موســيقى وحــكايات
لاتخفى عن أحد العلاقات الوطيدة التي تعقدها الموسيقى مع نظيراتها من الفنون والعلوم المختلفة من قبيل المسرح والسينما والرقص والشعر والرواية والطب والرياضيات وغيرها. كما لا يخفى عن أحد ذلك الارتباط القوي الذي يجمع بين الطفل والموسيقى. أطفال زماننا يرتبطون بالأنواع المتباينة للموسيقى العصرية مثل الهيب هوب والتيك تونيك والإيمو وغيرها. يستمعون إليها ويرقصون على إيقاعاتها ويتابعون أخبار مغنيها. وفي مقابل انجذابهم إلى تلك الموسيقى ذات النغمات الخفيفة لا نراهم ينجذبون بكثرة إلى أنواع فنية أخرى منها الكتابة مثلا. وإذا نظرنا إلى هذه الظاهرة من الزاوية التعليمية تخصيصا استنتجنا أن الكتابة تعد لونا إبداعيا صعبا يتطلب تقنيات وممارسة ودربة من أجل تلقينه للصغار في حصص التعبير والإنشاء. وربما كانت الصعوبة حاصلة من هذه الناحية.
في هذا الإطار الثلاثي: الطفل والموسيقى والكتابة القصصية، وفي إطار رغبة تشجيع أطفالنا وتلاميذنا على الكتابة والإبداع في ذلك النوع الذي قد يبدو في الظاهر أنه خاص بالكبار فقط؛ كانت تجربتي التعليمية التي عنونتها ب "موسيقى وحكايات". وهي تجربة مارستها مع تلاميذ السلك الثانوي الإعدادي المنحصرة أعمارهم بين (11و15سنة) توخيت منها دفعهم إلى الكتابة القصصية انطلاقا من ذلك المحفز الذي يحبونه وينجذبون إليه ألا وهو الموسيقى. تمت التجربة بالمركب التربوي والثقافي آية بمرتيل. وقد صاحبتْ فكرةَ المشروع التي كانت ترمي أساسا إلى تنمية ملكات الكتابة لدى التلاميذ وتشجيعهم على خوض غمارها مجموعةٌ من الأهداف التعليمية والتربوية منها: تمكين التلميذ من استخدام لغة عربية سليمة، وتنمية شخصيته الإبداعية، واستغلال الحاسوب في كتابة نصوصه القصصية وتنظيمها، وتمكينه من مواجهة الجمهور من خلال قراءته وعرضه لقصته، وبداية احتكاكه بمن له تجربة في هذا المجال، إلى غيرها من الغايات التي طمحتُ إلى أن تتحقق من خلال "موسيقى وحكايات". وقبل خوض التجربة بمختلف مراحلها دارت بخلدي عدة أسئلة من بينها:
– ما الموضوعات القصصية التي يُنتظر أن يعالجها أطفال الجيل الحالي؟
– هل سيتأثرون فعلا بالموسيقى التي اقترحتها عليهم؟
– ما حدود التزامهم بالموسيقى المقترحة؟
– هل سيهتمون أصلا بالتجربة؟
كانت البداية في الأسبوع الأول من شهر فبراير 2009 حيث عُمم الإعلان والملصقات من أجل الإخبار بانطلاق التجربة، وكانت أول جملة فيه: "لنستمع إلى موسيقى ولنكتب قصة".
أما البداية الفعلية المتعلقة بـ "التصفيات" فقد تمت في الأسبوع الثاني من شهر فبراير. خلال تلك الفترة استمع التلاميذ إلى مقطوعة موسيقية صامتة مسجلة من عزف الپيانيست ريشارد كليدرمان Richard Clayderman. ومن خلالها حاولوا تخيل وكتابة قصص قصيرة متفاوتة الطول والموضوعات.
وأعترف بأني لم أكن أتوقع ذلك الاندماج الكلي الذي حصل بين التلاميذ وبين المقطوعة على الرغم من كلاسيتها ورومانسيتها وهدوئها. فقد انكبوا على الأوراق البيضاء محاولين تحدي فراغها. وفي سكون تام مثير للانتباه راحوا يتخيلون صورهم، ولوحاتهم، وكل ما بدا لهم. ثم بعد ذلك كتبوا..
كتبت الفئة الغالبة منهم عن مسلسلات تلفزية شاهدوها، وعن رسوم متحركة، وعن أنواع مختلفة من القصص أدمجوا بعضها في بعض. أما الفئة القليلة منهم فقد كتبت قصصا أصيلة خاصة بهم. وقد اختيرت هذه الفئة القليلة المكونة من خمسة عشر تلميذا لحضور ورشات أطرها أساتذة متخصصون في فنون الكتابة عموما ولهم اهتمام بالطفل بصفة خاصة.
في صبيحة يوم السبت14 مارس2009 أقيمت بقاعة السندباد التابعة للمركب التربوي والثقافي آية الورشة الأولى من ورشات "موسيقى وحكايات" بحضور الكاتب والقاص الدكتور خالد أقلعي. وخلال هذا اللقاء الأدبي قرئت خمس عشرة قصة من القصص المنتقاة في التصفيات الأولى من هذا النشاط. وإثر القراءات علق د. خالد أقلعي على كل نص وقدم ملاحظاته حول الجماليات الحكائية التي تميزت بها القصص المشاركة؛ مثل الاسترجاع، والخرافة، والعجائبية، ومفاجأة القارئ. ولم يخل اللقاء من حكايات طريفة رواها د. خالد أقلعي عن أنطون تشيكوف ودوستويفسكي وغيرهما مما أضفى على الصبيحة طابعا ممتعا، خاصة وأن نغمات الموسيقى كانت مصاحبة للقراءات القصصية للتلاميذ ومختلف تعليقات خالد أقلعي.
ثم التقى التلاميذ المشاركون في ورشات "موسيقى وحكايات" يوم الجمعة 10 أبريل 2009 مع الأديب والروائي الدكتور محمد أنقار ابتداءا من الساعة الرابعة مساءا. وبعد أن قدم الأستاذ هشام التايدي إلى التلاميذ ضيف هذه الورشة؛ قرأ المشاركون إبداعاتهم على التوالي في جو أدبي موسوم بعوالم الحكاية والقص والخيال والموسيقى. وقد قدم محمد أنقار ملاحظاته وتعليقاته حول كل قصة على حدة مشيرا إلى غلبة الحس الأسطوري أو الخارق على كثير من القصص المشاركة. وقد اقترح على التلاميذ المشاركين تجربة الانطلاق من ذاتيتهم وواقعهم وبيئتهم. كما نوه محمد أنقار بطرائق الإلقاء الجميلة والمعبرة التي قرأ بها مجموعة من التلاميذ قصصهم، وأكد غير ما مرة ضرورة القراءة ومداومة الكتابة حتى يتمكن التلاميذ في النهاية من تحقيق حلمهم في الكتابة والتأليف والإبداع.
وكان للتلاميذ المشاركين في ورشات "موسيقى وحكايات" يوم الجمعة 17 أبريل 2009 لقاء ثالث مع الأديب عرفة بلقات. وبعد تقديم مسيِّرة الورشة الأستاذة سعاد أنقار ضيفَ الأمسية، قرأ التلاميذ إبداعاتهم صحبة الموسيقى، ثم استمعوا إثر ذلك إلى الملاحظات التي أبداها لهم الأستاذ بلقات. وقد عبر ضيف الورشة الأخيرة عن إعجابه بكثير من القصص، ونوه بكثير من التقنيات الحكائية المستعملة فيها مثل خرق أفق الانتظار، واستعمال المجاز، والاعتماد على تقنيات شعورية مثل "الفرح" و"الحزن"، و"الفقر" و"الغنى"، وتوظيف الوصف بطريقة جيدة، والانفتاح على الواقعية والرومانسية إلى غير ذلك من التقنيات التي رصدها في الإبداعات المقدَّمة من قبل التلاميذ. وبعد استماع المشاركين لعديد من الملاحظات النقدية القيمة ختم ذ. عرفة بلقات اللقاء بسرد قصة قصيرة له عنوانها "رحمة ربي".
وفي يوم الأربعاء 22 أبريل 2009 وخلال الملتقى الرابع للمركب التربوي والثقافي آية تم تتويج القصص الثلاث الفائزة بالمراتب الأولى، وقد كانت على التوالي:
– وضاع الأمل، للتلميذة دعاء السخايري
– ذكريات، للتلميذة شيماء حنيفي
– المتاهة، للتلميذ أمين بن شريف
بعد انتهاء هذه المراحل الثلاث من تجربة "موسيقى وحكايات" التي بدأت بالتصفيات الأولى، ثم الورشات الثلاث، وأخيرا التتويج دارت بخلدي مجموعة أسئلة مختلفة عن الأسئلة السابقة. من ذلك:
– لماذا هذا العدد القليل من التلاميذ الذي أبدع قصصا أصيلة؟
– لماذا كان عدد التلميذات أكبر من عدد التلاميذ؟
– لماذا هذا الانجذاب إلى عناوين تحمل معاني الضياع، والتيه، والذكرى المنتهية؟
سر انجذاب العدد القليل من التلاميذ إلى الكتابة الأصيلة للقصة يمكن تفسيره حسب رأيي برغبة الطفل في اللعب المتحرر والاستمتاع بالشيء المقدم له. لذلك فالأطفال عموما يقرؤون ولا يكتبون، ويستمعون إلى الموسيقى ويرقصون على إيقاعاتها ولا يؤلفونها. وفي هذا السياق توجد كثير من الأغاني التي تغنى للأطفال في شكل حكاية، والأغاني الفرنسية في هذا المجال كثيرة نذكر منها على سبيل المثال قصة الضابط الانجليزي مالبرو.
ويبدو أن الغرب عموما يهتم بهذه الثلاثية المشكلة من: الطفل ـ القصة ـ الموسيقى. فمن خلال قيامنا بعملية بحث في الشبكة العنكبوتية عثرنا على مقالات وأخبار تقصد إلى الجمع بين القصة والموسيقى المقدمة للأطفال. بل إن الأمر تطور نقديا من الجانب الاصطلاحي وبدأ البحث عندهم عن الفرق بين اصطلاحات. لكن الملاحظ أن هذه المقالات والأخبار تؤكد بصفة عامة أن الطفل يستمع ويتلقى ولا يكتب، بخلاف التجربة المقترحة في "موسيقى وحكايات" حيث انقلبت الآية، إذ عوض أن يكون الطفل مستمعا ومتلقيا تحول إلى كائن يبدع بواسطة الكتابة.
غير أن تلاميذنا عندما كتبوا كانت معانيهم وأفكارهم تعبر عن الضياع، والتيه، والرحيل، والأنانية، والفشل، والاختطاف، والألم وغيرها من الأحاسيس السلبية. ربما كانت الموسيقى ذات النغمات الهادئة البطيئة التي استمعوا إليها هي التي أوحت إليهم بهذه المشاعر "السلبية". وإذا كانت اللغة الموسيقية عموما ليست لغة مباشرة، فإن جل التلاميذ حولوا جمل المقطوعة الموسيقية إلى حكايات يغلب عليها طابع الحزن أو الألم؛ كأنها تحدثت إليهم مباشرة، وباحت لهم بمكنوناتها المبهمة.
تلك بإيجاز بعض الانطباعات والأفكار التي صاحبت تجربة "موسيقى وحكايات" للموسم الدراسي 2008 – 2009. وفي النية أن تكرر التجربة في الموسم الدراسي المقبل، آملة باستمرار النبش في خيال التلميذ المغربي، واستشراف طرق التعبير اللغوي والفني لديه، وتشجيعه على خوض عوالم الكتابة الفسيحة في سن مبكرة.