الثلاثاء ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم سعاد درير

من قلق الكتابة إلى قلق القراءة

قراءة في كتاب (قلق المسرح العربي) لسعيد الناجي

انطلاقا من كتاب " التجريب في المسرح، التجريب بين المسرح الغربي والمسرح العربي " الذي صدر سنة 1998، ومرورا بكتاب " المسرح المغربي، خرائط التجريب " الذي صدر سنة 2003 ؛ تتألق تجربة الكتابة عند الأستاذ سعيد الناجي وتتفتق أسرار القلق . ويأتي كتابه " قلق المسرح العربي " الصادر سنة 2004 ليعمق هذا القلق ويكون خير شاهد عليه .

1-سعيد الناجي كاتبا قلقا

" قلق المسرح العربي " حلقة أخرى من الحلقات التي ضمنها سعيد الناجي أهم قضايا المسرح العربي وهمومه ..ذلك بأن كتبه الثلاثة تعد بمثابة سلسلة متكاملة، يكمل بعضها بعضا .. هذا ما أكده سعيد الناجي وهويوضح دواعي تأليف كتابه، إذ يقول: " وفي هذا الكتاب نستأنف الحديث عن قضايا المسرح العربي وعن إشكالياته الأساسية، محاولين التفكير فيها مجددا بوعي نقدي جديد في ضوء ما وصلت إليه الممارسة المسرحية الحديثة سواء في العالم الغربي أوفي العالم العربي، غايتنا في ذلك محاصرة تطور المسرح العربي الراهن والتفكير في القضايا التي تستبد بفكر وممارسة رجاله إسهاما في البحث عن مسرح عربي أبهى وأجمل " (ص.6) .

على أن أهم قاسم مشترك بين الكتب الثلاثة يكمن في إشكالية التجريب، تلك الإشكالية التي أمست أكبر هم يؤرق سعيد الناجي ..

فكيف يتخلص الناجي من هذا الأرق؟
وكيف تكون الكتابة رهينة القلق ؟

إذا كانت صفة القلق – حسب تصريح سعيد الناجي في التقديم الصغير لكتابه – تحتمل معنيين متناقضين ؛ ما دامت تحيل على التوتر من جهة وعلى التساؤل المستمر والرغبة في استكناه حقيقة الأشياء من جهة أخرى ؛ فإن أولى علامات القلق المستبدة بالكاتب تتجلى في سيطرة جدلية النفي والإثبات،وفي الفضول المعرفي الذي قاده إلى إلقاء السؤال على نفسه أولا ثم على القارئ قبل أن يبسط موضوعه على مائدة النقد: " هل من الضروري توضيح معنى القلق ؟ قد يكون القلق سؤالا طرح ولم يحسم فيه، وقد يكون طرحا مغلوطا لقضية ما، وقد يكون حقا أريد به باطل، وقد يكون تعثر تجربة مسرحية ..لكن القلق، مهما تعددت أشكاله، سيظل تلك الهوة بين الكائن وما يجب أن يكون، بين ما تحقق مسرحيا وما يجب أن يتحقق في المسرح، فما هوكائن المسرح العربي المختلف حتما – حسب افتراضنا الأولي – عن ما يجب أن يكون عليه ؟ هذا الافتراض هوما سنحاول إثباته " (ص.7-8) .

إن الاضطراب الذي يعصف باستقرار الكتابة عند سعيد الناجي يتجلى في أكثر من مظهر .. ففي حديثه عن قلق اللغة مثلا ؛ لا يخفينا الناجي قلقه ورغبته الجامحة في نفض الغبار عن المسكوت عنه فيها، لقوله:" لا تحدوني الرغبة في استعادة هذه القضية بقدر ما أهتم بتداول بعض جوانبها المسكوت عنها، ثم إضافة ما لم يحسب عليها وهوواقع في عمقها " (ص.16-17) . إنها الحيرة التي تسقط فيها الذات الكاتبة في محاولة لملمة أشلاء المكتوب ..تلك الحيرة التي تفصح عنها جليا دينامية السؤال والتساؤل، والاجتهاد في القبض على حقيقة الأشياء والإمساك بخيوط الراحة والطمأنينة .ولعل هذا ما يؤكده سعيد الناجي في أكثر من مقام ؛ إذ إن توغله في سراديب المجهول لا يؤدي إلا إلى تشييد صرح الحقيقة . وفي هذا الصدد يقول في معرض حديثه عن المسرح المغربي: " إن عددا من تجارب المسرح المغربي مثلا لم تتجاوز إطلاق بيانات شاملة (..) والحال أنه من الصعب الاطمئنان إلى بيان أوشهادة عن تجربة مسرحية لم تبدأ بعد، لأنه بيان يعلن عن نية .. وفي المسرح لا تكفي النية " (ص.31) .

هكذا تعيش الذات الكاتبة أجواء مفعمة بالقلق، سرعان ما تخيم على أفق الكتابة .. تلك هي ذات سعيد الناجي الحائرة ..الشغوفة بطرح السؤال تلوالسؤال، ولا يهمها بعد ذلك أن نجيب عن أسئلتها ..إنها ذات مهووسة بالنبش في ما يظهر على أنه حقيقة معلومة، بحثا عن حقائق أخرى مجهولة، " فليس بين الحقيقة والخيال إلا حد رهيف يفند اطمئناننا " ( ص.42) على حد تعبير سعيد الناجي .

2- قلق المسرح العربي

ضم كتاب سعيد الناجي خمسة محاور: 1- قلق المسرح العربي . 2- نحودراماتورجيا جديدة . 3- يوسف ادريس وإشكالية البحث عن هوية المسرح العربي . 4- قلق المسرح المغربي . 5-قلق المهنية في المسرح المغربي .

من خلال هذا التصنيف المحوري نستنتج أن المؤلف ينتقل من العام إلى الخاص ومن الكل إلى الجزء، انطلاقا من تركيزه على قضيتين كبيرتين هما: المسرح العربي والمسرح المغربي باعتباره جزءا من كل .

وإذا تعلق المحوران الأول والثالث بالمسرح العربي ؛ وتعلق المحوران الرابع والخامس بالمسرح المغربي ؛ فإن المحور الثاني جاء منفردا بصيغته النظرية التطبيقية ؛ إذ تناول الظاهرة المسرحية من منطلق نظري، ثم من زاوية براغماتية تطبيقية .

فما هوهذا القلق الذي يلف المسرح العربي إذا علمنا بأن القلق عموما حالة شعورية مصاحبة للإنسان، ونتحدث هنا عن الإنسان الكاتب والإنسان القارئ ..؟

إن أول قلق يستعرضه الناجي في كتابه هوقلق الانتماء، باعتباره أول قضية نقدية يتناولها بالدراسة: فهل هناك وجود للمسرح – كشكل – عند العرب ؟ يجيب الناجي بالنفي طبعا، لأن "الذين قدموا فرضية وجود المسرح في ماضي العرب اعتمدوا على الخلط بين الأشكال الفنية وهدم الحدود بين الأجناس التعبيرية حتى تسنى لهم دمج أشكال تعبيرية أوشعائرية أوفرجوية في خانة المسرح وما هي بذلك .." ( ص.10) .

على أن الناجي لا يكتفي بمعالجة إشكالية الانتماء في المبحث الأول فحسب، وإنما بعد أن يتطرق لمجموعة من القضايا يعود ليستأنف الحديث عن الانتماء في المحور الثالث الذي خصصه ليوسف ادريس، باعتباره أول من بحث عن هوية المسرح العربي، الشيء الذي قاده إلى التجريب تنظيرا وممارسة . إذن فمحور يوسف إدريس هوامتداد لمبحث قلق الانتماء .

ثم ينتقل الناجي إلى قضية قلق اللغة، بمعنى أي لغة نختارها لتكون قريبة من الجمهور ؟ وكيف يتحرر المسرح من اللغة القلقة في مسيرة بحثه عن الخصوصية ؟

على أن أهم قلق انتاب المسرح العربي هوقلق التجريب الذي قاد إليه قلق الانتماء .. وهنا قبل أن يشرع الناجي في معالجة هذا القلق في المسرح العربي، يأخذنا في جولة تكشف عن قلق المسرح الغربي الذي طالما تساءل عما يميزه من فنون الفرجة وعن جدواه أمام استغلال الفرجة ..إلى أن انتهى إلى العودة إلى جمالية الكلمة ضمن ما أصبح يسمى العودة إلى النص المسرحي في المسرح الغربي (ص.23) .

وعن موقفه من التجريب، يؤكد الناجي أن المسرح العربي لم يؤسس قاعدة جمالية ليخرقها الفعل التجريبي ..من هنا كان التجريب تأسيسيا أوفعلا خارقا لمسرح الآخر – الغرب .

وليختصر الناجي قلق التجريب في المسرح العربي يجمل تكعيباته في أنه " تجريب للتأصيل لا للتجاوز، وتجريب لمسرح آخر غربي أولتراث ( ..) تجريب بوعي غير تجريبي، تجريب بعيد عن حركية الواقع .."( ص.32-33) .

وفي نفس السياق، يستشهد الناجي بمسرحية (بنك القلق ) لتوفيق الحكيم – أوحين يتحول القلق إلى عملة – باعتبارها مؤشرا على قلق المسرح العربي .

ومن قلق التجريب ينتقل الناجي إلى قلق الحداثة التي أوهمت بضرورة توجه الكتابة الدرامية نحوالعرض والتحرر من سلطة النص ( ص.38) ..ومن هنا انبثق قلق العرض المسرحي الذي سماه الناجي بنك القلق في المسرح العربي، لأنه ينخر تفاصيل الظاهرة المسرحية، مضمرا قلق الكاتب وقلق المخرج وقلق صناع الفرجة وقلق الجمهور ( ص.38) .

ويذكر الناجي أن النقد المسرحي كان له حظه من القلق، على أساس أن الفعل النقدي يشمل الظاهرة المسرحية عامة، إخراجا وتمثيلا وتلقيا .. وفي هذا الصدد يعتبر الناجي بداية المسرح العربي بداية نقدية أساسا، لأن خطبة مارون النقاش سبقت عرضه المسرحي (ص.82) .

وينهي الناجي قلق المسرح العربي بحديثه عن المسرح المغربي الذي عاش قلقين: قلق البداية، إذ بزغ المسرح المغربي بين اتجاه تنويري واتجاه آخر محافظ ترسخت فيه معالم التقافة التقليدية ؛ وقلق المهنية، وهوراجع إلى غياب اعتراف قانوني بالمسرح وإلى تعطيل المهنية بعد الاستقلال .

3- بحثا عن قارئ قلق

إن التفكير في الوصول إلى قارئ قلق تجل آخر من تجليات القلق الذي ينتاب سعيد الناجي .. أوليس هومن يتوق إلى قارئ قلق ؟! أوليس هومن يكشف في تقديمه الصغير عن بحثه الدؤوب عن قارئ قلق يقاسمه فوضى القلق ؟! يقول الناجي: " أترك للقارئ إمكانية الكشف عن معنى قلق المسرح العربي .. فقط أتمنى صادقا أن يكون قارئ هذا الكتاب قارئا قلقا يتساءل أكثر مما يبحث عن أجوبة، ينتج المعنى أكثر مما يستهلكه .." .

من هنا يدخل الناجي في حوار مع القارئ، يجعله يخضع لجاذبية السؤال ..فلا معرفة بدون سؤال .. ولا سؤال بدون قلق ..

يقول الناجي مخاطبا القارئ: " هل كان كل جيران مارون النقاش يعلمون أنه سيقدم شيئا اسمه المسرح ؟ لا ندري " (ص.8) . انطلاقا من هذا السؤال الذي يحمل في ثناياه معالم الإجابة ؛ تبدوسيطرة القلق على سعيد الناجي،على أنه يرفض الانفراد وحده بهذا القلق، يرفض أن يقيم طقوس القلق وحيدا، لأنه ببساطة يشرك معه القارئ . ويستمر الناجي في تجاذب أطراف الحديث مع قارئه عن النقاش دائما: " علينا أن نسلم بأن محاولة النقاش لم تقم في فراغ (..) وبناء عليه سنفترض أن محاولة النقاش كانت ترمي إلى تداول شكل غربي " (ص.17) . وما أن يمضي الناجي في تفكيك قضية اللغة التي نقل إليها النقاش ثقافة الآخر حتى يعود مجددا إلى إشراك القارئ في مسألة الاختيار اللغوي: " أي لغة شاملة نختار للتخييل ؟ وبأي لغة سنملأ فضاءاتنا المسرحية ؟ أوبعبارة أخرى، كيف نفتتح حكي متخيلاتنا المسرحية ؟ ( ص.19) .

ومن إشكالية اللغة إلى إشكالية الوعي التاريخي في المسرح التجريبي في المغرب، يضع الناجي بين يدي القارئ الحقيقة: " جاءت أوراق المسرح التجريبي في المغرب لتعيد للمسرح تاريخيته (..) ولنا أن نتصور أن أغلب أوراق المسرح التجريبية كانت ضدا على تغييب التاريخ وضدا على التصور التقليدي للاحتفالية أكثر مما كانت تعبيرا عن اتجاهات مسرحية متكاملة " ( ص.131) .

وتستمر صور مكاشفة القارئ تارة ومساءلته تارة أخرى .. صحيح أن العثور على قارئ قلق، يتذوق الكتابة القلقة ليس من السهولة بمكان ؛ ولكن غياب القراءة القلقة سيحرم القارئ بدون شك من لذة القراءة، وسيحول بينه وبين أن يرقى من مرتبة استهلاك الفكر إلى مرتبة إنتاج المعنى كما جاء على لسان سعيد الناجي .. وهنا تكمن قيمة الكتاب .

*****

المرجع:

قلق المسرح العربي، سعيد الناجي، منشورات دار ما بعد الحداثة – فاس، ط1 – 2004.

قراءة في كتاب (قلق المسرح العربي) لسعيد الناجي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى