نصر أكتوبر في لوحات
دخل التلميذ من باب الشقة متوجها على الفور نحو جده، ألقى حقيبته وتعلق برقبته وقال:
جاء وقتك يا جدى الحبيب.
ضحك الجد وعدّل من وضع نظارته وقال:
– الآن فقط جاء وقتي، وماذا كنت أفعل طوال عمري؟!
قال الحفيد:
– أقصد أنك كنت بطلا من أبطال نصر أكتوبر العظيم، وجاء وقتك لأنّ مدرس الرسم طلب من كل تلميذ رسم لوحة معبرة عن الحدث العظيم.
قال الجد وعلامات الجد على وجهه.
– فعلا جاء وقتي.. ولكن أتريد لوحة واحدة فقط؟
– بالفعل يا جدي لوحة واحدة لا تكفي، ولكن أريدك أن تتخير لي مشهدا من مشاهد هذا النصر الكبير، فأنا أتمنى أن تكون لوحتي هى أكثر لوحة تعبرعن أكتوبر 73 وما حدث فيه من منجزات.
قال الجد:
– هذا جميل سوف أحكي لك بعض المشاهد وأنت تتخير المشهد الذي تحب أن تسجله.. فلنختر مثلا لوحة الطائرات المصرية وهى تعبر قناة السويس.
– لا يا جدي، هذه اللوحة عادية وقد رسمها كثير من الطلبة.
– لا ليست عادية حتى لو رسمها ألف طالب.. من يستطع أن يرسم أو يتخيل إقلاع أكثر من مائتي طائرة مختلفة الأنواع، والسرعات، والتسليح من قواعد ومطارات متعددة ومتباعدة على امتداد الجمهورية، وهذه الطائرات قامت في مجموعات من ثمانى إلى اثنتي عشرة طائرة، لتطير من أماكنها في أوقات مختلفة وتصل جميعا في وقت واحد، وتتجمع على ارتفاعات منخفضة جدا حتى لا تلتقطها ردارات العدو الصهيوني، ثم تتجه كل هذه المجموعات إلى منطقة قناة السويس وتعبرها الساعة الثانية إلا خمس دقائق ثم تأخذ كل مجموعة اتجاهها نحو أهدافها في عمق سيناء على امتداد مائة وستين كيلو مترا، وتصل كل المجموعات إلى أهدافها في وقت واحد ، وتوجه ضربتها المفاجئة على مواقع العدو الحيوية والتى يدافع عنها بأحدث المدفعيات المضادة للطائرات، وبانتهاء مهمتها تعود كل هذه الطائرات وبلا خسائر تقريبا وتتجه كل مجموعة إلى القاعدة التي خرجت منها.
ضم التلميذ فمه وكان فاغرا طوال الوقت ثم احتضن جده وهو يقول:
– يااااه يا جدي أنت تحتفظ بكل هذه التفاصيل في ذاكرتك حتى الآن..؟
– نعم يا ولدي، إنها محفورة في رأسي.
– فعلا يا جدي هذه لوحة بديعة في الواقع لكني أخشى ألا أرسمها بدقة تعبر عن كل هذه المعاني.
قال الجد:
– أصعب ما في هذه اللوحة أنك ترسم جميع الطائرات في اتجاه واحد ذاهبة أو عائدة.
– ولكن يا جدي أريد أن أصور فرحة البشر.. الجنود وهم يرفعون أعلام النصر ويكبرون، فرحة الجنود بنجاح الضربة الجوية التي كانت مفتاحا للنصر، وسببا لارتفاع معنوياتهم..
قاطعه الجد قائلا:
– الصورة هنا ستعتمد على نظرة العين وتعبير الوجه، وهذا صعب جدا لأنك بذلك تجعل الجنود كالتماثيل وهو ما يتنافى مع الحركة التي تعطي الحياة للصورة.
– وما العمل يا جدي؟
فكر الجد وقال:
– إذاً ارسم لوحة أخرى ولتكن التمهيد النيراني للمدفعية.
– نعم يا جدي هذا الذي بدأ بعد الضربة الجوية.. احكي لي ماذا حدث في التمهيد النيراني.
اعتدل الجد وقال:
– انطلقت النيران من فوهات أكثر من ألفي مدفع على طول الجبهة من أعيرة مختلفة وأنواع متعددة تدعمها الصواريخ التكتيكية أرض أرض لمدة ثلاث وخمسين دقيقة متواصلة، تطلق عدة قصفات على مواقع العدوالغاشم، ونقطه الحصينة الأمامية، ثم تنتقل النيران إلى أهداف العدو في المواضع الخلفية وتعود مرة أخرى على مواقعه الأمامية، ثم تصمت لعدة ثوان .
– بالطبع ظن العدو أن التمهيد النيراني قد انتهى؟
– تمام يا ولدي هذا ما حدث .. وبدأ جنود العدو يخرجون من ملاجئهم ليحتلوا أماكنهم على الساتر الترابي بالضفة الشرقية.
– وفوجئوا بقصفة نيران أخرى أحدثت أكبر الخسائر في الأفراد والمعدات.
– تخيل يا حفيدي العزيز مدى التأثير الذي أحدثه سقوط أكثر من عشرة آلاف دانة مدفعية في الدقيقة الأولى فوق أهداف العدو البعيدة، والقريبة.
صفق الحفيد فرحا:
– يااااااه عشرة ألاف دانة مدفعية، إنه شيء رائع بالفعل، وأروع ما فيه تصوير مدى الرعب على وجه الجندي الإسرائيلى..
ثم فكر قليلا وقال:
– ولكني أريد تصوير الفرحة في عيني الجندي المصري.
قال الجد:
– إذاً عليك برسم المرحلة الثالثة.
– تقصد دور القوات المكلفة باقتحام خط بارليف.
– نعم.
– لقد رأينا هذا المشهد مرارا في التليفزيون.
– وكيف لمشهد تليفزيوني من جانب أن ينقل مدى البراعة التي عليها الجندي في تلك اللحظة.
– لقد شوقتني يا جدي أن أسمع منك.
– إذا اسمع، لقد انطلقت قوات المشاة والصاعقة والمهندسين العسكريين فاحتلت زوارقها المطاطية والخشبية لتعبر القناة تحمل المرحلة الأولى لقوات الاقتحام ثمانية آلاف مقاتل.
– نعم يا جدي رأيت في التليفزيون الجنود البواسل يتسلقون الساتر الترابي بالوسائل المبتكرة، وسلالم من حبال، وتتوالى موجات من البشر كل عشرين دقيقة حتى أصبح لقواتنا عند غروب الشمس أكثر من ثلاثين ألف مقاتل.
قال الجـد:
– وبينما رجال المشاة يقتحمون النقط الحصينة بخط بارليف هناك لوحة أخرى ترسم وهى انطلاق عناصر الصاعقة، ومجموعات اقتناص الدبابات المسلحة بالصواريخ المضادة للدبابات إلى عمق العدو لتدمير نقطه الحصينة المعادية، بينما قامت عناصر المهندسين العسكريين بإقامة المعديات والكباري حتى صار في الساعة الثامنة والنصف أكثر من ثلاثين معدية مع الانتهاء من بناء أول كوبري.
صاح الحفيد فجأة:
– الله أكبر
قال الجد:
– تمام هذا ما حدث.. جميع الجنود في مختلف المواقع صاحوا في آن واحد الله أكبر.. صيحة مقيدة من الله.. سبحانه أطلقها على ألسنتهم في وقت واحد..
شرد الحفيد قليلا فعاجله الجد:
– ويبدو أنك توصلت إلي اللوحة التي في خيالك؟
– لا يا جدي .. بل فكرت في رسم ثلاث لوحات بكل منها بعض التفصيلات تكمل إحداها الأخرى وأضعهم في تسلسل ليس داخل المدرسة بل على جدارها الخارجي.. وسأدعو كل الزملاء للاشتراك في رسم هذه اللوحة الجدارية ليضع كل منهم فيها مشاعره فتأتي اللوحات متناغمة كما حدثت المعركة متناغمة.
وضع الجد يده على كتف حفيده وقال:
– ولا تنس حفيدي العزيز أن ترسم في وسط اللوحة علم مصر مرفوعا وحوله الجنود البواسل يهتفون.. الله أكبر.. الله أكبر.