من سرقت المجوهرات ودسستها في المكان الفلاني.. حين خرجت إلى قاعة الانتظار التفت الضابط في تلك اللحظة إلى رب الأسرة الحقوقي وقال له: هل توافق في المرة القادمة على صفع خادمة أخرى مقابل استرجاع مجوهرات زوجتك في حالة سرقتها مرة ثانية؟ صمت الرجل الحقوقي مطأطئا برأسه وكان صمته علامة على رضاه وقناعته بالتصرف الحاسم للضابط.

(هذه القصة قرأتها منذ مدة طويلة على صفحة إحدى الجرائد الوطنية) وخلاصة فكرتها: أحيانا لابد مما ليس منه بد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى