الخميس ١٥ أيار (مايو) ٢٠٠٨
علي الخليلي
بقلم عادل الأسطة

من انبثاق الظهيرة إلى وحل الوجع المستحيل

يخاطب علي الخليلي في قصيدته "من الوالد الى الولد" ابنه، ويطلب منه أن يحلم، كما حلم هو من قبل، ولكنه يقول:

"كأنك الذي تضيع وأنا الضائع. كأنك

الهاذي، وأنا الهذيان كله". (هات لي عين الرضا، 1996، ص 110)

وهذا هو التعبير الحقيقي لما آل اليه الشاعر وجيله. واذا كان ابنه يمعن بالتحديق بين قدميه، فإن عليا معلق على رقبته، كأنه يهبط في سماء بعيدة، أو كأنه يصعد اليها، وهو لا يعرف بالضبط أين يسير ؟

أصدر الخليلي دواوينه الاولى، وهو في المنفى، وجاء شعره فيها ذا حس تفاؤلي. مضت نابلس الى البحر، ولما عاد الشاعر اليها عام 1977 أنشأ مكتبة أسماها "مكتبة الوطن"، وهو اسم قريب من مجموعته "جدلية الوطن" (1975). ولم يمض، على وجوده في نابلس عام، حتى أصدر "الضحك من رجوم الدمامة" (1978)، وهي مجموعة شعرية تحتوي على قصائد ذات حس تفاولي، والعنوان ايضا يدل على ذلك: ثمة دمامة نضحك من رجومها. ولم تختلف احدى مقطوعات الديوان عن مقطوعة درويش التي قالها بعد حرب حزيران. يقول الخليلي:

"نحن لم نخسر الماء
هذا اكتمال الخميرة
لم نفقد الشمس
هذا انبثاق الظهيرة
لم تسقط الكلمات
وهذا بياني"

وكان بيانه العديد من القصائد التي تعبر عن رؤيته الفكرية. غنى علي للفقراء وحلم بوطن يسوده العدل والطمأنينة، وطن لا يخضع لاحتلال أجنبي. ومجد الفلسطينيين الزارعين والمقاتلين، وانضم، في قصائده وفي وجوده في الوطن، الى هؤلاء، وأعطى ذراعه للزارع الأول:

"والفلسطيني باب

كل من كان فلسطينيا سيعطي

منجلا للزارع الأول

أعطيت ذراعي

كل من كان فلسطينيا سينمو". (انظر مقالتي في الفجر 28/4/1978)

ولم يمر عام على افتتاحه مكتبته حتى أغلقها ليتفرغ للعمل محررا أديبا في جريدة الفجر. وكان اخفاق طموحه الثقافي في المكتبة خيبته الاولى التي توالت بعدها الخيبات.

أصدر الخليلي، في الوطن، العديد من الدراسات والمجموعات الشعرية، وكتب نصين قصصين طويلين هما "المفاتيح تدور في الأقفال" (1980) و "ضوء في النفق الطويل" (1983)، وكان يأمل، لنشاطه المتعدد، أن يحظى بالعناية والاهتمام اللذين حظي بهما شعراء المقاومة في مناطق 1948، وهذا ما لم يتحقق له، على الرغم من اعادة طباعة بعض دراساته التراثية في العالم العربي، ومن كتابة بعض المقالات الصحفية عن انجازاته. وقد جعله هذا يشعر بالخيبة، ومن هنا استعار عنوان مقالة لمحمود درويش هو "ارحمونا من هذا الحب القاسي" ليحورها ولتصبح "احمونا من هذا التجاهل القاسي" (انظر كتابه "شروط وظواهر في أدب الأرض المحتلة، القدس، 1984، ص 85).

وظل هذا الشعور يلازم الشاعر حتى هذه اللحظة، وربما لهذا اختار لاحدى مجموعاته الصادرة عام 1996 عنوانا دالا هو:"هات لي عين الرضا، هات لي عين السخط"، وهو عنوان يذكرنا ببيت الشعر المعروف:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولم تبد عين السخط الا المساوئا

وكأن الخليلي لم يحظ بهذه ولا بتلك، وهكذا لم يكتب عنه محب ليبدي حسناته، ولم يكتب عنه ساخط لعله يحقق ما ورد في بيت الشعر:

وإذا أراد الله نشـــــر فضيلـــة

طويت أتاح لها لسان حســـود

ويهمس علي بهذا لأصدقائه المقربين، ويبوح لهم بأنه واحد ممن ظلمتهم الحركة النقدية التي، كما يقول، تفتقد الى الناقد الحداثي، وهذا بأدواته هو القادر على فهم شعر الشاعر وتحليله ووضعه في مكانته. وهو بذلك شأن شعراء الحداثة في العالم العربي الذين أشار الى شكواهم الدائمة ناقد حداثي هو كمال ابو ديب، وبين كيف ان لا أحد يحتفل بشعرهم قراءة وكتابة. (انظر: "فصول" المصرية، خريف 1996، ص 28).

وتبدو دراسة قصائد الخليلي هنا، حسب رأيه، مجحفة، لأنني سأركز على نقد مضمونها. ويبدو ان الشاعر نفسه أول من يدرك أن نصوصه مشوشة، وذلك حين يقول في قصيدة "رماد النون وزخرفة النعش".

"انهمكت بترتيب القصيدة،

فهرب العمر مني

وقعد الشاعر أخيرا، بعيدا عني،

ليكن نصي مشوشا، أيها القاصد الكريم!". (هات لي عين الرضا، ص 69).

وهو الذي يتساءل عن نفع البحور التي هي من قش (ص 70)، ولهذا يشعر قاريء الشعر العربي الكلاسيكي، وهو يقرأ أشعار الخليلي، أنه لا يقرأ شعرا.

ويكتب الشاعر الكثير، ويلتفت اليه القليلون، ولا تعاد طباعة مجموعاته الشعرية ثانية وثالثة، وتصبح اشعاره، كما أصبحت أشعار سميح القاسم الأخيرة في نظره شخصيا، حريرا كاسدا، وليس أمامه سوى الاقرار بهذا وبنطق كلمة: لا بأس، أو لا حول ولا قوة إلا بالله.

وعلى الرغم مما سبق تعتبر أشعاره أفضل تعبير عن الأوضاع التي مر بها فلسطينو الضفة منذ عام 1967، وشعورهم إزاءها. يكتب علي عام 1985 قصيدة عنوانها "في القفص"، وهي قصيدة تعبر عن نفسية الفلسطيني الذي يرى الأرض تصادر لتقام عليها المستوطنات، وعن عدم قدرته على المقاومة مقاومة فعالة، وليس أمامه سوى أن يرفع إصبع كفه احتجاجا، ويدرك هذا الفلسطيني أن العمر يمر ما بين هم وغم، فيما تزداد مخاوفه:

"من سنة الى سنة
أخاف من جريدة الصباح
ربما، وربما، وربما
أخاف من سحابة الندى
ومن هلا ومرحبا
أخاف
أرفع كفي
قف!
أصرف عيني عن هذا الواجب
خذ ما شئت،
هي الأيام حلال للغالب
أما المغلوب
فليس له قبعة من ريش
أو لغة محكية
هذا أمر
أنا أرفع كفي وأغامر". (نحن يا مولانا، 1989، ص 43)

وتزول هذه النغمة في الانتفاضة، ويحل التفاؤل محل التشاؤم. تتراجع حالة الانتظار

وتتقدم لحظة المقاومة، ليكتب علي قصيدة جميلة هي: "خمس أغنيات للولد الجميل"، ينتهي كل مقطع من مقاطعها بما يبعث على التفاؤل. يقول:

"ثمر الصنوبر، لا تخف، ما أقصر الدرب الطويل

الى الذرى، لا الليل يمكث في خرائبه، ولا ريح

السموم لها حبال

من ألف طاحون وطاحون تزول، وبغلها الباغي زوال". (سبحانك سبحاني، القدس، 1991، ص 76)

والولد الجميل هو السلام وهو العتاد وهو العدد. إنه ما زال مكتملا وقد نقصوا، وهو ما زال يملك انه الباقي، فلا شر الحسد.

ويظل علي يرى الوطن جميلا، وإن كانوا يبعثون بأهله، تحت سمع الوطن وبصره وخفق دمه الى هذه الدرجة الساخرة (هات لي عين الرضا، ص 73).

ويجدر الوقوف عند ديوان "القرابين اخوتي" (1996)، فثمة قصائد كثيرة تسعفنا في تبيان خيبة الفلسطينيين مما آلت اليه البدايات وما وصلت اليه الأمور. وبعض قصائده تتناص وبعض القصائد التي كتبها الرواد. ومن قرأ ابراهيم طوقان وبيته المعروفين:

هزلت قضيتكـــم

فلا لحم هناك ولا دم

ضمرت الى بلدية

فيها العدا تتحكـــــم

يدرك ان الخليلي لم يكن بعيدا عنهما حين كتب قصيدته "من هزل الكلام" (ص 57)، وهي قصيدة تنتهي بالمقطع التالي:

"والى يديك، غزالتي
وأنا الوريث لكل قيد في المدى
وأنا القضاة جميعهم
وقضيتي
هزلت، أنا هزل الكلام
فكيف لي شفه" (ص 61).

هزلت القضية منذ ضمرت الى بلدية فيها العدا تتحكم، وبعد ستين عاما يصبح الانسان الذي صور ذلك في أشعاره، من خلال وريثه، الهزال نفسه، فكيف تكون له شفه. هزل الانسان ورخص، لأنه بقية أمثلة.

يوضح أنا المتكلم في قصيدة "المكيدة" لماذا ينزع عن بابهم -باب الاخرين-، ومع ذلك يرسل القصيدة. ثمة طرفان احدهما يفرش لغيره لحمه وعظمه على الطريق، معبرا وقامة وراية، وثانيهما يسرق غيره، يهبط طرف ويصعد آخر، وهذا لا ملامح له سوى ملامح المكيدة. وينادي الشاعر الانسان:

"يا أيها الانسان
يا من بات في بيوتي
وضاق بي
تعال" (ص 89)

ويعاني المتكلم من هزائم قديمة وأخرى جديدة، فمن يناديه ليس سوى ديك يصيح "في عرائش الكذب والبهتان"، وهكذا يخيب الشاعر من الانسان في الانسان. ويسأل الخليلي ربه "من الذي يزعم أنه واضح اصلا (ص 166)، ويكتشف أنه خراج البلاد كلها، والأنا هنا ليست أنا فردية، انها انا الانسان في الشرق الأوسط، الانسان الهمجي في الشرق الأوسط المتزبل، (ص 170).

تجدر الاشارة الى قصيدة "واقفا على مزارها أنادي". يأتي الشاعر فيها على ذكر القدس مدينته وفجيعته ونهاية الانشاد في نشيده، وبلاغة المطاف في شهادته. وتعني القدس للشاعر الكثير، فلقد أقام فيها منذ فترة وما يزال، وكان من قبل يسافر اليها يوميا، وهي فوق ذلك، للمثقفين الفلسطينيين، مدينة مميزة. انها العاصمة الروحية لهم، العاصمة التي أصبحت منذ الانتفاضة و (مدريد) و (أوسلو) بعيدة جدا، وأصبح الوصول اليها أمنية. ومثلما حوصر الفلسطيني في مدن الضفة والقطاع، حوصرت القدس. كأنما المتكلم جثة وتكون الخاتمة:

"ماذا يبوح في هديله الحمام
قبل ان يموت في الشجن
وقبل أن يصبح عشبة على جدارها
على جداري
في بلد، هو الوطن
قضية، يخرس عن عويلها الكلام
ويسقط الحمام
في الصمت" (ص 152)

واذا كان الحمام رمزا للسلام، وسقط في الصمت، فان السلام يسقط مثله ايضا. ويسأل الشاعر في قصيدة "ليس غير الخريطة" الانسان المتغير من موسكو الى مقديشو، والانسان على رأي عمر بن أبي ربيعة قد يتغير، ولكن مالا يفهمه الشاعر هو:

"كيف تغيرت القدس
حتى دخلت في أورشليم
وخرجت من جسدي" (ص 86)

حقا إن قراءة قصائد علي الخليلي على هذه الشاكلة، قراءة لا تحلل القصيدة من بدايتها الى نهايتها، يجعل من الأمر مشكلة، غير ان ما ينبغي أن يشار اليه هو أن "القرابين اخوتي" كتابة تجسد عبث المرحلة. لقد كان الحلم كبيرا، فكان الشعر كبيرا، ولم يبق من الحلم سوى بقاياه، فلماذا لا تؤول القصيدة الى ما آلت اليه. ولئن أعلن الشاعر، في الفترة التي كانت فيها الثورة قوية، انتماءه للزارع الأول، ولئن أبدى استعداده للتضحية، فلماذا لا يصبح، وقد قبل الفلسطينيون ما رفضوه، خراج البلاد كلها، ولماذا لا يمسي هزل الكلام. ألم تهزل القضية والأحلام ؟ وينهي الشاعر قصيدة الديوان الأخيرة ذات العنوان الدال "الوحلية" بالتالي:

"نعم يا وحل
إن الوجع المستحيل أتى
فكيف أصد من لهب أبا لهب؟
وكيف أصد عن عرب اذى عرب؟
وكيف أصد من جهلي عصا جهلي ؟ "

وما الوجع المستحيل سوى ما أمسيناه عليه. وتبدو خيبة علي الخليلي متعددة الاشكال؛ الخيبة من عدم تحقيق الحلم الوطني حيث لم ينجز الوطن المستقل، والخيبة من النقاد الذين لم يلتفتوا الى اشعاره. وربما كان يعبر، حين ابدى رأيه في القصيدة المنثورة" في الشارع المقدسي أبحث عني فأصطدم بالقصيدة المنثورة الرديئة" (ص 119)، ربما كان يعبر عن رأي كثير من القراء في اشعاره. والقراء الذين أصغوا الى قصائده الكلاسيكية وصفقوا لها، لم يتحمسوا كثيرا الى قصائده التي نشرها، ابتداء، في الصحف والمجلات، ثم أعاد نشرها في المجموعات المذكورة هنا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى