السبت ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
ظلالٌ بلا أجساد للقاص الجزائري خلف بشير

من جمالية التشكيل إلى فتنة الرؤيا

عرض: مصطفى بلمشري

خلف بشير هو أحد الأدباء الجزائريين الذين أثْروا الساحة الأدبية الجزائرية بعدّة مؤلفات، فعرفه القارئ كاتبا، وباحثا، وقاصّا أسهم بشكلٍ فعّالٍ في إنعاش الحياة الثقافية بمختلف المقالات، وخاصة في منطقة الوادي، حيث يرأس حاليا الجمعية الثقافية الولائية: " رابطة الفكر والإبداع ".

صدرت له المجموعات القصصية التالية:

  1. أخاديد على شريط الزمن.
  2. القرص الأحمر.
  3. الشموخ.
  4. الدفْء المفقود.
  5. ظلالٌ بلا أجساد( آخر المجموعات التي نحن بصدد دراستها ).

تكشف لنا كتابَاتِه، وممارسَتهِ الإبداعيةِ، وتحمل في طيّاتها رؤى فنية، وجمالية التشكيل القصصي.ظلالٌ بلا أجساد قصصٌ تستمدّ فلسفتها من وحي الاهتمامات المحورية للناس، وتستخلص مفاتيحها ممّا يزخر به الواقع الجديد من تناقضات، وأزمات بحيث تتّسم هذه الأعمال بالواقعية الجديدة التي تهتمّ بتقديم الواقع من خلال قداسته، وعلاوة على ذلك إنها تحتفي بجماليات الإبداع، وتشتغل الرؤى الفنية لإنجاز نصٍّ قصصي تتضافر فيه دلالاتٌ إيجابية جمالية، تبدو أحيانا قادمة من نصوص غائية، ثم الاشتغال عليها من أجل الإيحاء بأجواء واقعية تنسجم مع الأجواء الواقعية ؛ فالكاتب بشير خلف لو يكتف بتصوير الواقع كما هو، فهو يستخدم وجدانه، وعاطفته في اكتناه الواقع في حركته المتغيّرة.

ودأبَ الكاتب بشير على روح المغامرة اللغوية ضمْن سياق العمل القصصي، وبما ينسجم مع عناصره المختلفة بما فيها المتلقّي، وتشكيل مع مجمل هذه العناصر نسيجا عضويا متضافرا يحقّق مستوى جماليا عاليا.
إن قصص بشير خلف هي في جوهرها دعوةٌ ملحّةٌ وصادقة إلى قراءة الواقع ومساءلته، والانخراط فيه..إنها دعوةٌ إلى الدخول في الواقع فكرا، وممارسة ؛ فقصصه تستعيد الحياة الاجتماعية، وتستنبط حركتها، لأنها ترمي إلى التأكيد على أهمّية الوعي الاجتماعي لتقديم إضاءاتها، ومساهماتها في مشكلات الواقع.

ويبقى ما قلتُه محصورا في حدود الفرضية النظرية إنْ لم أبادرْ إلى إظهار مرتكزاته في مجموعته الأخيرة ( ظلالٌ بلا أجساد ) والتي اشتملت على القصص التالية:

زمن الخوف، الرحيل، أشواكٌ على الدرب، عناقٌ أبديٌّ، المرافئ المغلقة، أقوى من الأقنعة، رجلٌ على الهامش، تباريح، التشظّي، إصرار، الوجد الزّائف، أحياء يتنكّرون للشمس.

فقصة زمن الخوف تحكي قصة شعب عانى ويلات الإرهاب، والقتل المجاني للأبرياء، والذي كان هاجسا مُخيفا، ومروّعا في الآن ذاته لا يميّز بين الناس كبارا وصغارا، فهو أحد المفاصل الأساسية التي ارتكزت عليه هذه القصة التي تروي مقْتل طفلة في مقتبل العمر ذات صباحٍ عندما كانت ذاهبة إلى المدرسة، فشاهدت ولاّعة ذهبية وُضِعت أمام باب منزل أحد الأثرياء صاحب مؤسسة اقتصادية، وما كادت تلتقطها حتى انفجرت عليها، فتطايرت أشلاء، وتلطّخت وريقات الكراريس بدمها الطاهر الزكي، وصعُب يومها لملمة الأطراف المتناثرة هنا وهناك، وكانت تلك الليلة الموالية للمأْساة حزينة. ملأ الحزن القلوب، وتساءل الناس: لماذا حدث الذي حدث ؟ ولِـمَ وقع...؟

أدرك الناس أن صاحب المؤسسة هو المستهدف لمحْوه من الوجود، رغْــم أن كرمه لا حدود له.شمل جميع الناس، وداع صيته في كلّ مكان، وسمع عنه الداني والقاصي.ومن أهمّ الخصائص الفنية التي تظهر لنا بوضوح في هذه القصة أنّها نزفٌ لغويٌّ، وتوتّرٌ تعبيري يجاريان مشحونهما من مضمون القصة..يماشيان حركته النفسية، ومجراه الوجداني المتداخل، والمتلاحق بسرعة خاطفة.

أمّا قصة ( الرحيل ) تحكي وضعية شابٍّ جامعي يحمل شهادة عالية من إحدى الجامعات الأجنبية، يعود إلى الوطن فلا يجد فرصة عملٍ تناسب مؤهلاته العلمية، بحيث يفتح الكاتب قصته بوصفٍ مسهبٍ للحالة النفسية التي هو عليها بطل قصته..هذا الشاب الذي عاد من الغربة يقيم مع أمه التي أنهكها المرض. تحاول إقناعه بالبحث عن عملٍ ليتمكّن من الزواج، فيعدّ ملـفًّـاً بداخله دبلوم التخرّج.يخرج من المنزل على أمل إيجاد منصب عمل في إحدى المؤسسات الوطنية، أو الإدارات الحكومية.يدخل إحدى هذه الإدارات.يجد أمامه مجموعة من الشباب ينتظرون دورهم لتقديم ملفّاتهم إلى الموظّف.لــمّا يأتي دوره يستقبله الموظف، ويخاطبه بنبرة تجاهلية، فيضعه أمام الأمر الواقع حول سوق العمل في بلدنا، ثم يتساءل هذا الموظف تساؤلات تكشف التخابث في ثناياها كما جاء على لسانه:

« يا إلهي..شابٌّ مثلك في ريعان الشباب متحصّلٌ على إجازات جامعية عالية..دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء يتسوّل منصب عملٍ، كمدرّس في التعليم، وفي أيّ مستوى...؟!»

فيردّ عليه الشابّ بنوعٍ من التحدّي:
 « التسوّل قد يكون مقبولا في وقت ما، وفي ظروف ما يا سيّد.»
وبينما هو يتحاور مع الشاب رنّ الهاتف فينشغل رئيس المصلحة بالردّ على المكالمة، وأثناءها راح الشاب يسترجع ذكرياته..فيتذكّر أيام الدراسة بالخارج، وتعرُّفه على زميلة له في الجامعة، فتنشأ علاقةُ حبٍّ وطيدة بينهما، فهي من أسرة ثريّة، لكنها أحبّت فيه نزعته الإنسانية، وقلبه الكبير..كما وجدت فيه الهمّة العالية، والإرادة القوية ؛ وأحبّها هو لتواضعها، وصدقها، وتحلّيها بالقيم الأخلاقية النبيلة ؛ ولكن حبّه لوطنه، وشوقه لأمه المريضة أجبره على ترْك هذه البلدة الأجنبية، والعودة إلى الوطن، وكانت المفاجأة أن الوطن الذي أحبّه..سوقُ العمل فيه أغلقت أبوابها في وجهه.

ولعلّ أهمّ الأسئلة تتضافر فيما بينها تضافرا إشكاليا جدليا، فسؤال حبّ الوطن، وما تبرز معه من مواجهات حادّة، وضغوطات نفسية ؛ يبقى السؤال الأهم، والأكثر بروزا وجدلا في المشهد السردي، ويبقى ذا مذاقٍ خاص، ومنفردٍ ؛ إذْ لا يمكن التعامل مع الوطن على أنه مجرّد بقعة أرض..بل لا بدّ من الإحساس بالانتماء إليه، وبلوغ حساسية، وتمثّل رؤياه ؛ لكن هذا الموظف الذي حظي بمنصب عملٍ يتنكّر للوطن، ويقول للشاب:
 « لو كنتُ في سنّكَ لساعدني دبلومٌ كهذا على عبور الحدود، واجتياز الموانع بطاقة الفتوّة ولزرعتُ جسدي في كلّ مُــدُن العالم.»ص 28
يردّ الشابّ على الموظف قائلا:
 « هذا نكرانٌ للأوطان، ولا يغفره التاريخ، ولا الأجيال الآتية.»ص29

وهكذا نجد أن موضوع قصة ( الرحيل ) يرتكز إلى واقع اجتماعي، وإنساني جد دقيق أتاح للقاص مجالاً لإجادة التحليل النفسي للبطل، والكشف عن أوضاعٍ اجتماعية، ومهنية بلقطاتٍ تكشف واقع تلك الأوضاع، والتركيز على تناقضاتها بشيء بالغٍ من نفاذ النظرة وحركيتها، وأن يكون بالإشارات العابرة، والتلميحات البعيدة إلى الأسباب الخارجية المؤثرة في الوضع النفسي، وحالة هذا الشاب المأْسوية.
ويمكننا أن نُوجز القول بأن أبعاد هذه القصة تظلّ إلى حــدٍّ ما مرتكزة إلى أحداث ذاتية مزاجية، وحالات فردية خاصة تتجاذبها مؤثراتٌ، ودوافع إنسانية ومصيرية ؛ هذا ما أحسستُه وأنا أطالع ( قصة الرحيل ).. حـقًّا إنها قصة مكتملة بحوادثها، وشخصياتها، وأسلوبها الفنّي ؛ بالإضافة إلى ذلك ثمّة آلياتٌ سرديةٌ، وتقانات خاصة، ورؤى فنية، وجمالية مختلفة مارسها خلف بشير تختلف اختلافا كليا، ونوعيا عن تلك التي استخدمها الكثير من القصّاصين، وتعارفوا عليها.

أمّــا قصة ( أشواكٌ على الدّرب ) فمعالمها الأساسية التي تطالعنا في تقنية القصة السابقة ـ الرحيل ـ تكاد تتكرّر بشكلٍ، أو بآخر في هذه القصة، وإنما على مستويات متفاوتة، وقد تبدو المهارة التقنية مجْــلُـوَّة كثيفة، وذلك في طرافة الصور التي يتضمّنها السياق القصصي، وكأنها بحيراتٌ مسحورةٌ، ومنمنمات شعرية صغيرة..كانت دائما، وما تزال مركز الثقل في تقنية القصة عند الكاتب، والضوء الذي يكاد يمتصّ سائر الإبداع الفني في تعبيره، وأسلوبه منها قوله:
 « خرجتُ أسير في شوارع المدينة مضربا عن الانضمام إلى سيارة نقْل العمال العارية..هيكلٌ عظْميٌّ يخترق شوارع البلدة، وأزقتها المُتربة..تتحرّك كبهلواني.»

ويسعى الكاتب في هذه القصة وراء اللحظة الدرامية إلى إبراز الوعود الكاذبة التي يقدّمها المرشّحون للانتخابات البلدية، فيعرضون برامجهم الوهمية، ومشاريعهم التي لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع، فهي في مخيّلتهم، وعلى الورق فقط، ولا يمكن تجسيدها فعليا.
فهذا رجل أعمال يعد سكان البلدة بإقامة مشاريع ضخمة توفّر الشغل، والدخل الوفير لكلّ الشبان البطّالين، وطموح من المجلس الشعبي البلدي الجديد يتبنّى قضاياهم، وانشغالاتهم اليومية.في مقدمة هذه القضايا قضية السكن، وإزالة الأحياء القصديرية من الوجود.
دار حوارٌ بين رجال الحي القديم..قال أحدهم:
 « تحمل القائمة هذه المرّة أسماء جديدة، اختفت بعض أسماء اعتدناها دوما موجودة.»
ردّ عليه أحدُ الحاضرين بنبرة هادئة:
 « أسماء في القائمة لا نعرف عنها شيئا.ما رأينا أصحابها.»

وحين يحاول الكاتب أن يخرج ببطله من هذه الحدود الضيّقة المغلقة إلى قضايا، وآفات إنسانية أوسع وأرحب يقع في المنزلق الخطابي، وتصدر عن بطله أقوالٌ غير منسجمة إطلاقا مع النموذج الواقعي لشخصية بطل القصة، كما تبدو لنا في سياق القصة، كما يصوره هذا المقطع: ص42
« برقتْ عيناه.أرسل نظره بعيدا..بعيدا إلى قمّة الجبل المُطلّ على البلدة.شدّته الذكريات إلى ماضٍ عزيزٍ عليه يوم أن كان هناك قائدَ فرقة للمجاهدين، ما انفكّ يكرّر على مسامعهم:
 وجْــه بلدنا..تأكّدوا يا رفاق أنه سيتحوّل إلى وجــهٍ ضاحكٍ مليء بالحياة...»
وتبدو القصة أيقونات لحياة الناس اليومية، يجد المتلقّي من خلالها الواقع الذي لا يُخفي واقعا مضادّا على الإطلاق، وهذا ما يميّز هذا النوع من القصص التي يتجاور فيها الواقعان المرفوض، والمأْمول معا، يخضع ذلك كله لرؤية المبدع الذي اختار الموضوع، وانتفى المعلومات حوله ؛ علاوة على ذلك فإن موقع الرّاوي، وتعدّد فعْل الحكي، تسمية الشخصيات، المشهد السردي ومنطق الحلم، التكرار المشهدي..كلّها أساليب، ورؤى مختلفة يمارسها بشير خلف برشاقةٍ سرديةٍ، وتوضّح مدى قدرة الكاتب على رسْم شخصياته من الداخل، حيث يمنح هذه الشخصيات الصدقَ الفنّي، والحياة الإنسانية بكلّ أزماتها، ومآسيها، فهو لا يتوقّف عن إعطاء الحالة القصصية الوقتَ الكافيَ لصياغتها ناضجة معبّأة بالدّفق الحسّي، فلكي لا تنفلت من براثن المباشرة.

أمّــا قصة ( عناقٌ أبديٌّ ) تجسّد نضال فلاّح لخدمة أرضه، واستصلاحها ؛ فبطل القصة ( مسعود) فلاّحٌ امتهن خدمة الأرض، وفلاحتها.التصق بالأرض وأحبّها منذ صغره، لأنه ورث هذا العمل أبا عن جدٍّ، ومع مرور الأيام تحوّلت خدمة الأرض إلى ممارسة واعية.
وكانت عائلة مسعود تتكوّن من تسعة أفراد، ممّا جعل أبناءهم بما فيهم المتمدرسين يساعدونه في خدمة الأرض، وبفضل مجهودات هذه العائلة، وهذا ما حفّز مسعود على طلب قرْضٍ من البنك لشراء شاحنة نفعية ينقل فيها منتوجاته الزراعية إلى المناطق النائية، والمدن البعيدة ؛ وما يلفت انتباهنا في هذه القصة أنّ مضمونها يشيد منطقه السّردي الغرائبي، والاشتغال على التطريز اللغوي المتطوّر الذي هو إلاّ رؤيا جديدة في الكتابة السردية المعاصرة، كما اعتمد الكاتب في معمار قصته العام على محاور منها: المونولوجات الداخلية، والتداعيات، والتكتيك اللاّوعي.
وإذا ما انتقلنا إلى قصة ( التشظّي ) ص119، لعلّ أبرز انطباعٍ يمكن أن يسجّله القارئ عن تقنية الأداء القصصي، والصياغة التعبيرية ؛ هو أن الكاتب وضع الجانب الإنساني نصْب عينيه في تحريك الأحداث بشخوصها، ومضمونها، وفلسفتها الخاصة، بحيث كان البناء العام يأْخذ شكل مواقف، أو مقطعات معنوية بمفاتيح دالّة تسهّل السّرد، والتنقّل بين أجزائه، إلى جانب سهولة التركيب اللغوي الذي كان يميل نحو تقنيات الاجتراء، والاختزال، وتمظهر الغنائية السّردية..بمعنى تقديم الكاتب لعمله الموضوعي من منظور ذاتي.
بالإضافة إلى كلّ ذلك، فإن البنية الغنائية تتلبّس صورا متعـدّدة منها التركيز على الوعي المتزايد، والحدث المتكامل الذي يقوم على التجزئة التي تمنح الأحداث التناميَ، والتطوّرَ.

وهذا ما نلمسه أيضا في قصّة( التشظّي)، فنحن أمام كتابة قصصية فنية تستمدّ فلسفتها من وحي الاهتمامات المحورية للناس، وتستخلص مفاتيحها ممّا يزخر به الواقع الجديد من تناقضات، وأزمات بحيث تتواصل التجربة السّردية في (التشظّي) في معمارية رصينة ومتماسكة، وأن القالب الفني هنا يخضع للفكرة مثلما تتّسع هذه لنا، وهو قالب معتمِـدٌ على نسْج العلاقات الداخلية في البناء القصصي، فينطلق أسلوب السّرد، وتقنية الأسلوب الارتدادي انطلاقا إنسانيا يختزل الحالة النفسية في جُــملٍ، ولقطات مكثّفة، وبصيغة ماهرة، وشفافية شاعرية لتصنعَ هيكل القصة، كما يصوّر هذا المقطع:
 « تداخلت أصوات المعقّبين، أجمعت على تهدئة المتكلّم، وطمْأنته، وتثمين دوره منذ أن حلّ بالمنطقة. ابتسم بدوره، وبدا عليه الارتياح. مباشرة أخذ بضمّ الأوراق، وكأنه يُوحي إلى الحاضرين أن الجلسة انتهت.»

فمضمون هذه القصة يجسّد الوضعية المزرية التي يعيشها المواطن بسبب تجاهل السلطات المعنية لاهتمامات الناس، واحتياجاتهم اليومية كانعدام المرافق الاجتماعية الضرورية ؛ بالإضافة إلى عدم تأمين مستلزمات أساسية كالإنارة، وتوفير مياه الشرب، والسكن الاجتماعي، وتعبيد الطرقات، وإصلاح الشوارع، والأرصفة ؛ وهذا ما دفع أعيان البلدية لعقد اجتماعٍ مع رئيس الدائرة لطرْح أمور مدينتهم عليه، فيتدخّل كل واحدٍ من الحاضرين لعرْض قضية معيّنة، بينما كان رئيس الدائرة يثمّن كلام كلّ واحدٍ إيهاما للحاضرين بالاهتمام بما يطرحه من خلال كتابة كلّ الملاحظات في دفترٍ أمامه، ويتدخّل أحدُ الحاضرين طالبا وجوب تكوين لجنة تحصر القضايا الهامّة للمدينة ؛ بينما كان هذا يطرح وجهة نظره همس أحدهم:
« لقد أضعْنا وقتنا الثمين هذا الصباح..إذا أردتَ قتْلَ مشروعٍ كــوّنْ له لجنة ! ».

ونجد في قصة ( رجل على الهامش ) تلك المأْساة الاجتماعية، والنفسية التي يعيشها المغترب عن الوطن. إن بطل القصة شابٌّ ينتمي إلى طبقة اجتماعية بسيطة، لكنه متحصّلٌ على شهادة جامعية. طاف الوطن من أقصاه إلى أقصاه باحثا عن منصب عمل يناسب مؤهّلاته العلمية، لكن محاولاته باءت بالفشل، فبقي أمامه إلاّ الهجرة إلى الخارج، فيغادر الوطن ليحطّ رحاله في فرنسا.يقضي بها خمسة عشرة عاما مرّت كالحلم.لقد زرع جسده في هذه المدينة الجميلة، فبعد هذه المدة يتذكّر والديْه العجوزيْن العزيزيْن عليه، فيعود إلى الوطن، وتكون الفرحة كبيرة بملاقاة الوالدين، والأصدقاء، وتعرض عليه أمه فكرة الزواج، وتقترح عليه ـ فاطمةـ ابنة جارهم ( سي أحمد )، فيوافق على الزواج، ويتمّ الزفاف، ويأخذ الشاب زوجته ليعود إلى فرنسا، ولكن هذه الزوجة لا تروقها الحياة في الغربة، فتخاطب زوجها قائلة:
 « ليست مدينتي، ولن تكون مهما بقيْتُ فيها، ومهما أصررتَ أنت، وليست مدينتك مهما داريتَ.»
فمن غور المأْساة السحيق، ومن تحت أنقاض الإعصار المزلزل قد ينكفئ نداء الحياة قليلا في صوت ( فاطمة )، لكنه لا يلبث أن يتعالى من حنجرتها بوجه الريح العاصفة صارخة بعنف الثقة، والإيمان بالعودة إلى الوطن.

ومهما تناء بها درْبُ الغربة عن وطنها، ومهما طال السفر والرحيل يظلّ حلم العودة إلى الوطن أقوى من الهزيمة ؛ في المقابل نجد أن غربة الشاب عن وطنه ـ وهي غربة قسرية فرضتها ظروفٌ سياسية ـ باعثٌ أيقظه على مدى غربة الإنسان عن جوهره ؛ فإن وعيه لواقع الغربة النفسية، والوجدانية، ورفضه للموت في وطنه، هو الباعث على إبعاده من أرض الوطن، وإنّ فقدان الجوهر الجوهر يتمثّل على خير وجـــهٍ في هذه القصة، ونفسية عانتها الأجيال في العشرية السوداء..وكان الخلاص منها بعد مسافة زمنية طويلة، ومريرة ؛ هذا ما أعتقد أني لاحظــتُه في الهيكل العام للقصة، ومداولاتها الاجتماعية، ولوحاتها الطبيعية الغنية في دقّتها، وإيحائها.

وإذا ما انتقلنا إلى بقيّة القصص: ( أقوى من الأقنعة، المرافئ المغلقة، إصرار، أحياء يتنكّرون للشمس )، هي حقيقة إبداعية فنّية تفرض نفسها، وليس فيها من الحلم إلاّ كثافة رموزه، وخصبها، وشفافيتها، وشاعريتها..فيها من روح التفاؤل، والضّـــوء، والثقة مقدار ما فيها من حــسٍّ عميقٍ بأشياء الأدب، ومقدار ما في قلم خلف بشير من حيويّة، وصدقٍ، وإتقــانٍ.

إذْ أول ما يطالعني هنا من تقنية السّرد القصصي عند بشير خلف ذلك الرحيل الذي ينطلق برفْــقٍ، ولينٍ من أرض الواقع في بداية كلّ قصّة، كأنه الانتقال السحري من عالم الحواس إلى عالم الخيال، والتصعيد في مناخاته، ولوالبه، ومتاهاته، ومغامراته، ثم العودة برفقٍ أيضا، وبلينٍ إلى الواقع الذي انطلق منه في البدْء، ويطول بي المقام إنْ رحْــتُ أستعرض جميع ما يعاودني، ولا يبرح يلوح في خاطري من حجارة الشكل اللغوي المُذهّب، والصياغة التعبيرية التي ترتفع بجماليتها، وشفافيتها إلى مستوى السّـرد الفنّي المهفهف.

إن قصص خلف بشير إبداعاتٌ جديدةٌ في أدبنا الجزائري الراهن..جديدة في محتواها، وإبداعها، وأسلوبها، وصياغتها..قصصٌ ممتعةٌ في كلّ ذلك إلى أقْــصى حدود الإمْــتاع.
عرض: مصطفى بلمشري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى