هل أهدى الشاعر أحمد رامي حيفا قصيدة؟
من منّا لم يسمع عن أحمد رامي، الشاعر العربي المصري الذي كتب أجمل القصائد لتغنيها كوكب الشرق أم كلثوم، وأبرزها بل أجملها "ذكريات" و "أقبل الليل". احمد رامي الذي زوّد الفن الموسيقي والغنائي العربي بأجمل أناشيد الثورة ونشيد العلم ونشيد الجامعة ورامي نفسه الذي قال متوقعا مسبقا حال الغناء في العالم العربي ما معناه "أن الأغنية الآن كالبطيخة الممخمخة فيها مياه وكبيرة الحجم وليس لها طعم"، وأضاف "أغاني هذه الأيام سمك لبن تمر هندي". كانت حيفا على موعد مع أحمد رامي. فكيف جرى ذلك؟ وأين تم؟ ومع من؟ وما هي حصيلة اللقاء؟ هذا ما سنكتشفه من خلال هذه المقالة التي تربط أحداثها بين حيفا وبين بيت أحمد رامي في القاهرة. أما مرشدنا إلى هذا اللقاء فهو شاعر حيفا، بل شاعر فلسطين حسن البحيري.
البحيري حاملاً هدية رامي إلى حيفا
حسن البحيري المولود في حيفا في 1921، كان من أوائل الشعراء الذين مزجوا حياتهم اليومية بالنضال من اجل الوطن في أحلك الساعات وأصعبها، خصوصا في عام النكبة 1948.
ولم يتأخر حسن البحيري عن تقديم كل ما أمكن تقديمه لصندوق الأمة العربي ولدعم المقاومة والمقاومين في سبيل الحفاظ على ثرى فلسطين.
كان البحيري يعمل موظفًا في مصلحة سكك حديد فلسطين، وتحددت نقاط عمله على الخط الواصل بين القنطرة في مصر وحيفا في فلسطين. وفي أحد الأيام طلب من مأمور القطار المصري الذي عرفه من فترة أن يسمح له بالسفر معه إلى القاهرة لزيارة أصدقائه الذين يدرسون هناك في معاهدها العليا. وبرز من بين أصدقائه عبد الرزاق بدران وحربي حب الرمان. ويقترح عليه عبد الرزاق زيارة أحمد رامي. لم يفكر حسن البحيري طويلاً، وهل يرفض مثل هذه الدعوة؟
لقاء رامي ليس كأي لقاء
كان أحمد رامي موظفًا في دار الكتب المصرية، لكونه درس في باريس أسس الأرشفة وحفظ الوثائق. ولما التقى البحيري بأحمد رامي وعده الأخير أن يقرأ مخطوطة ديوانه "وادي الأحلام"، على أن يعطيه جوابه ورأيه في اليوم التالي.
وفي اليوم التالي توجه البحيري إلى أحمد رامي، مترددًا في نفسه ومتسائلاً هل قرأ رامي ديوانه خلال ليلة واحدة! أم أنه وعده مجاملة!ّ ليُجرب حظه، فما الخسارة في المحاولة. ويفاجأ البحيري باستقبال رامي له عند مدخل دارته ببشاشة أفضل من الأمس، وبكلمات تنم عن سرور ورضا. وهمَّ رامي بمعانقة البحيري بحرارة قائلا له:
«قرأتُ شعرك هذا فأعجبني، وإني أتنبأ لك بمستقبل رائع، وإنه لشيء عجيب أن تكتب مثل هذا الشعر وأنت في مثل هذه السن المبكرة، فأحمد شوقي، وحافظ ابراهيم، وأنا يوم كنا مثل عمرك لم يكن لنا مثل هذا الشعر، بل لم نكن يومئذٍ شيئًا مذكورًا».
وقام رامي عن مقعده، وتوجه إلى مكتبه وأحضر مخطوطة ديوان البحيري وكتب على أول صفحاتها: "قرأت هذه المجموعة فأعجبتني، ورأيت مخايل العبقرية في معاني ناظمها، وأتمنّى له التوفيق". وأردف رامي قائلا بصوت عالٍ:" أنت شاعر الحب والجمال يا حسن".
العودة إلى حيفا والفرحة لا حدود لها
عاد البحيري إلى حيفا والفرح مستول عليه. وصمم على تجهيز ديوان شعره الأول بعد أن استبدل عنوانه بـ "الأصائل والأسحار". ونال دعمًا ماليًا لطباعته ونشره من نادي أنصار الفضيلة في حيفا، وكان هذا النادي من بين مجموعة النوادي الثقافية الفعالة جدًّا في المدينة وكان مقره عند طرف درج عجلون في وادي الصليب. ولما بدأت ماكينة الطباعة بعملها ظهر اسم أحمد رامي على صفحة الإهداء، حيث أراد البحيري تكريم هذا الشاعر الفذ الذي عرف كيف يشجعه لينطلق في طريقه ومسيرته الشعرية. ولما جمع البحيري مدخولات الديوان أعاد المبلغ الذي دفعته اللجنة الثقافية في النادي إلى خزينتها لتستمر في دعم المزيد من مشاريع الثقافة في المدينة التي أحبها حبا كبيرًا.
«أفراح الربيع» تزهو في بيت رامي
ولما أزمع البحيري على طبع ديوانه الثاني والذي أطلق عليه اسم "أفراح الربيع" سافر إلى القاهرة وفي جعبته مبلغ من المال إستدانه من صديقه محمد أحمد حجازي. ووضع مخطوطة ديوانه ومبلغ المال على طاولة مكتب احمد رامي طالبا منه الإشراف على طباعة الديوان في شركة فن الطباعة بشُبرا في القاهرة عام 1944. ولم يكن بإمكان البحيري المكوث أكثر من يومين لكونه موظفًا في مصلحة سكك حديد فلسطين والحاجة ماسة إلى وجوده في حيفا لمباشرة الإشراف على عمله. وكان مطمئنًا في قلبه إلى أن رامي سيقوم بالواجب وأكثر تجاه الديوان.
وقبل مغادرته القاهرة التقطت للشاعرين صورة تذكارية كتب رامي على ظهرها قصيدة أهداها إلى حيفا:
إلى ولدي الروحي، عزيزي حسن البحيري، شاعر الحب والجمال
يا طائرًا من سماء حيفا
لقيتَ في ظلّ مصرَ إلفا
إذا تساجلتما الأغاني
تمايلَ الغُصنُ ثُمَّ رَفَّا
لقد تعارفتما وِدادًا
ثم تبادلتماه عطفا
فمهجة تلتقي بأخرى
وطيفُ روحٍ يضُمُّ طيفا
فدوى طوقان تزِفُ الديوان إلى العرب
ولقي هذا الديوان ما لقيه الديوان الأول من استقبال باهر وارتياح في فلسطين والعالم العربي، فكتبت فدوى طوقان عنه:"هذا الديوان كتاب الطبيعة المفتوح، وقد زافَتْ في منظرها الفتَّان، وفي جوها الذي سبح فيه خيال الشاعر تتضوع الأزهار، وترفُّ الأنداء على ثغورها رقيقةً براقة".
«ابتسام الضحى» هدية لصندوق الأمة
ولما أخذت أرض الوطن تلتهب بعد أن وضعت الحرب العالمية لثانية أوزارها، نجد البحيري كعادته يهب لنجدة وطنه وأرضه وترابه، فيتقدم إلى إدارة صندوق الأمة العربي بهدية ثمينة جدًّا ألا وهي ديوان شعر "ابتسام الضحى" ليكون ريعه لصالح الصندوق. فيسافر مباشرة إلى صديقه أحمد رامي ويسلمه الديوان، ويشرف رامي بنفسه على تدقيقه ويصحح الأخطاء المطبعية ويضبط الشكل. ويرى الديوان النور كما يريده صاحبه، وذلك بجهود عمال مطبعة شركة فن الطباعة. وهذه الشركة عند رؤيتها رسالة الديوان وهدفه حسمت خمسين جنيهًا مصريًا مُشاركة منها في تشجيع ودعم عمل الصندوق. وهكذا أنجز البحيري طباعة ثلاثة دواوين شعرية بين 1943 و 1946، وهو الفقير والمحتاج إلى كل مساعدة، ولكن لسان حاله يقول إن الإصرار هو أساس وسر النجاح، وأن الوطن أغلى وأثمن من أي مال يجنيه الإنسان.
حيفا في سواد العيون
لم يكن حب وتيه البحيري بحيفا يعرف الحدود، فهذا الشاعر قد قام بعدة عمليات مقاومة ونضال في حيفا وخارجها، كان آخرها تفجير لغم كبير في بناية المطاحن الكبرى بحيفا بواسطة قاطرة استخدمها لتحقيق خطته. ولكن حيفا سقطت بيد اليهود ومنظماتهم العسكرية التي حاربت أصحاب البلاد وشردتهم ورحلتهم ومزقتهم. فوجد نفسه لاجئًا كمعظم أبناء شعبه. واتخذ من دمشق مُستقرًا مؤقتًا له ريثما يعود إلى حيفا. وألصق على جدران بيته عشرات الصور لمدينة حيفا التي ولد فيها وأحبها ودافع عنها. وبقيت حشرجة في صدره يجب أن يخرجها ويطلقها، وهي ديوان خاص بحبيبته حيفا أطلق عليه "حيفا في سواد العيون"، فهو لم يتزوج، لأن حبيبته "حيفا" بعيدة عنه، وينتظر اللقاء. لم يكتمل اللقاء الجسدي لأن البحيري غادر الدنيا في عام 1998، وحيفا تنتظره بالروح، فكان ديوانه أجمل هدية إلى حبيبته.