السبت ٢٧ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم أحمد الخميسي

من وراء سحابة

في الأول من أبريل عام 1987 فارق والدي الحياة، وترك خلفه مجموعة كبيرة من دواوين الشعر والمجموعات القصصية والقطع الموسيقية والمقالات والمسرحيات. والأوبريتات، والعديد من المواهب اللامعة، وترك من ضمن ما تركه عدة أفلام من تأليفه وإخراجه، منهما فيلمان فقط كانا من إنتاجه هما:
 عائلات محترمة
 الحب والثمن.

وكان الخميسي رحمه الله شاعرا كبيرا قال عنه د. محمد مندور: «ألا حيا الله تلك العبقرية الصادقة التي وهبها الله للشاعر فتعزى بها واعتز عن كافة محن الحياة»، وكان قصاصا قال عنه يوسف إدريس: «إنه حطم طبقية القصة في مصر»، وصحفيا تباع جريدة المصري قبل الثورة على اسمه. وقال سيد ابو النجا في مجلة الهلال:
إن الخميسي وفق استفتاء حينذاك كان أشهر أبناء جيله، وقال عنه كامل زهيري إنه كان محدثا ساحرا يخلع ملوك الكلام تيجانهم ويضعونها تحت أقدامه.»

وكان قبل كل ذلك شخصية عجيبة متعددة الألوان محبا للحياة، وله حكايات طريفة لا تنتهي مع أصدقائه وخصومه، وعاش حياة تكفي كل ثلاث سنوات منها لحياة أخرى كاملة مستقلة، ولم يترك ضائقة إلا وعاشها، بدءا من النوم على كراسي المقاهي حين ترك المنصورة إلي القاهرة، مرورا بالمعتقل، والهجرة، والرفت من كل الصحف، ولم يترك عملا إلا ومارسه، فاشتغل محصل تذاكر في الترمواي، ومصححا في المطابع، ومدرسا، وجاب الريف كله مع فرق مسرحية شعبية، وكتب الأغاني التي بقيت منها (ماشتزوقيني يا ماما) كإحدى أشهر أغاني الأعراس، وأنشأ فرقة مسرحية باسمه ومثل في مسرحيات بعضها من تأليفه وبعضها لآخرين، ولكنه تألق بدوره في فيلم الأرض ليوسف شاهين، كما لمع في الخمسينات مذيعا عرف بصوته الذهبي. وامتاز قبل كل ذلك بقدرة مدهشة على الخروج من أشد المصاعب التي واجهته بروح متفائلة وقوية حتى قال عنه محمود السعدني:
إن الخميسي كالكرة كلما ضربوها إلي أسفل قفزت إلي أعلى!.

لكن كل مواهبه المتعددة تلك، وكل ذلك العطاء لم ينفعه بشيء في حياته، كما لم ينفعنا بشيء نحن أبناءه الكثيرين بعد رحيله، لأن الإبداع الثقافي في بلادنا يشبه الزكاة التي يقدمها أصحابها لوجه الله. تبقى لنا الفيلمان اللذان قام هو بالمصادفة بإنتاجهما، وأدي فيهما أدوار البطولة نجوم مثل أحمد مظهر ومحمود المليجي وزيزي البدراوي وغيرهم. الفيلمان كلفنا بهما جهة توزيع تسلمنا مرة أو اثنتين كل سنة نصيبنا. البعض نصحنا ببيع الفيلمين لنسترح من وجع الدماغ. ولسبب ما كنا نحن أبناءه الثلاثة عشر نجتمع ونتملص في نهاية الجلسة من اقتراح بيع الفيلمين دون أن يعلن أحد منا السبب الحقيقي للامتناع. ولم يكن للأمر علاقة بالمال، فعائدات الفيلمين ضعيفة. نعم، لكنها كانت تهل علينا فقط ومعظمنا في زنقة حين تشح الفلوس، ولهذا كان يراودنا شعور عجيب بأن ثمة رجلا وراء سحابة، يتابع أحوالنا وما أن تشتد الأزمة يدحرج علينا من الأعلى عطاياه وعائدات أفلامه ضاحكا بوجه مشع وهو يقول لنا: خذوا.. لكي تتذكروني وتعرفوا قيمتي يا أولاد.. . في كل مرة نستلم نصيبنا ونهيص ونشكره، وفي كل مرة تصلنا فيها الأموال القليلة نشعر بأن علاقتنا بوالدي تتجدد، ونفكر بدون وعي أننا لو بعنا الفيلمين فسوف نطفئ شعاع النور الممتد إلينا من أعلى، وحينئذ سيموت والدي ويكف عن الضحك لنا من وراء السحابة، وحينئذ ستنقطع سيرته التي تنبعث عندما نلتقي ونتقاسم الأموال ونلهج بشكره هاتفين له: صحيح أرسلتها في وقتها، ونجلس نتذكر حكاياته، وكيف دخلت عليه حجرة مكتبه ذات يوم، ووجدته جالسا وأمامه على المكتب كرة أرضية صغيرة تلف وهو سارح يتابعها بعينيه. سألته ممازحا : ماذا تفعل؟ هل تدرس الجغرافيا من جديد؟ فقال مبتسما: لا يا بني. أبحث في الكرة الأرضية عن بلد لم أقترض منه الأموال بعد! لا نريد، لا الآن، ولا مستقبلا، أن نقطع صلتنا بوالدي الذي وهبنا أعز ما في الحياة: الإحساس العميق بالكرامة والتواضع الجم، والذي يجدد تلك المعاني كلما دحرج هداياه ضاحكا من خلف السحابة قائلا بصوته العميق لكي تتذكروني.
 

تنويه من الكاتبة السورية أمان السيد للأستاذ أحمد الخميسي

لست أدري وأنا أقرأ هذه الذكريات التي التفت حولي كسوار من بريق شجي، لست أدري لم تذكرت الأستاذ عبد الرحمن الخميسي -رحمه الله- الذي جمعتني به الأقدار ،وكنت صبية عشرينية وقتها، وكان قد ناهز السبعين مريضا يقطع سعاله سعال ،ولكن كلماته،وذكرياته التي لربما ملامحي استثارتها في تلك الآونة جعلت لسانه يفيض علي بما حملني إلى زمن جميل نقي ..زمن سعاد حسني، وعبد الحليم، حيث أخذ يقص علي كيف كان من قدمها للسينما، ولا أنكر ولعي حينذاك بمثل هذه الحكايا والأخبار ..كان ذاك في طرابلس الغرب في فندق يتجمع فيه كل أقطاب العالم من سياسيين وفنانين وخارجين عن المألوف ،وكنت وقتها ألاحقهم مذهولة آتية من عالم صاف لم يعرف يوما هذه الوجوه،ولم يسمع ببعضها إلا عبر الراديو، وشاشات الأبيض والأسود!

لست أدري إن كان من يتحدث عنه الأستاذ أحمد الخميسي هو نفسه من عاش في ذاكرتي إلى أن نعته إذاعة مونت كارلو ذات يوم مرجعة إلي تفاصيل من صور ماعادت تعيش إلا في ذاكرتي أحادية الوقع والرجع..

إنه الزمن الجميل، وإنها الدنيا الغريبة، وإنها النفوس التي فيها من الأسرار ما يفيض فجأة في سيل تداعيات لا تخطر بالبال..

أتساءل الآن ..لو أنه قدر للعالم أن ينفتح على ضفتين متقابلتين، وباح كل بما عنده من المكنونات والصور والأصداء فكيف سيكون حالنا وقتها؟؟ باعتقادي أننا سنضيف إلى الزمن الجميل شلالات من أزمان جميلة ستتلألأ في سماءات ما لها جدران ونظل نستنشق العبير ،ولما احتجنا وقتها إلى جوازات عبور بين أرواحنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى