موتُ الشّعراءِ المؤقّتْ!
تسألني شاعرةٌ كورديّة، عن اختفاء الشِّعر فيما أكتبُ وفيما تكتبُ، تسألني عن هروبِه المتكرِّر!!
لا أذكرُ ماذا قلتُ لها إجابةً على سؤالِها، لكنني موقنٌ أنَّ الشعر، في الفهمِ والثقافة العربية، هو فعلُ ضرورةٍ لا غنى عنها في لحظة التأزّم النفسي، أو التوتّر، القلق، الحبّ، الفرح، الانفتاح، في تلكَ المنعطفات النفسيّة والشخصيّة يكونُ الشّعرُ مخْرَجاً عربيّاً مناسِباً. ذلكَ أنّ الشعرَ ميراثُنا التاريخي. وذلكَ أننا ننحازُ إليه متوافقين –ربما- مع أبي حيّان التوحيدي حينَ سُئلَ: "لمَ لا يُطْرِبُ النثرُ كما يطربُ النظمُ؟ أجابَ لأننا منتظمون، فما لاءمنا أطربنا".. في هذا الاقتباس يكون التعبير "نحنُ منتظمون" مركزاً لفهم نظرة الناقد العربيّ لدافعِ الكتابة وسببِ المتعة؛ لأنّ الناقدَ العربيّ حينَ يقرِّرُ "أننا منتظمون" فهو ينطَلِقُ من وجودِ إيقاعاتٍ داخليَّة في المُتَلقي العربيّ، تتطابقُ مع إيقاع الحياة بكلِّ مفرداتها، من صوتٍ لمطرٍ أو لريحٍ، أو لخيلٍ، أو لجَمَلٍ، هذه الإيقاعات الداخليَّة، هي التي تجعلُنا نطربُ للشعر.. وطبعاً فهذه الإيقاعاتُ يتمُّ توارثها، ونقلها جينيّاً من الآباءِ إلى الأبناءْ.
لكنّ سؤالَها المفاجئَ، أربكني؛ لأنني أخاف رفعَ الغطاء عنه، باغتني جداً..
أكادُ أجيبها إنَّ سببَ غياب الشّعر يكمنُ أيضاً في "الإيقاع الداخليّ"، الذي يتخَلْخَلُ، و"يتخربشُ" بسببِ قذائفِ "حروب الصّيف" التي تتساقطُ كلَّ لحظةٍ على غزّةَ ولبنان. وربما تمتدُّ لتشْملَ قُطْراً عربيّاً آخر. وكذلك، فالإيقاع الداخليّ المسبِّب للشعرِ، يتشظّى بسببِ أقوالِ "العقلانيين" الواقفين بحزْمٍ لكلِّ فعلٍ "متهوِّر"، والرافضين لما يقومُ به "العاطفيون" الخارجون إلى الشّارعِ لإعلانِ رفضهم الأبديْ.
وهكذا يقفُ الجسدُ وسطَ هذا الارتباك وحيداً. ولا يستطيعُ إلا أن يمْسكَ بآلةِ التحكم، ليغيّرَ محطّةً إخباريّةً إلى محطَةٍ أخرى، لينتقلَ من تحليلاتٍ لأحدِ الساسة إلى بائع كلامٍ آخر. وهكذا رويداً رويداً، يموتُ "إيقاعُنا الداخليّ" ونبتعدُ أكثر عن جمرةِ الشّعر، ونصبِحُ وسطَ هذا الخلل الوجوديَّ نمنّي أنفسَنا بكأسِ ماءٍ يبلِّلُ جفافَ روحِنا.
"لكنَّ النظرةَ إلى الشعرِ تغيّرتْ تبعاً لاختلافِ الذائقة وإيقاع الحياة والرؤى الحضاريّة والمعرفيّة" لكنَّه –الشعر- احتفظَ بشكلٍّ دائمٍ بسلبيَّتِه غير القادرة على تغيير المنظومة الاجتماعيِّة أو النفسيّة المحيطة بالكاتب، وأصبحَ –منذُ زمنٍ بعيدٍ- فعلاً فرديّاً خالِصاً يُعالِجُ ويعكِسُ حياةَ كاتبِه. والكاتِبُ بدورِه يستخدمه في التفريغِ النفسي لما يمِّرُ به من مآزِق نفسيَّةٍ، أو حتى للتعبيرِ عن لحظاتِه البهيَّة والممتعة، لكنَّه في كلا الحالتين الإيجابيّة والسلبيّة، يعالِجُ أموراً فرديَّةً فقط.
والقارئُ من جهةٍ أخرى، أصبحَ تائهاً لا يقدِرُ على إظهارِ ردة فعله تجاه الأحداث، لأنَّه بدورِه يبحثُ من خلالِ القراءة في النصوص الشعريّة، على معادِلٍ موضوعيٍّ يشاركه علاجَ أزماته الفرديّة.
وهنا مثلاً يمكن أن أقتَبسَ مرَّة أخرى، فقرةً شعريّة لجرجس شكري:
"فقط حين أكره العالم
أختفي في سترتي
فتمشي هي وحيدة
لا تكلم أحداً"
هذا المقطع الشعريّ يعكِسُ الفردانيِّةَ في النصوص الشعريّة، سأركزُ بشكلٍ سريع على الأفعال في المقطع الشعري السابق، وهي أربعةُ أفعالٍ مضارعة، لكنَّ الفاعلَ متباينٌ فيها، نجدُ أن المتكلِّمَ (=الشّاعر) هو الذي يمرُّ بأحداث الفعلين الأول والثاني، (حين أكره العالم، أختفي في سترتي)، ليكونَ الاختفاءُ مركزاً للتحوِّل في النص، ورمزاً لموتِ الشّاعر، لينبعثَ فاعلٌ آخر في النصّ، وهو هنا السترة، التي ترمزُ –ربما- إلى قشرةِ القبر. إذن بعدَ موت الشّاعر تتحوّلُ سترته إلى الفاعل لتمشي وحيدةً، وطبعاً، لا تكلِّمُ أحداً.
هذا مقطع شعريِّ يقولُ: إنَّ "كُرهَ العالم" يؤدي إلى موتٍ مؤقَّتٍ لجسد الشّاعر، ليتحوّل إلى كائن هلاميّ، ومن ثمّة تصبحُ الأشياء المحيطة فيه هي القادرة على إبداءِ ردود الفعل.
الشعرُ إذن، يحاوِلُ رفع قيمة اللحظة الزمنيّة الفرديّة، ليعزلها عن تشابكها مع لحظات المجتمع الأخرى، فيبدو الشّعر المكتوب الآن، فردي وغائبٌ عن الوعي الجمعيّ.
الزمن، بمعناه الديمومي، هو الشاهد الوحيد على الأحداث التي يمرُّ بها "الجسد الكليّ" لقوميّة ما. ولأنّ هذه القومية -العرب مثلاً- تختار ضغطَ تاريخها الطويل في لحظات فقط، لتستطيع لاحقاً استهلاكها في جلسة الحكواتي، فهي إذن غير قادرة على الاستفادة من الخبرات التراكميّة الحادثة نتيجةً لهذا الزمن المضغوط!
وأنا حينَ استقبلتُ سؤالَ الشّاعرة الكرديّة، أجبتها بتسرِّعٍ، لكنَّ سؤالَها ظلَّ ينخرُ في عظمي، ولا أعرف تحديداً لماذا يغيبُ الشّعر عني، هذه الأيام. أو عنها. لكنني واثقٌ أننا وحيدون تماماً. وغير قادرين على أيِّ شيءٍّ سوى تغيير محطات التلفاز، لنشارِكَ ونهتفَ بصوتٍ عال..
كلُّنا مقاومة!