الاثنين ٢٧ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم عائشة الخواجا الرازم

هل الخيانة صراع بقاء...؟؟

هل الخيانة صراع بقاء...؟ وهل الوفاء أقل منزلة من الخيانة؟ وفي المحصلة هل تعتبر الخيانة سيدة الموقف حتى ينهار الوفي ويضعف؟

في صورة الخيانة نسب متفاوتة من الظلم وإنكار الفريق الثاني، ونسب غريبة عجيبة من التسلط أولها أنها خيانة، وآخرها قلة اعتبار للفريقين الخائن والمخون!! ويتحتم على المتأمل العثور على فريق سري من الفرقاء أدى إلى صناعة الاثنين!! فالخائن ضحية والمخون ضحية، ولكن من هو اللاعب الرئيس لابتكار الخائن؟ وهل هو نظيف النوايا أم عارف بالنتائج؟ أم هو دوماً محاولاً لاتقاء شر ما؟ ومحاولاً لإسكات الطرف القابل للانفجار فلا ينجح، حتى يفاجأ بالتعرض للخائن في عقر ماله وأرضه ووطنه؟ ويصبح الكل سواء في نظر التاريخ؟

تلك معضلة عسيرة، لم يفهم مغزاها عبر العصور؟ وعبر المراحل الظلامية والنورانية!! ولكن لا بد من أسرار عظيمة ومحركة خفية تصنع الخائن والمخون!! بمعنى أنها حملت لطرف آخر طعنة وأصابته إصابة بليغة، ولولم يكن الطرف الآخر مخلصاً للنوايا النقية لما تأثر بالضربة وهو يعزي نفسه بانتظار اعتراف الطرف الخائن واعتذاره ومن ثم رجعته عن سلوك الخيانة، فلا يحدث هذا إلا مؤقتاً من طرف الخائن، وذلك بسبب إغداق الطرف الخفي الطيب النوايا عليه من المواقع والمناصب ومكافأته لعظمة فعلته التي يندى لها الجبين!! فيخاف الانتقام منه لسعة شره وما أورثه من تفكير شرير لحاشيته وأهله ودرب عليه طابوره المتوفز للانتقام!! وهنا يعظم البلاء وتستمر اللعبة تحت الأقدام حتى يمرض الوطن ويترهل ويصبح الإسكات بالترضيات داءً ليس له دواء!! ذلك لأنه يرى فيه أقرب خائن من حبل الوريد … فالوطن لا يخونه الجبناء الضعفاء!!! ولا يسمي الأنذال خونة؟ والخائن مشكلته أنه كبير القدر والقيمة والمكانة!!! والتمكين هو سيد البلاء للأشرار!

فالضعفاء المحرومون لا يخونون حتى يتم توصيلهم لمرحلة البطر فيقال فيهم ( عمر الجوعان ما بشبع ) وهذه لا تعني الجائع للأكل، ولكنها تعني الجائع الشرهان المتغول الفاحش البطن تجاه الهبشة أو حتى يملك، فيقال فيه تمسكن حتى تمكن!! وهذا صنف ثان من الخونة بعيد كل البعد عن فطرة الطرف الطيب في كل الأحوال فقرها وجوعها وغناها!! فلا بد للحياة أن تنجب أطياباً لخلق هؤلاء الأغثاث الرعاع الخونة!!!

إذن لا يخلق الخونة إلا الاطياب والعابقون الغاطسون في الطيب والخائفون من ولع الدم على الدم!! فينقلب الطيب على رؤوس الطيبين خيانة!!!

أما الهوامش الأمصاع في عقولهم وطموحاتهم ونظرتهم للحياة والأرض التي يدبون عليها، فلا شر منهم ولا خير!!! لأنهم في أصلهم ضعاف، ولا يمتلكون مقومات التصرف، ولا يمتلكون القوة والنفوذ حتى يفكروا في معنى الوجود شره وخيره ولا تخطر في بالهم الخيانة!!، لا يتوخى منهم شجاعة ولا وفاء … فلذلك يلفظهم الوطن ويبقيهم خارج دائرة القربى!! ويتنازل عنهم مع إبقائه على وظيفة إطعامهم واقتنائهم وإيوائهم في أقل الأحيان، وفي كثير من الأحيان ينساهم ثم يهيمون على وجوههم، لا في العير ولا النفير، فلا هم للأرض ولا هم للوطن، لكنه يفاجأ بهم بعدما يقول أنهم لا لون ولا رائحة، بأنهم من أحسن العاطلين!! وبأنهم الوقود الذي يقوم عليه حطب المرحلة!! ويفاجأ أيضاً بأن ذهب المرحلة لا يسمن ولا يغني من جوع سوى البريق واللعب بالبورصة والتسلق على زنود الجميلات!! وأنه الأوحد الخائن لصاحبه حيث التنقل من زند إلى زند، ومن علبة إلى علبة، هذا لأنه اعتاد البريق!! واعتاد سماع الصفير أمام لمعانه، فيقفز من واجهات المحلات إلى اللعب في أسهم السوق بما تحويه من معاملات! ويقع في ايدي النبلاء والشجعان أصحاب المواقع الجغرافية الرفيعة في قلب الوطن، والذين يرفعون شعار الإنتماء والولاء والإخلاص في كل مناسبة للوطن. فتجيء منهم الخيانة قاضية كالضربة الأخيرة، وللوطن المحب الحنون أن يعرف كم مخلص ووفي يمكن له أن يبقى في الديار دون تخوينه... ودون تشكيك في ولائه!!! ولا يتمكن احد من معرفة الخيانة والخائن والنقي تجاه الأرض لأنه أصلا لا احد يعرف الوطن سوى بالاسم واللقب!!!

فما هو الوطن أصلاً؟؟؟ ويبقى الوطن كلمة سحرية لا يدرك أحد مهما بلغ شأنه اين يكمن الوطن واين هو بالضبط ومن هو واين يجثم وفي أي قاعة وفي أي زاوية من الأسرار؟ وتلك الكلمة هي العزاء دوماً، بأن هناك معنى أثيرياً سحرياً اسمه الوطن، والكل، الخائن والمخون والصادق النوايا والمبعد العربيد والخارج عن قانون الأرض ودستورها، يرددون كلمة وطن،ويحملون هذه الكلمة أثقال الرذالة والجمال والتضحيات وهم يعرفون أن الوطن لن ينهض من حفرة في أي زمن كما ينهض المارد الجبار ويلف كفيه على أعناقهم ويستصرخهم بقوله هاأنذا.. جئت لكم وطلعت من أسرار التكوين، انا الوطن فماذا أنتم فاعلون لي اليوم؟؟؟

طبعاً هم متأكدون بأنه لن يحدث ذلك...! وفي يوم القيامة لو نهض الوطن الذي غسلوه بالدم والدمع والبول والرذاذ والخيانة والتلاعب والتأجير، لو نهض الوطن، وقام فارعاً أمامهم، لانشقت الأرض وابتلعتهم لهول الرعب الذي يلفهم!!!!!!! ولذلك يخجل الاسم الأثيري من الجميع، ويختفي في ركن مسحور، لا يظهر ولا يتمرد على احد، ولا يعلن عن نفسه، ولا يصرخ ايها الناس أنا الوطن!! وفعلاً لا يظهر الوطن! إذن الوطن لا يرى ولا يشم ولا يحس ولا يسمع، والوطن جزء من الله ومن الخالق العظيم القادر على كل شيء إلا التصاغر والوقوف أمام أهوال الأفعال الصغيرة التافهة!! واعتقد أن الوطن لن يظهر إلا في نفوس المؤمنين بالله والحاملين في قلوبهم إيماناً بالضبط مثل إيمان العجائز!! ولا يخشى الوطن إلا العلماء بسر التكوين وكما يخشى الله من عباده العلماء!!

وفي كل الحالات الحياتية المتأتية من اصحاب الوطن وأحبابه، تكون المأساة بينما لا يمكن ايلاؤها نفس الألم لو تأتت الخيانة من وغد هامل، تعود على شرب الحليب من أثداء الوطن حتى في عز مرضه!!! وتجده دوماً يصرخ ويستنجد ويهدد، ويقارن نفسه بالواصلين الذين دوماً هم في نظره لا يستحقون!! مع أن مصطلح الواصلين مصطلح أكرهه وأنعاه ولا أردده ولا أعرفه ولا أستسيغه، إلا أنني أضع الطرفين في كفة ميزان واحدة لا ترجح الواحدة عن الأخرى في كل الأحوال!!! ويعلن انسلاخه عن صدر وطنه ويعلن تهميش نفسه عن قاعدة الإنتماء.

إذاً ربما في تفسيري لحالة الخيانة الحقيقية أن أصحابها حقيقيون... أقوياء... متمكنون من قراراتهم ومؤمنون بما تجني أذرعهم وألسنتهم، وذلك لأن أفئدتهم تكدست فيها العزة فاخترقها الإثم، تماماً كالابن المدلل يتعسك، ويخرب بيتك، ويعود عليك في كثير من الأحيان بالعار لثقته بحبك... ولأنه كذلك يعتاد على الدلال والترضيات والطبطبة، فإنه يضعك في خانة الاحتياط درجة ثانية من المهابة فلا يهابك هيبة من الدرجة الأولى، ولا يتوقع منك عقابا واهيا لأنك بسطت له الأرض بما رحبت وقدمت له المطلوب وزيادة فاستوطأ جدارك وقفز عليه بالبسطار حتى أثرت قدماه فيه!!!

من هنا يتضح مائة بالمائة، أن من يخون هو النفس ذات السعة المشبعة، ويضحي بكل شيء من الأخضر واليابس بسبب شبعها وبسبب الإفاضة في التخمة، وينتهي بها للتمرد ولا تعود تقيم وزنا للقيم وأولها الوفاء، ولا يعنى إلا بصراع البقاء الأكبر فيخرج عن الطور ويتكبر بإثمه وخيانته، وهو يعتقد أن الخيانة التي في دمه هي سيدة الموقف، وبالنتيجة لا يصل لهذا الشعور إلا لأن الطرف المقابل يمنحه الثقة، ويستحيل عليه أن يصدق الألسنة وأجهزة الضبط والبرهان!! ولذلك يسدرفي طغيانه ويعض شجر الوفي وحجر الوطن، ويهب في وجه الغاضب والعاتب والمحاكم كهبوب الريح السموم ولا يعتذر ولا يتراجع؟ إنها الوظيفة المحدودة لصراع البقاء الدائم والقائم على الركوب على أكتاف الأهل في عز جراحهم ومرضهم وحاجتهم للانتشال، تماماً كما يحدث للوطن المستهدف المبتلي بأعداء كثر، يتربصونه ويحيكون ضده المؤامرات وهو يرفض الاعتراف إلا بنفسه وبمصلحته!! ويصرخ بأنه قليل الحظ يا حرام!! بينما وطنه وأهله حوله لا حظ لهم على الإطلاق!! ويبقى الرهان والعزاء عند الغاضبين عليه بأن الأيام ستكشفه، ولكن يا خسارة....! فالأيام تطول ويعربد الخائن إلى أن تخرب مالطا بما فيها، ويعمرهم الله في الأرض طويلاً، حتى يبرطع هو وأهله طولاً وعرضاً، وتظل الأنظار تنظر إلى الخائن الأناني بالخزي بالعار، وتكشفه أمام الملأ، ويظل مطمئناً يبرم شواربه مختالاً فرحاناً مبتسماً في كل مناسبة يسمع بها كلمة حقير!!! فيضع في أذنه هذه قطعة من طين وفي الثانية قطعة من عجين!!! ويستمر هكذا إلى يوم الدين!!! إلى يوم يطلع الوطن من مكان ما، من الشمس أو من القمر أو من كبد السماء على شكل كوكب سيار يلمع ذهباً حقيقا، يمد ذراعيه للعاشقين للونه فيحرقهم في جبروته وقوته الكامنة في الأعالي!! وربما يكون ذاك اليوم هو يوم القيامة التي لا ريب فيه!! بعد أن ظلت الخيانة بالنسبة إليه صراع بقاء!! فلا بقاء إلا لوجه الله ووجه الوطن المخفي والمخفي أعظم!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى