الخميس ٢٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٠
دعوة أدونيس إلى الخروج
بقلم زهير الخويلدي

من ثابت المملوكية إلى تحول الحرية

"هكذا حدث في الممارسة تمفصل بين الديني السياسي من جهة والثقافي من جهة أخرى. وتحولت المعرفة الدينية الخاصة إلى معيارية معرفية عامة[1]."

أدونيس (مولود سنة 1930 واسمه الحقيقي علي أحمد سعيد اسبر) شاعر إشكالي بكل ما في الكلمة من معنى فهو يسائل في نفس الوقت الحب والموت، الحلم والعمل، القلق والجنون، الجسد والغربة، الوحدة والكثرة، الصداقة والحرب، النار والظلمة، النور والأعاصير، البعث والوطن، الصحراء والسلام. وهو شخص محل ترحيب وتبجيل وتكريم من جهة وعرضة للانتقاد والاتهام والتشهير من جهة أخرى، كما أنه الحائز على عدة جوائز والمرشح لجائزة نوبل للآداب والمترجمة أعماله إلى عدة لغات عالمية ولكنه في نفس الوقت المحاصر من قبل رجال الدين والمضنون به في دينه والمتهم بالانتحال من طرف أهل صناعته. إن معظم أشعار أدونيس تثير الشبهة وتبعث على الظنة وتوقعه في شراك أعدائه بسهولة لما تتميز به من غموض وتعقد وسريالية ونزعة صوفية تبعث على التعجب والحيرة ولما تمتلكه كتاباته من جرأة في النقد والتنوير والعلمنة وتغريد خارج السرب وللعناصر الثورية التي كتبت بها والروح المتمردة التي تحركها واستئناسها بالرموز والموحيات الميثية وتعرضها للعدم والثورة والإبداع والزمن المقبل وخلخلتها للميراث والإتباع والوجود البسيط والحياة الثكن، ولعل هذه الأبيات خير دليل على ذلك إذ يقول فيها:

“فراغ زمان بلادي، فراغ
وتلك المقاهي وتلك الملاهي، فراغ
وهذا الذي ذل في أرضه وأنكرها واستكانا
ولوث أنهارنا وربانا، فراغ
وذاك الذي مل من شعبه ومن حبه
وغمس بالحب أعماقه وأحداقه، فراغ
وذاك الذي لا يرى غيره
ولا يجد الخير خيرا ،إذا لم يكن خيره، فراغ فراغ.
فراغ يعشش فيه الدمار ويسكنه الفاتحون التتار
هنا، حرم يوطأ، هنا شرف يصدأ،
هنا عالم يهد، ويوقف عن سيره ويرد.

لمن جيلنا يحرق البخور، لمن يسجد، وأي اله ترى يعبد؟
لمن ينتمي ويشد يديه اعتدادا ويحيا له صيحة وجهادا؟
لمن فصل له اليوم ليلا وشمسا وسوى له العمر آنا وأمسا؟
لمن يتربى، لمن يكبر؟
تكاد ،على عقمه، الآلهة تعاف قرابينه الوالهه
وتركلهم واحدا واحدا وتكبر عنهم وتستكبر.
فراغ فراغ …ألا ثورة تشيد لنا بيتنا
وتجري معاصرها زيتنا
وتملأ بالحاصدين الحقولا
وتملأ بالخلق، بالثورة العقولا؟
ألا ثورة في الصميم تنشئنا من جديد وتمحق فينا هوان العبيد؟
ألا ثورة في الصميم تبدع من أول حياة الغد المقبل؟
وتفتح أجفان أبنائنا على الزمن الأجمل
على العالم الأفضل،
ألا ثورة ، ثورة في الصميم تبدع في الأول؟”[2]

مسيرة أدونيس كانت مكللة بالأشواك ومحفوفة بالمخاطر فهو لم يشرع في تعلم أصول الكتابة والقراءة في مؤسسة حكومية إلا في سن الثالث عشر ولم يدخل المدرسة العلمانية الفرنسية إلا بعد إعجاب شكري القوتلي رئيس سوريا السابق بشعره سنة 1944 ولماهم بأداء الخدمة العسكرية أودع الجسن لانتمائه للحزب القومي الاجتماعي وبعد تخرجه من قسم الفلسفة بجامعة دمشق سنة 1954 التحق بجامعة القديس يوسف في لبنان ليتم رسالة دكتوراه في الأدب عام 1973 وما شرع في إصدار مجلة مواقف سنة 1969 حتى بعث إلى وجود مجلة شعر عند مقابلته يوسف الخال سنة 1975 وما إن بدأ التدريس وإلقاء المحاضرات والبحوث كأستاذ زائر في العديد من مركز البحث والجامعات الفرنسية والسويسرية والأمريكية والألمانية حتى تنكر له أبناء الملة وأوصدت في وجهه الجامعات العربية وناصبوه العداء واتهموه بالزندقة والخروج عن اللائق.

وقد عبر عن هذه المسيرة المضنية بقوله:

“للهيكل القاذف أنشودتي
في أبد المسير، تمجيدي
كل طريقي سفر دائم
وفي المجاهيل مواعيدي”[3]

رحلة أدونيس كانت للخروج من الثابت إلى المتحول ومن الإتباع إلى الإبداع ومن حد المملوكية إلى تجربة الحرية وقد تخلل هذه الرحلة الشعور بالقلق والتمزق والعزم على البدء والولادة من جديد والقلق عند أدونيس ليس مجرد شعور بالفراغ وإحساس بالسأم بل هو بالأساس ضمأ نحو الحياة وحنين إلى الكينونة وإقبال على نحت الذات وحفظ الكيان وقد عبر عنه بهذه القصيدة:

” يا ظلمة في أفقي، يا قلقي
شد على تجددي ومزق،
واعصف به وحرق،
لعل في رماده
أبتكر الفجر النقي.”[4]

لقد بلور أدونيس منهجا جديدا في الشعر يرتكز على عبقرية اللغة واللعب بالكلمات واستخدام العلامات والرموز وحسن توظيف الصور والمقامات من أجل نقل تجربة الباطن إلى الخارج والتعبير عن اللامرئي بالمرئي وتجسيم المطلق في أشياء ملموسة وفي كل ذلك تعارض مع المألوف وتمرد عن السائد وبلور طريقة مغايرة لطريقة شعراء عصره وجسدت حداثته الشعرية التي نادى بها كثيرا الغليان السياسي الذي كان سائدا في الشرق وعكس نبض الثورة الاجتماعية التي تلتهب جمراتها تحت لهيب شمس الظهيرة العظمى وقد تضمنت أشعاره رؤى كوسمولوجية وعناصر صوفية وأفكار فلسفية تدور كلها حول مصارعة الموت والإقبال على الحياة وتحرير الجسد واستثمار الخيال الخلاق واستدعاء الذاكرة ووحدة الوجود والانفتاح على الغيرية والمساهمة في صنع الكونية ومحاربة الطائفية والمذهبية والتفتيش عن الإنسانية بالتغلب على النزعات اللاإنسانية وقد قال عنه ادوارد سعيد:”انه الشاعر العربي العالمي الأول” وقد عبر عن حريته وتوحده مع الكون وتجاوزه لحقارات الواقع وعروجه نحو الأعالي بما يلي:

” وحد بي الكون،
فأجفانه تلبس أجفاني
وحد بي الكون، بحريتي
فأيهما يبتكر الثاني؟”[5]

يعني اسم أدونيس اله أو السيد في الكنعانية ويصور كشاب رائع الجمال وهو اله الخصب والربيع وفي الأسطورة اليونانية هو معشوق أفروديت وفي الأسطورة الفينيقية هو معشوق عشتار، وتسميته لنفسه هكذا ليست تألها ولا هياما بالذات بقدر ماهي طريقة في الظهور للآخرين من حق أي مبدع أن يتبعها ولكن الذي حصل لأدونيس أن الاسم الذي أطلق على نفسه سبب له العديد من المشاكل وكان بمثابة اللعنة عليه وما حصل له مؤخرا في محاضرته في المكتبة الوطنية في الجزائر والهجوم الذي تعرض له والأزمة التي سببتها موجة الانتقادات التي وجهها لحال الثقافة العربية والتي عجلت برحيل أمين الزاوي مدير المكتبة الوطنية الجزائرية بسبب استضافته لأدونيس هو خير دليل على ذلك. فماهو مضمون المحاضرة التي ألقاها الشاعر السوري؟ وهل ما جاء كاف لأن يثير زوبعة تؤدي إلى ما أدت إليه من تأجج صراع حاد بين دعاة التقليد ودعاة التجديد في حضارة اقرأ؟

علق أدونيس عما حصل له في الجزائر على أنه نوع من الإرهاب الفكري ناتج عن الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين الذي يدور في كل بلد عربي وليس فقط في الجزائر وأكد أن “المحاضرة في الأساس لم تكن متصلة بالدين الإسلامي، لكن بالدين السياسي بمعنى أن استثمار الدين كرأسمال سياسي هو الذي يسيء إلى الإسلام”. عندئذ رفض الزج بالدين في السياسة لأن حسب ظنه “أن قيام دولة دينية في بلادنا هو أيضا إعطاء رخصة لإسرائيل لإقامة الدولـــــــة العبرية الدينية في حين أن فلسطين هي أرض الديانات”.

من جهة أخرى يرى أدونيس لزومية الانتفاضة الفكرية على السائدة والحمل التفكيكي النقدي على التقليد والشروع في التحديث والاجتهاد البدئي بقوله:

“آن لي أن أسل نفسي
من ليل أليف، ومن صباح معاد
آن لي أن أكون نفسي، أن أحيا
وجودي، وأمتي وبلادي
وأرد للتاريخ شهقة جوع
تتغذي من قبضتي وفؤادي”[6]

في الواقع لقد أعاد أدونيس في هذه المحاضرة التذكير بثنائية الثابت والمتحول وهي الأطروحة الشهيرة التي كتبها زمن البدايات وأكد أن الثابت في الإسلام هو الوحي وأن المتحول هو التأويلات التي خضع لها هذا الوحي، وقد شخص مرض حضارة اقرأ في “إخضاع الوحي للتأويلات السياسية والمذهبية بدوافع قبلية، ومذهبية، وأيديولوجية، وسياسية بدافع البحث عن السلطة” وفي “تحويل الوحي إلى مؤسسة سلطوية تخضع لثقافة الإلغاء، والإخضاع للفرد، وتهميش الرأي النقدي المخالف للسلطة أو معاقبة أصحابه” ودعا إلى التمييز بين الطرفين وتحرير الإنسان من الاغتراب السياسي والديني.

من المعلوم أن أدونيس يعرف الثابت في إطار الثقافة العربية:” بأنه الفكر الذي ينهض على النص ويتخذ من ثباته حجة لثباته هو، فهما وتقويما، ويفرض نفسه بوصفه المعنى الصحيح الوحيد لهذا النص وبوصفه،استنادا على ذلك، سلطة معرفية”[7]. ويحدد المتحول على أنه:” إما الفكر الذي ينهض هو أيضا على النص ولكن بتأويل يجعل النص قابل للتكيف مع الواقع وتجدده، وإما أنه الفكر الذي لا يرى في النص أية مرجعية، ويعتمد أساسا على العقل وليس على النقل.”[8]

الأزمة التي تعيشها الحضارة العربية الإسلامية ليست طارئة وجديدة بل هي قديمة وهيكلية وتفاقمت مع مرور التاريخ وأسبابها تتمثل في أن العلاقات بين الدول العربية الإسلامية ليست مبنية على قاعدة اقتصادية اجتماعية بل على أساس الدين كسلطة وبالتالي أي اختلاف في الشأن الديني يؤدي إلى التنازع في الشأن السياسي والانقسام في الشأن الاجتماعي، وهذا الأمر بدوره ناتج عن تسييس الدين وتحويله إلى مؤسسة سلطوية بحيث تعتبر كل رأي مخالف خروج عن الدين وردة وبغي وننتهي إلى المأسسة والفوقية وتوظيف الدين من أجل الوصول إلى الحكم والبقاء فيه إلى الأبد، فيضفي الاستبداد الديني المشروعية على الاستبداد السياسي برأي عبد الرحمان الكواكبي.

مشكلة العرب والمسلمين أنهم يعيشون في الماضي ويطمئنون إلى الثابت وينزعجون من المتحول ويردون كل شيء يحدث لهم في دنياهم إلى دينهم وان لم يجدوا فتوى دينية تبيح لهم التعامل مع ذلك ردوه على أعقابه وابتعدوا عنه، وتقف السلطة والمعارضة معا وراء هذا الموقف الغريب من الجديد لأنهما عاجزان عن التخلص عن سلطة الموروث وعن النهج السلطوي في التعامل مع الأخر وبالتالي فان مقولات الحداثة والعقلانية والديمقراطية هي مقولات شكلانية نخبوية لم يقع تجسيدها على أرض الواقع والالتزام بها وتفعيلها عند عامة الناس وذلك لأن ” السلطة التي تستخدم الدين كمطية تلجأ إلى تكريم من يسوّغ أفعالها وممارساتها وخطابها، وإلى التنكر إلى من يقف منها موقف الاختلاف أو المعارضة “. وقد كتب عن هذا الاستعصاء ما يلي:” إن الثقافة التي سادت كانت ثقافة السلطة أي أنها كانت ثقافة الثابت”[9].

على هذا النحو يربط أدونيس بين أزمة حضارة اقرأ وغياب المفكرين المجددين القادرين أن يغيروا موقف المسلمين من العالم وقد استغرب من عدم وجود مفكر واحد من طينة ابن رشد والفارابي على الرغم من أن تعداد المسلمين هو أكثر من مليار وثلاثة مائة مليون وفي مقابل ذلك استنكر حضور البارز لرجال الدين التقليديين وفقهاء السلطان ورأى في ذلك انتكاسة لأنهم حسب رأيه لم يبدعوا اجتهادات جديدة لا في شؤون السياسة ولا في شؤون الحب ولا يقومون بتثوير الموروث الديني القديم ويفتحوا الطريق أمام الناس أمام تجربة إيمانية أكثر ثراء ورحابة وإنما حصروا مهمتهم في تعليم الناس ماذا يلبسون وكيف يصلون ولكنهم عاجزون عن الإبداء بآرائهم في الشأن العام وفي الاحرجات التي يجده الإنسان العادي عندما يحاول أن يواكب عصره وٍاسه وقلبه مثقلان بالأحكام الفقهية التقليدية المحرمة للعديد من الأشياء التي تبدو حيوية للتواصل بيم البشر ولإقامة الإنسان في هذا العالم الحديث. وقد قال أدونيس:” أن المسلمين تأخروا عندما أصبحوا يهتمون فقط بفتاوى ميكي ماوس” وأن الإسلام لم يعد متجها إلى القلب والروح بل تحول إلى شرع وحدود وفتاوى مجردة وكف أن يصبح تجربة روحية حية تجعل الإنسان يلتقي بالله مباشرة بلا صلة وبلا واسطة.

إن التغيير الجذري في المجتمعات العربية الإسلامية لن يتحقق حسب رأيه إلا إذا انقشعت غمامة السلطة الدينية وكف رجال السياسة عن توظيفه في معاركهم في أجل الهيمنة والتحكم في شؤون العباد وحلت محلها العلمانية بماهي تجربة تحديثية تفصل بين الدين والدولة وتعمل على بناء “مجتمع ديمقراطي حقيقي” يحفظ كرامة الإنسان ويضمن له حريته وحقوقه الأساسية، “وذلك لا يعني إلغاء الدين أبدا، بل يعني جعل العلاقات بين الناس وبين هذه العلاقة قانونية مدنية “.

إن الأمل معقود على المفكرين والعلماء والشعراء بشرط أن يكفوا عن إعادة إنتاج المضامين الدينية السابقة وعن خدمة الأطر والمؤسسات السياسية والاجتماعية القائمة والانخراط في الايديولوجيا السائدة والمحافظة وأن يعملوا على التعبير عن الشخصي الإنساني الوجودي ويراعون التمييز بين الدين كنظام ومؤسسة يمكن نقدها ومحاسبتها وتغييرها والتدين كتجربة شخصية وإيمانية تعكس درجة التعامل الفردي الحر مع ظاهرة الوحي ينبغي أن يحظى بالاحترام والتقديس.

من هذا المنطلق يترك أدونيس باب الأمل مفتوحا ويحاول أن يوقظ العرب والمسلمين من يقينهم الحسي ووثوقه الدغمائي ويبذل الجهد من أجل فتح المنغلق وتحريك الثابت بقوله:” لكن ،تاريخيا، لم يكن الثابت ثابتا دائما والمتحول متحولا دائما. وبعضهم لم يكن متحولا في ذاته بقدر ما كان متحولا بوصفها معارضا، بشكل أو بآخر، وخارج السلطة، بشكل أو بآخر”.[10] اللافت للنظر أن أدونيس من الرواد الذين وضعوا ربطوا الحداثة بالجمع بين حرية الفكر وحرية الجسد وبين التفكير فيما لم يفكر فيه بعد وكتابة ما لم يكتب بعد بالانخراط في التاريخ ووضع التراث موضع مساءلة واستكشاف قدرات اللغة على إنتاج المعنى واستنطاق دلالات التجربة الإنسانية في مختلف أبعادها ونراه يقول في هذا السياق:” تتأسس الحداثة الشعرية العربية في بعض جوانبها على تحرير المكبوت – أي على الرغبة وكل ما يزلزل القيم والمعايير الكابتة ويتخطاها فان مفهومات: الأصالة والجذور والتراث والانبعاث والهوية والخصوصية ومثيلاتها تتخذ معاني مختلفة ودلالات مختلفة. وبدلا من مفهومات: المترابط المتسلسل، الواحد المكتمل، المنتهى، تبرز مفهومات: المنقطع، المتشابك، الكثير، المتحول، اللامتناهي.”[11]

إن مفهوم الشعرية العربية التي نظر إليها أدونيس يتقاطع فيها الموروث بالوافد والتراث بالمعاصرة ويتزامن أبو نواس والجرجاني والمتنبي مع رامبو وريلكه وغوته ويصرح بشأنها:” إن المسألة في الكتابة الشعرية لم تعد مسألة وزن وقافية حصرا بل أصبحت مسألة شعر أو لا شعر، وان هذه المسألة تضعنا تبعا لذلك أمام إمكان الكتابة الشعرية، في أفق آخر غير الأفق الموزون المقفى وهو إمكان يتيح لنا أن نعدل التحديد الموروث للشعر وأن نضيف إليه وأن نؤسس مفهومات أخرى للشعر. وفي ظني أن المعنى الأعمق والأغنى في الثورة الشعرية العربية الجديدة إنما يكمن هنا لا في مجرد تعديل النسق الوزن وتحريره ولا في مجرد الخروج على الوزن والقافية، كما تواضع أكثر النقاد المعاصرين على قوله وتكراره.”[12]

خرج أدونيس عن القواعد التقليد للغة الضاد وعن مقاييس النحوية للفصحى وتمرد على الموازنة الشعرية القديمة ووظف اللسان العربي بطريقة تجريبية فيها الكثير من الخلق والابتكار بعيدا عن التكلف والقولبة وسافر داخل مملكة الخيال وفي صحراء العدم مرتديا جبة الصمت وكفن الموت حينا ومغردا بأصوات الرعد ومضاء بأنوار البرق أحيانا، وقد انهمك يفتش عن مستقر يعلم منذ البدء أنه لن يعثر عنه لا لشيء لأنه يحمله فوق ظهره وهو قد قرر منذ النص الأول أن يهجره، ورغم الظلمة والوحشة والغربة يعود ذلك الطفل إلى شاطئ البحار والمحيطات ليكمل هوايته المفضلة وهي تشييد قصور رملية تمحوها الأمواج لحظة الانتهاء منها وهو يصر على تعليق جداريته على الكعبة أو ارتجالها في سوق عكاظ على أمل تخلص القوم من الورطة والذب عن العرض من السخرية والتهكم ليبعث الأمل في النجاة إلى من لا أمل عندهم عند قوله:

“أعط للأرض أن ترقد في راحتيك وأيقظ قصابين
ينهض منها ضوء يوقظ قدميه ويداعب جبينه الذي سماه عليا
أنهض، أتسرول شتلات التبغ، أرسم قمري على أوراقها
وأصغي لأصوات ليست مني ولكنها لي، هكذا أرى إلى الهواء يخرج من الشجر
حاملا قوارب تتأرجح وتهوي
وحين تتعب ريشة الليل ويشرب الفجر حليبه
تدخل الشمس والبيت في فراش واحد
أفهمني أيها البيت المليء بأجنحة السنونو وأقبل قسمة الريح.”[13]

لقد تحدث أدونيس طويلا عن التحديث والحداثة وأدرك اللحظة الأولى لتشكلها بقوله:” يمكن القول ضمن نظرة العرب إلى الإحداث والمحدث وضمن الشروط الاجتماعية والاقتصادية الخاصة، أن الحداثة في المجتمع العربي بدأت كموقف يتمثل الماضي ويفسره بمقتضى الحاضر، ويعني ذلك أن الحداثة بدأت سياسيا بتأسيس الدولة الأموية وبدأت فكريا بحركة التأويل”.[14] لكن إذا كان الاعتزال والخروج والصعلكة والثورة من الآليات المؤسسة للحداثة على الصعيد الفكري وإذا كان:” مبدأ الحداثة من هذه الناحية هو الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام”[15] فلماذا انتصرت السلفية وعجز العرب والمسلمين عن القيام بالتحديث ليس فقط على الصعيد السياسي والاجتماعي بل على الصعيد الديني والشعري وبقيت العلمانية مطمحا لا يرغب فيه سوى من تعلم في المدارس العصرية وحاز على ثقافة غربية؟

إذا كان أدونيس يضع شروط مجحفة لكي يكون المرء شاعرا بقوله:”قبل أن تكون حديثا في الشعر أو قديما يجب أن تكون شاعرا. ولا تكون شاعرا في لغة ما إلا إذا شعرت وكتبت كأنك أنت هي وهي أنت”[16]، فان أشد الأسئلة هولا الذي يمكن طرحه عليه وعلى معظم المفكرين العرب يظل متمحورا حول الدور الذي ينبغي أن يقوم به الشاعر خاصة والناقد عامة في تنوير الجمهور ومساعدة الملة على الخروج من ثبات المملوكية إلى تحول الحرية والإقلاع عن غفوة الإتباع وتخطي صدمة الحداثة نحو الانخراط في الإتباع الإبداعي والإبداع غير ابتداعي. فما السبيل حضارة اقرأ إلى امتلاك نظرة شعرية إلى العالم تطلع فيها إلى الانخراط في زمانية وجودية منتجة لكونية إنسانية متعينة؟

1] أدونيس، الثابت والمتحول،بحث في الإبداع والإتباع عند العرب، الجزء1،دار الساقي، الطبعة السابعة ، 1994، ص14

[2] أدونيس، الأعمال الشعرية، هذا هو اسمي وقصائد أخرى، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سوريا، طبعة 1996، ص 16-17- 18

[3] أدونيس، الأعمال الشعرية، أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى،، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سوريا، طبعة1996، ص87

[4] أدونيس، الأعمال الشعرية، أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى،، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سوريا، طبعة1996،ص 70

[5] أدونيس، الأعمال الشعرية، أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى،، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سوريا، طبعة1996، ص74

[6] أدونيس، الأعمال الشعرية، أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى،، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سوريا، طبعة1996، مقطع 36 ص31

[7] أدونيس، الثابت والمتحول،بحث في الإبداع والإتباع عند العرب، الجزء 1،دار الساقي، الطبعة السابعة، 1994، ص13

[8] أدونيس، الثابت والمتحول،بحث في الإبداع والإتباع عند العرب، الجزء1،دار الساقي، الطبعة السابعة، 1994، ص13-14

[9] أدونيس، الثابت والمتحول،بحث في الإبداع والإتباع عند العرب، الجزء 1،دار الساقي، الطبعة السابعة، 1994، ص14

[10] أدونيس، الثابت والمتحول،بحث في الإبداع والإتباع عند العرب، الجزء 1،دار الساقي، الطبعة السابعة، 1994، ص14

[11] أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 2000، ص112

[12] أدونيس، سياسة الشعر، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1996، ص12

[13] أدونيس، مفرد بصيغة الجمع، صياغة نهائية، منشورات دار الآداب، بيروت، لبنان، طبعة جديدة 1988، ص 27

[14] أدونيس، الثابت والمتحول،بحث في الإبداع والإتباع عند العرب، الجزء 3،دار العودة، بيروت لبنان الطبعة الأولى1978ص9

[15] أدونيس، الثابت والمتحول،بحث في الإبداع والإتباع عند العرب، الجزء 3،دار العودة، بيروت لبنان الطبعة الأولى1978ص9

[16] أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 2000، ص110

المراجع:

أدونيس، الثابت والمتحول،بحث في الإبداع والإتباع عند العرب،الجزء 1 دار الساقي، الطبعة السابعة، 1994

أدونيس، الثابت والمتحول،بحث في الإبداع والإتباع عند العرب، الجزء 3،دار العودة، بيروت لبنان الطبعة الأولى1978

أدونيس، مفرد بصيغة الجمع، صياغة نهائية، منشورات دار الآداب، بيروت لبنان، طبعة جديدة1988

أدونيس، الأعمال الشعرية، أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى، ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سوريا ، طبعة1996
أدونيس، الأعمال الشعرية، هذا هو اسمي وقصائد أخرى، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سوريا ، طبعة 1996

أدونيس، سياسة الشعر، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1996

أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 2000


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى