نظرية العشاء الأخير
الحوادث الصغيرة هي التي تلقي الضوء الكاشف على الحقائق الكبيرة.
وقد تبدو غير مهمة للوهلة الأولى،لكن بعد زوال صدمة الحقائق الكبرى تأتي أهميتها فيما لو كان من الممكن تذكرها،كان يشعر في تلك الليلة بأنَّهُ لا شيءٌ أو أنَّهُ ليست له أية أهمية في زحمة هذا الكون الفسيح،وموته وحياته سواء فلن يقدم أو يؤخر شيئاً،هذا الشعور جعله يشعر برعبٍ وفزعٍ كبيرين،فماذا لو كان العشاء الذي تناوله مؤخراً هو عشاؤه الأخير،ولن تواتيه الفرصة في أن يتناول العشاء مرةً أخرى،وربما لن يستيقظَ من النوم،هذا إذا ما هو تمكن من النوم أصلاً في هذه الليلة الليلاء،واستغرق في نومٍ عميق دون أن يشعر بنفسهِ،وعندما استيقظ في الصباح كان في غاية الدهشة منْ أنَّهُ لم يَمُتْ،وما زال حياً يُرْزَقْ فَحَمَدَ الله وشكره على أن أعطاه فرصة ثانيةً لينظر في حياته الماضية،إنَّ الذي يواجه الموت وينجو يشعر بجمال الحياة،لقد شعر بأنَّ هذا اليوم الجديد قد أعطاهُ على كلِّ الأشياء التي فشل في الحصول عليها،وبدت لهُ الأشياء والناس المحيطين بهِ وكأنَّه لم يرهم من قبل،لأنهُ ينظر إلى الأشياء كما هي فقط،بغض النظر عمّا إذا كانت جميلة أم قبيحة،نافعة أم ضارة،أو أي وصفٍ آخر قد يستحوذ على تفكيره و! يضيع الصورة الحقيقية للشيء،وقال لنفسه:
-سأحاول أن لا أكون تافهاً كما كنتُ طيلة أيام حياتي.
وتكاملت في ذهنه جوانب نظرية العشاء الأخير التي شغلت له باله في ما بقيَ لهُ من حياتهِ،فلكلِّ إنسانٍ ومهما كان طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً،عشاءٌ أخير يتناوله ولا يتناول بعدهُ العشاء مرةً أخرى،لأنَّهُ سينتهي أجلهُ في هذا العالم ومن ثم ينتقلُ إلى عالمٍ آخر،لكن الفترة بين إنتقاله إلى العالم الآخر وبين تناوله لعشائه الأخير تختلفُ من إنسانٍ إلى آخر،فالفترة قد تطول إلى يوم أو أكثر وقد تقصر إلى ساعات أو دقائق،أمّا هو فقد كان يظنُّ في كلِّ مرةٍ يتناول فيها عشاؤه بأنَّ هذا هو عشاؤه الأخير،لقد صار مسكوناً بحمى العشاء الأخير، وأيقنَ بأنَّ الإيمان بهاجس العشاء الأخير والإستعداد له في كلِّ الأوقات هو الدواء السحري لإحساسه بتفاهة الحياة،إلى درجة أنَّه إقترح على بعض أقربائه وأصدقائه بوجوب كتابة العشاء الأخير الذي تناوله الميت تحت اسمه في قطعة الحجارة التي توضع عند رأس الميت في المقبرة،وبالطبع كانوا يأخذون كلامه على أنَّه طرفةٌ أو فكاهة بينما كان هو في غاية الجدّية،فلا بدَّ أن يكون للعشاء الأخير الذي يتناوله الإنسان وسلوكهُ خلال تناوله للعشاء،علاقةٌ ما بطريقةٍ أو بأخرى بحالةِ وفاتهِ،وكان عليه أن يُدَّونَّ بدايات ظهور ونمو الفكرة في ذهنه،كانت بدايات الحالة قد جاءت بعد وفاة صديقه الرائد-قوات خاصة-حسام الدين.
كان لقائهما صدفةً في السوق،فأَصَرَّ عليهِ الرائد حسام أَنْ يتناولَ العشاء قبل أن يغادر هو المدينة،حاوَلَ الاعتذار لكن دون فائدة،ساعتان قبلَ مَغيب الشمس،شهورٌ طويلة قد مَضَتْ منذُ الاحتلال الأمريكي،وكلُّ شيء يسير نحو الأسوأ،فالكهرباء من سيئٍ إلى أسوأ،والناس أصيبت باليأس بعد خيبة آمالها،والأمور تنحدرُ نحو الأسوأ،والأخبار التي تتناقلها بعض القنوات الفضائية تهدد بالكوارث أو بنشوب حربٍ أهلية،ولابدَّ من وجود مَنْ يقفُ خلف هذا الإعلام الموجه،والإنفجارات والسيارات المفخخة تنفجرُ فجأةً في كل مكان،لتأخذ معها عدداً من أرواح الناس القريبين منها،دون أن تميز بين البريء والمذنب،بين الطفل الصغير وبين الشيخ الكبير،ولا بين الغني والفقير،واختلطت المصطلحات،كأوراق اللعب وأعيد توزيعها وأعطيت معاني مختلفة،ومع كلِّ هذه المصاعب فإنَّ الحياة مستمرة،ولا زالت الشمس تشرق صباح كلِّ يومٍ جديد،وأناسٌ يعيشون أفضل من قبل،مع إنَّهم كانوا من قادة النظام السابق،ومن أكبر المستفيدين منهُ، لكنَّهم يؤمنون بركوب الموجة،ويرددون المثل الشعبي القائل:
-الذي يتزوج أُمّي يُصبِحُ عمي-
لم يرَ صديقهُ منذُ أن انتهت الحرب التي لم تنتهِ شجونها،وكأنَّ هذا اللقاء بينهما قد حدث ليحيي الكثير من الذكريات الأليمة،والتي كان أكثرها إيلاماً،موقفه أمام جنوده وهم يرجمون من قبل جميع أفراد الوحدة،بعد أن ألقت القبض عليهم مفارز أمن اللواء بسبب محاولتهم الهروب،وهو لا يستطيع أن يقدمَّ لهم شيئاً،مع أنَّهُ هو الذي أمرهم بالهروب،وبتوجيهاتٍ من الآمر شخصياً إلى آمري السرايا وباقي الضباط،بأنْ يقنعوا جنودهم بالهروب،لكي لا تكلف وحدتهم بأي واجبٍ خطير ويبرروا هروبهم شخصياً فيما بعد،لكم يشعر بالخزي والعار،لا بدَّ أنَّ الآمر أيضاً كان يشعرُ بالعار،لأنَّهُ كان دائماً يشكو من أنَّهُ لم يستلم قطعة الأرض المكرمة،بسبب أنَّ محل ولادتهِ كان في القرية،كما مثبت في الأوراق الرسمية،لكنَّه كان قد ولد في بغداد،وعندما يشعرُ الإنسان بالعار فإنَّ هذا الشعور لا يقودهُ سوى إلى المزيد من العار،أو الهاوية وبسرعةٍ تتناسبُ مع حجم شعورهِ،هو يتذكر ذلك اليوم،هذه الذكريات التي كانت قد أوشكت أن تضيع في غياهب بئرِ النسيان،حيث كان الاثنان في السوق،وكان اللقاء حاراً مليئاً بالأشواق،واشتبكا يقبِّلُّ أح! دهما الآخر:
-رائد حسام،الحمد لله على سلامتك يا أخي والله كنت مشغولاً عليك وعلى الباقي.
-الحمد لله على سلامتكَ أيضاً،كيف تجري الأمور معك؟
– بخير،وأنتَ ماذا فعلت يوم الثلاثاء،المصادف الأول من نيسان،بعد أن غادرتكم لأنتقل إلى منصبي الجديد؟
-لا بل أنت الأخبار عندك فكيف جرت الأحداث هناك مع السيد القائد.
-أواه،إنَّهُ لشيءٌ مؤلمٌ حقاً،فبعد أن استلمت منصبي،بيوم كانت قيادة فرقة بغداد كلَّها بخير،ولم يصبْ منها جنديٌّ واحد،فقد كان القائد قد حركَّ ألويته الثلاثة دون أن يشعر بها أحدٌ،لذا فإنَّ القصف جاء على مواقعنا القديمة وهي مموهة وكأنها مشغولة بالقطعات،اللواء الخامس فقط كان قد انتشر في بغداد،أما الرابع والسادس،فقد خُبِّئَا بين المزارع،بين مدينة الحلة وكربلاء،لكن الأوامر جاءت بأن يتحرك اللواءان الرابع والسادس مشاة،للقيام بهجومٍ مقابل،في وضح النهار،رتلٌ يمشي في الشارع بدون غطاء جوي،ولا إسناد من الدروع ليقوم بهجوم مقابل على قطعات مدرعة،وتصور أنت الذي ممكن أن يحدث لهم في ظل سيطرة جوية معادية.
-لقد كانت كتيبتنا في هذا الجحفل المتقدم الذي تتكلم عنه،وأصيب آمر الكتيبة في بطنهِ،وكان يتوسلُّ بسائقه النائب ضابط علاء بأن لا يتركه،لكنَّهُ تركه وهرب فقد كانت الدبابات المعادية يسمع صوتها وكأنها خلف التل القريب،ومن ثم صارت ترى بالعين المجردة،فهرب نائب ضابط علاء وترك الآمر ينزف،وكانت إصابته قد جاءت في العمود الفقري،فأصيب بشللٍ تام،وكان من الصعب نقلهُ.
– وسيارة الآمر أين ذهبت ولماذا لم تستخدم في نقلهِ؟
-لقد تركنا السيارات واختبأنا من شدة القصف،وأنا عندما وصلت إلى الآمر كان قد فارق الحياة،ولو كنتُ قد وصلتُ إليهِ قبل أن يتوفى لما تركته لكني مع ذلك توقفتُ عندهُ حتى دفنته وواريت عليه التراب.
-إلى رحمة الله،لم ينفعه النائب ضابط علاء،والذي دافع عنهُ كثيراً وخاصةً في مسألة تسجيل أسماء المتميزين عندما سجل اسمه،وثارت المشاكل بعد أن اشتكى النواب ضباط الآخرين.
-يا أخي والله كان من حقهم أن يشتكوا،فالأسماء التي رفعها الآمر على أنهم متميزون لم يكن فيهم واحدٌ يستحق أن يُكْتَبَ اسمه،ليأخذ فيما بعد في كلِّ مناسبةٍ وطنية مبلغ مائتين وخمسين ألف دينار،وفي بعض الأشهر ثلاث مناسبات،ونحن نستلم راتباً لا يصل عُشرَ مبلغِ مناسبتهم هذه،ولا يكفينا لدفع ثمن المواصلات عندما نذهب في الإجازة الدورية.
-سيدي رائد حسام،لقد إنتقل الآمر إلى رحمة ربِّهِ فما جدوى مثل هذا الكلام،فسواءٌ إنْ كان محسناً أم مسيئاً فحسابه عند ربَّهِ.
-وأنت ماذا فعلت مع السيد القائد؟
-يوم السبت،عاد القائد من مؤتمرٍ مع رئاسة الأركان،وكانت الدموع في عينيه،لم يتمكن أبداً في أن يخفي أثرها،ولقد علمنا من سائقهِ أنَّه قد تشاجر مع رئيس أركان الحرس،بعد أن قال لهُ الأخير:لا تنسَ نفسك وإلاّ ستتعرض للحساب؟فقال له:أنا لم أنسَ نفسي،لكنكَّ أعدمت قيادة قوات بغداد وقطعاتها بأوامرك،وأبقيت عليَّ أنا القائد،وأنا أرى أنْ لا فائدة من القائد بدون قوات لذا فلا يهمني إنْ كنتَ تُريدُ أن تعدمني ، فأمروه بأن يترك الغرفة ويخرج،فخرج عائداً إلينا وهو في حالةٍ يرثى لها،وبتنا ليلتنا تحت جسر القناة في نفق الشرطة قرب بغداد الجديدة،ولم يستطع أحدٌ منا أن ينام طبعاً،وفي الصباح كنا نسمع صوت تشغيل الدبابات الأمريكية،والتي عرفنا فيما بعد بأنها قد باتت ليلتها قريباً مِنَّا،على بعد أقل من مائتي متر،وكم حاول القائد أن يتصل بأيِّ شخصٍ،لكن دون جدوى،فلم يبقَ أحدٌ في مراكز للقيادة.
-لم تقلْ لي ماذا تفعل الآن؟
-لا شيء أجلس في البيت أنتظر رحمة الله وفرجه.
-ولماذا لم تجد لك عملاً؟
-أنت تعلم إني لا أجيد أيَّ عملٍ آخر.
-نعم صحيح لكن ألم تستطع أن تتعين في وظيفةٍ ما؟
-لقد حاولت كثيراً لكن دون فائدة.
-يا أخي الآلاف من عقود العمل وزعت مؤخراً فأين كنت؟
– لقد راجعت هيئة التوظيف على مدى خمسة عشر يومٍ تقريباً دون فائدة مع إني كنت أحمل رسالةً من أحد أعضاء مجلس المحافظة،إلى مدير الهيئة،والذي كان مشغولاً لأنه يوزع وقته بين ثلاث دوائر،فمن الجامعة إلى المحافظة،ثمَّ إلى هيئة التوظيف،كان الله في عونه فهو لا يجدُ وقتاً للراحة،مع أنَّه لم يتزوج إلاّ مؤخراً.
-وهل أوصلت الرسالة؟
-كلاّ فبعد أسبوع من الإنتظار في الاستعلامات،استطعت أن أدخل لأرى شيئاً عجيباً عجاباً،وأعجبُ من الخيال،ويشيب الولدان،لقد دخلت إلى غرفة المدير الذي كان يجلس بقربه أحد أعضاء مجلس المحافظة أيضاً،والذين رأيت منهم في يومٍ واحدٍ ثلاثةً منهم،تصور أنت ثلاثة من أعضاء مجلس المحافظة في هيئة التوظيف في يومٍ واحد،يا لهُ من مرتعٍ خصبْ،لقد كثر الحلبة وقلَّ الرعاة،وكان أحدهم بيده قائمة من ثلاثة أوراق،وكلُّ ورقة فيها ما لا يقل عن ثلاثين اسماً،وأظنُّهُ كان يريد أن يستلم رواتبهم،أما السيد المدير فبالطبع لم يلتفت لي حتى لكن السكرتيرة وبأسلوبٍ فظ خالٍ من أية لباقة قالت لي:
-هات رسالتك واذهب وعد بعد يومين لتقابل السيد معين-لا أعانه الله، يوم لا معينَ سواه-فسألتها:
-ألا يجوز لي مقابلة مدير الهيئة؟
-ولماذا تقابله،هل أنتَ أعمى؟ألا تراه مشغولاً مع السيد عضو مجلس المحافظة؟وبالتالي فهو لن يقولَ لك أكثر من الذي قلته لك؟
أمّا السيد معين،والذي قال لي بعد مشقةٍ في انتظار لقائه :
-توجد الملاكات لكن لا توجد درجات.
والمصطلحان(الملاكات-الدرجات)حديثان في قاموسي،لكني فهمت بأنَّهُ يوجد الشاغر لكن لا توجد الموافقة من القوات الأمريكية لصرف رواتب لها،كوجود الآمال في غياب الأموال،فقلت له:
-لا يهمني فيما لو تأخر راتبي شهراً أو شهرين ففي النهاية لا بدَّ أن أستلمه.
-يا أخي هذا شيءٌ غير جائز وفيهِ غبنٌ للحقوق وأنا لن أوافق عليه فأنتَ لا تعرفني كم أحبُّ الحق والحقوق.
وفي الهيئة رأيت مراجعين يراجعون لإستلام رواتب أشهر ماضية،وعندما يسألونهم،أين كنتم،يجيب بعضهم:بأنَّه كان في سوريا والآخر يجيب بأنَّه لم يعلم بقرار تعيينه حتى،والقليل منهم يقول بأنَّهُ كان في الدوام لكن حدث سوء تفاهم وتم تغييبهم،وجميع هؤلاء يجلبون كتباً رسمياً من الدوائر التي تمَّ تعيينهم فيها،ويستلمون رواتبهم دون أن يذهبوا للدوام إلاّ يوماً واحداً في الأسبوع أو الشهر لغرض إستلام الراتب،جميع المساعي فشلت في الحصول على عقدٍ واحد،لأنني والله أعلم أظنُّ وفق ما تناهى إلى أذني أنهم لا يحبون أهل القرى ولا يعينونهم أبداً،ويردد موظفي الإستعلامات بضجرٍ وملل:
– اذهبوا إلى الناحية أو القضاء ولا تأتوا هنا فلا نصيب لكم بيننا -
قال له الرائد حسام وهو يأسف للحالة التي يرى عليها صديقهُ:
-ولماذا لم تعدْ إلى الجيش أو الشرطة؟
-في بيتهِ يقعدُ من لا وسطاءَ لهُ؟وأنتَ ماذا فعلت؟
-لقد عدتُ إلى الجيش وبرتبة رائدٍ أيضاً،وعرضوا عليَّ منصب آمر الفوج لكني رفضت ففيه مسؤولية،وآمر السرية أفضل.
-وما هو واجبكم بالتحديد؟
-واجبنا حماية المصفى وخط النفط،ونحن أكثر من خمسين ضابط،بينما ثلاثة يكفون،وأنت ألا زلت تسكن القرية؟
-نعم والحمد لله.
كان يُريدُ المُغادَرَة قَبلَ المَغيبَ ولَمْ يَكُنْ جائعاً لكنهُ أَمامَ إلحاح صديقهِ العزيز الرائد حسام،وافقَ على أَنْ يَذهب إلى واحدٍ من المطاعم الشهيرة قُربَ الجامِعة،وأمام المطعم كانَ مَنظَرَ الجنود الأمريكان وعرباتُهُم الثلاث على الرصيف الفاصِلْ بينَ الشارِعَين أشبه إلى الحلمِ منهُ إلى الحقيقة،لَمْ يَكُنْ يَشعُرُ بِرَغبَةٍ في الطعام لكنَّ صديقَهُ الرائد حسام كان يَأكُل بِشرهٍ وَكأَنَّهُ لَمْ يَأكُلْ مِنذُ أيام وَأَكملا العَشاء فَخرَجا مِنَ المطعَمْ،وَوَقَفا أَمامَ أَحد باعةِ الملابس على الرصيف فيما كانَ الجنود الأمريكان بعيدون عن سياراتهم ويَقِفَ مَعَهُمْ عَدَدٌ مِنَ أطفالٍ شحاذين بِصفة باعةٍ مُتجولين وفيما كان صديقهُ حسام يَشكو مِنْ أَلَمٍ في بَطنهِ كانت عيناهُ تسرحان إلى جسرِ المارة الذي يَبعُدُ مسافَةَ مائةَ ياردة تقريباً حيْثُ كانَتْ دراجة نارية قَدْ خفَّفَتْ مِنْ سُرعتِها وفَجأةً رمى بشيءٍ صغير لم يكد يراهُ حتى،تحت إحدى السيارات الثلاث،ثم سُمِعَ دويُّ إنفجار،وشوهدتْ السيارة وهي تحترق إبتداءاً من العجلة التي تحت السائق فقط،أمّا باقي أجزاء العجلة فلم ت! ُصَبْ بأذى،وصار الجنود الأمريكان يُطلِقونَ العيارات النارية في الهواء ولم يُحاولوا إطفاءَ الحريق،سقطَ صديقهُ الرائد حسام،المسكين،الذي تناثرت أَمعاؤهُ على جانب الشارع قرب باب سيارتهِ حاولَ عَبَثاً أَنْ يجمعَ ما يَستطيع من أَعضائهِ ليعيدَها في بَطنِه،آلاف المرات تذكرَّ هذا المشهد،كأنَّ الزمن قد توقف،فما عادَ يَشعرُ بِشيءٍ أبداً،الكثير من الصور قفزت إلى سطح ذاكرتهِ،سيارات الإسعاف تصرخُ حاملةً الجرحى،إقتربَ أحد الجنود دفعهُ بِشدة فَسقطَ على وجههِ ووضع القيد في يديهِ،وهو ممددٌ على بطنه،وحذاء الخدمة الأمريكي فوق ظهرهِ،وبعد ساعةٍ قاموا بوضع كيس في رأسهِ وحملوهُ معهم،سارت السيارة فترةً من الوقت لم يتمكن من تقديرها بسبب سوء حالته النفسية،رفعوا غطاء رأسهِ وفتحوا القيد أنزلوهُ وبَدأ التحقيق،أَخبَرَهُم بِأنهُ يُجيدُ اللغة الإنكليزية لكنهم لم يهتموا كان يتكلم مع المحقق باللغة الإنكليزية فلا يلتفتُ إليه ويشير إليه بأن يوجِه كلامه للمترجم الذي كان واحداً منهم على ما يبدو فهو يلبس ثياباً كثيابهم لكنه تدلُّ على العكس،وبدأت الأسئلة:
-الاسم- اللقب-المهنة-العنوان-الإنتماء الحزبي؟
-مستقل سابِقاً وحالياً.
-لكننا نعلم بِأنَّ الشعب العراقي بِأجمعِهِ كان ينتمي لحزب البعث ولَنْ يُخرِجَكَ من هنا سوى الحقيقة وكلما كذبت ستبقى لِمدةٍ أطول؟
-نعم كنتُ بعثياً بِدرجة مؤيد.
قالَ هذا مع علمه بأنَّ الضغطَ سيزداد عليه بعد أن كذب عليهم.
– هل لصديقك علاقة بالانفجار الذي قتلَهُ؟.
– كلا.
-هل أَنتَ من فِدائيي صدام؟
-لا أبداً.
-هل تعرِف أَحد الفدائيين لكي نُخرِجكَ الآن من هنا مع مكافأةٍ سخية؟
– لا أَعرِفُ في المدينةِ أَحداً سوى صديقي الذي توفيَّ آنِفاً.
– لا نقصدْ المدينة فقط حتى لو كان في قريتِكَ مثلاً؟
– لا أَعرِفُ أَحداً في قريتي ينتمي إلى فدائيي صدام،لكن ما هيَ تُهمتي؟
لَمْ يهتمَّ أحدٌ لسؤالهِ الذي ضاع في الهواء الحار الذي كان يملأ الغرفة، ودخان السيجارة الذي كان ينفثهُ في وجهه المحقق.
– هل رأيتَ الذي ألقى القنبلة اليدوية التي قتلت صديقك؟
– كلا.
انتهت الجولة الأولى في هدوءٍ لن يستمر،وكان نصفُ المحققين متعاطفاً ودوداً والنصف الآخر على العكس،ويعملون بالتناوب،أَخذوا بصماتَهُ،أخذوا له صورة،سلموهُ بطانيتين ثم زجوهُ إلى التوقيف الذي كانَ عبارة عن قاعة خشبية،عدد السجناء يتجاوز الخمسة عشر والكلام مع بعضهِم ممنوع ويوجد جندي أمريكي غير مسلح يُشرِفُ عليهم داخل قاعتهم،يتبدَّلُّ كلَّ ساعتين،كان البعض منهم لطيفاً يتكلم معهم وقد يكرمهم بسيجارة،معَ وجبتين للطعام في السابعة صباحاً والسابعة مساءاً،ولم يغادرهم الجوعُ أبداً،ويوجد حمام في نهاية القاعة وعَلِمَ بوجود قاعات أُخرى للتوقيف تحت ظروفٍ أَسوء بكثير،في اليوم الثاني نادوا رقمهُ وبدأَ جولةُ ثانية معَ محققين جدد،كانوا يتعاملون معه ببرودة شديدة حتى أنَّهُ إعتقدَ أنَّهُ لَنْ يخرجَ من السجن أبداً..
كانَ أَحدُهُم يتكلمُ عربيةً فصيحة،نفس الأسئلة أُعيدَ طرحها،لكن أُسلوبَهُم كانَ أَفضل فالمحققة كانَت شابةً أمريكية بيضاءٌ وودودة،معظمُ الموقوفين خرجوا من هذا السجن ثمَّ أَعادوهم لإعادة التحقيق،وكان شعاع الأمل ينبعث في قلوبنا عندما تأتي سيارة مديرية الشرطة لأننا نعلمُ بِأنَّهُ قد صدرَ أمرٌ من مقر العمليات الأمريكية في بغداد العاصمة بِالإفراج عن أَحدِ الموقوفين،نعم فأوامر إطلاق السراح وتمديد التوقيف والنقل إلى سجن أبي غريب كانت تأتي من بغداد،من مقر قاضي التحقيق الأمريكي للعمليات،كما أسرَّهُ أحد الحراس،أما الذين هنا فهم لا يملكون أيَّة صلاحية سوى التحقيق ورفع التقارير،جاءتهُ لجنة تحقيق يرأسها شخصٌ بدين،سمع منهم بأنَّهُ برتبة عقيد،كولونيل،كان ذو شاربين كثيفين،كان وديّاً معهُ إلاّ أنَّ أسئلتهُ كانت هي الأكثر إستفزازية:
– أنت ضابط،فلماذا هربت في المعركة الأخيرة؟
– أنا لم أهربْ.
– لقد هربت والدليل إنَّكَ واقفٌ الآن أمامي.
– كانت لكم السيادة الجوية الكاملة ولتقنية أسلحتكم خسرنا المعركة.
– لكننا في فيتنام كنا نتمتع بالسيادة الجوية أيضاً،وخسرنا المعركة.
– لكنَّ معركتكم لم تنتهِ بعدْ،وتزداد خسائركم كلَّ يوم.
وهنا إنزعج الكولونيل جداً،واحتقن وجهه من الغضب،وصمتَ هنيهةً ثمَّ قال:ما هو رأيك في المقاومة؟
– الذي يريد أن يهدم ويخرب ليس بمقاومة؟
– ما رأيكَ بعمليات إعادة بناء الجيش العراقي التي تقودها قوات التحالف؟
– إنَّها عملياتٌ فاشلة،لأنَّكم ساويتم بين الجنود والضباط الذين فقد معظمهم رتبهم التي حصلوا عليها بشقِّ الأنفس،مما سيفقد الجيش نظامهُ،وكما تعلم فإنَّ الجيش كيانٌ ضعيف يستمدُّ قوته من الضبط.
طلب الكولونيل إعادة الجملة الأخيرة من المترجم الذي سألهُ عن قائلها -لا أعلم قائلها لكنَّها متداولة في الجيش.
مع إنَّهُ كان يعلم قائلها،ودوّنَّ الكولونيل العبارة الأخيرة في ورقةٍ كانت أمامهُ،وبعد هذه المقابلة التي استفزه فيها الكولونيل أخرج كلَّ ما كان في داخلهِ من مشاعرْ،يأس من إطلاق سراحهِ،وندم على أقوالهِ،لكنّهم تركوه لأنَّهم يعلمون بأنَّ الإنسان يتفوه عند الغضب بأسرارٍ لا يريد أنْ يبوح بها،في عصر اليوم الرابع عشر من التوقيف جاءتْ سيارة مديرية الشرطة،وقرؤوا خمسة أَرقام ورقمهُ من ضمنها،ركبوا السيارة مقيدين وفي مديرية الشرطة،قرؤوا أَربعة أرقام فقط فخرجوا من الصف قام أَحدُ الجنودُ الأمريكان بفتح القيد البلاستيكي وأَشار بِيدِهِ أَن يغادروا،خرجَ وهو لا يُصدق،وقرَّرَ أَنْ لا يتناول طعام العشاء في هذا المطعم أَبداً،بل أَن لا يدخُلَ هذهِ المدينة أَصلاً،بل أَنْ يهاجِرَ إلى دولةٍ أُخرى ولا يعود،لكنَّ هذا الشعور تبدد في ثاني يومٍ من خروجه،وبعد فترةٍ من خروجهِ من السجن،عاد إلى المدينة فرأى أحد أصدقائه من الذين كانوا معه في تلك الحرب الأخيرة،وعاد نفس الحديث الذي يتكرر كلما إلتقى الضباط مع بعضهم و يُحيي شجوناً وأحزاناً لا ينفد معينها:
– هل علمت كيف فعل الرائد حسام،لقد سرق سيارة الآمر وهرب بها،والآمر جريح ينزف ويتوسل به بأنْ لا يتركهُ ولو أنَّه كان قد نقله إلى المستشفى لأنقذ حياته،والله أعلم.
– لكنَّني سمعت بأنَّ النائب ضابط علاء سائق الآمر هو الذي سرق السيارة،وهرب بها تاركاً الآمر ينزف ويموت.
– من قال لك هذا الهراء والكذب،أنا كنت موجوداً،كنا نمشي في رتل فتوقفنا للإستراحة ولإستطلاع المكان الذي أمامنا،وما إنْ توقفنا حتى صاح الجميع وصرخوا كالمجانين:غارة-غارة-وبدأتْ الطائرات بالقصف،وكان القصف في البداية بعيداً عنا،وتركنا سياراتنا وانتشرنا في المكان مبتعدين،وأصيب السيد الآمر وذهب المساعد الرائد حسام ليأتي بالسيارة لينقل الآمر إلى المستشفى،لكنَّهُ صعد في السيارة ثمَّ أخذها وهرب،تاركاً الآمر بين أيدينا لأكثر من ثلاث ساعات ينزف ومن ثمَّ توفي،ليتكَ رأيته وهو يتوسل بنا أنْ لا نتركهُ،والنائب ضابط عماد إستشهد في بداية القصف وتناثرت جثته حتى لم يبقَ منها إلاّ القليل الذي دفناه مع جثة الآمر رحمهم الله.
– لكنَّ الرائد حسام أخبرني قصةً مخالفة لهذه القصة؟
– نعم أخزاه الله وما عساه أن يخبرك إذن؟لقد رأيته مرتين وناداني في إحداها لكني لم التفت إليه،ولو لحق بي لبصقت في وجهه،الكلب تركنا في ذلك الموقف الصعب ليسرق سيارة الآمر ويبيعها فيما بعد.
– نعم لكن أنت تعلم إنَّ جميع الآمرين والقادة باعوا سياراتهم.
– نعم لكنهم لم يقفوا موقفاً مخزياً كهذا،فعلى الأقل أنا أبن منطقته،وطالما خدمته دون مقابل،وكان يتمكن من أنْ ينقل الآمر في سيارته إلى المستشفى على الأقل،قبل أن يسرق السيارة ويهرب.
– لكني لا أصدق أنَّ الرائد حسام يفعل هذا؟
– ومن سيشتري أدوات المكياج لزوجته السافرة إذنْ،وهي قد إرتفعت أثمانها في الآونة الأخيرة،وهذه الكماليات تدخل القطر بأحدث موديلاتها،يا أخي تعالَ غداً وسآخذك إلى الشخص الذي اشترى منه سيارة الآمر،ولولا إني مشغولٌ الآن لأخذتك إليه فوراً.
– نعم لكن الجميع باعوا السيارات التي استخدموها في فرارهم.
– وهل لأنَّ الجميع باعوا فيعتبر هذا الأمر جائزاً؟
– صدام في آخر خطابٍ لهُ أعطاهم حق التصرف بها؟
– لكن المال العام لا يصبح خاصاً أبداً،ولا أحد يعطي شيئاً هو أصلاً لا يملكه.
– أنا أتفق معك في هذه المسألة على العموم ولكن هذه ظروف خاصة.
– وهل علمت الذي فعله أحد آمري الألوية وهو من قريةٍ قريبةٍ منكم؟
– من تقصد عقيد ركن حمد بطيخة،فلا أحد غيره؟
– نعم،هو بالضبط،فبعد أن أرسل كافة سيارات اللواء الحديثة وكان عددها ستة،إلى القرية،الواحدة تلو الأخرى،وهي محملةٌ بكافة أثاث اللواء،قام بإرسال ضابط استخبارات أحد الأفواج وهو برتبة نقيب في إحدى سيارات الفوج الحديثة إلى بيته لينقل لهم رسالةً بأنَّهُ بخير،وكانت فرصةً للضابط أن يذهب ليرى أهلهُ أيضاً،وقد تكون المرة الأخيرة فالحرب مازالت مشتعلة وبعدها ذهب إلى مسكن آمر اللواء،ليجد آمر اللواء أمامهُ،فرحبَّ بهِ،وقال لهُ بأنه قد أصيب بجرحٍ بسيط،ومن ثمَّ طلب منه مفاتيح السيارة التي جاء بها،وذلك لينقلَ إحدى نساء بيتهِ إلى الطبيب وهو قريبٌ من القرية،لأنها مريضة،وبالطبع أعطاه المفاتيح،لكنَّ السيارة لم تعد،وعندما تأخر الوقت قال آمر اللواء للنقيب:-اذهب أنت إلى الفوج وسأعيد أنا السيارةَ معي غداً،اذهب كي لا تتأخر-وطبعاً أضافها إلى السيارات الستة،ولم يرجع آمر اللواء إلى لوائه أبداً.
– يا أخي وماذا تنتظر من جيشٍ قد إعتاد على الكذب والهزيمة،ويردد قادته وضباطه المثل القائل(الهزيمة نصف الرجولة)،فمنذ حرب الكويت والجيش يقتات الذلَّ كلَّ يومٍ ومع كلِّ وجبة طعام،ألم ترى إلى قوم موسى عليه السلام لمّا أراد أن يدخل بهم الأرض المقدسة رفضوا خوفاً وجبناً،لأنهم قد إعتادوا الذلَّ وتجرعوا منه كأساً كلَّ يوم،الذل الذي كان يسومهم فرعون وهامان،شربنا نحن من نفس الكأس،ولم يدخلوها حتى استبدلهم الله بعد أربعين سنةٍ،بقومٍ آخرين،عاشوا في الصحراء تائهين،لم يعرفوا حياة الذلِّ والخوف التي عاشها آبائهم،وهكذا ضباطنا كانوا في سباقٍ على سرقة أكثر وأغلى ما يمكن من الممتلكات التي في عهدتهم،لا على غنائم العدو،ومنهم من يقول إنَّها من الرجولة أن لا تترك للعدو غنائم.
– والآن هل تعلم أين عقيد ركن حمد بطيخة عضو الشعبة السابق في حزب البعث؟وماذا يفعل؟
– نعم أعرف فلقد سمعت أنَّهُ آمر لواء.
– أرأيت المأساة،ففي الكويت كان من أول الفارين من المعركة،ولديه إنقطاعٌ في خط خدمته مثبتٌ في مديرية إدارة الضباط،ومع ذلك أخذ منصب آمر لواء مع عدم إستحقاقه آنذاك،ولم تنفع التقارير التي كتبها بعض ضباطه في اللواء عن الإنقطاع في خدمته المثبت في المديرية وعن هروبه أثناء الحرب إلى بيته وبقائه ثلاثة أيام في البيت مع النساء ولم يلتحق إلى فوجه آنذاك وقد كان آمر فوج قوات خاصة،ولم يلتحق بفوجهِ إلى أن زالت كلُّ المخاطر،يا لها من مأساة كوميدية،وهو الآن آمر لواء أيضاً.
– وماذا تنتظر من رجلٍ نذلٍ وجبان؟
– وهناك عقيد طبيب وهو جاري باع سيارته إلى أحد أقربائي ومن ثمَّ خرج على شاشة التلفاز ليدعي بأنَّ مجهولين قاموا بسرقة سيارته العسكرية.
– كثيرةٌ قصص بيع السيارات ولا تنتهي،وقصص أسرع هزيمة عرفها التاريخ،ولكني مع ذلك لا زلت لا أصدق بأنَّ صديقي الرائد حسام رحمه الله سرق سيارة الآمر وتركه جريحاً في أرض المعركة.
– السيارة التي باعها الرائد حسام هي سيارة الآمر لا غيرها،وأنا كنتُ مع الآمر وهو يموت وكان حتى لحظاته الأخيرة يتوسل بنا أن لا نتركه كما فعل الرائد حسام،وأخبرتك باني لولا كنت مشغولاً اليوم لذهبت بك إلى الشخص الذي إشتراها منه،لكن تعال غداً وسأذهب بكَ في سيارتي إليهِ،فكيف إذن لا تصدقني؟
– على كلٍّ فهل علمت ما حصل للرائد حسام رحمه الله؟
– نعم لقد أخذ جزائه الذي كان ينتظره من جراء ما قام بهِ من خيانةٍ قذرة.
– على كلٍّ رحمهم الله.
– ولو أنَّهُ لا يستحق،لكن لا بأس رحمه الله.