السبت ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠١٨
رُؤى ثقافيّة «296»
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

هل كان المتنبِّي قُرْمُطِيًّا؟

قال (أبو الطيِّب المتنبِّي):

لَأَتـــرُكَــنَّ وُجــــوهَ الخَــيلِ سـاهِـــمَــةً
والحَربُ أَقوَمُ مِن ساقٍ على قَدَمِ
بِــكُــلِّ مُــنصَـلِـــتٍ مـا زالَ مُنـتَــظِـري
حَتَّى أَدَلْــتُ لَهُ مِـنْ دَولَــةِ الخَــدَمِ
شَيخٌ يَرَى الصَّلَواتِ الخَمسَ نافِلَةً
ويَستَّحِــلُّ دَمَ الحُجَّــاجِ في الحَـرَمِ

فردَّ عليه (عبدالله البردُّوني) (1)، من قصيدة «وردةٌ من دم المتنبِّي»:

عسكرَ الجِنُّ والنُّبوءاتُ فيهِ ...
وإلى سَيْفِ قُرْمُطٍ كانَ يُنْمَى

فهل «عسكرَ الجِنُّ والنُّبوءاتُ» فيه حقًّا؟

ربما عسكر الجِنُّ في شارح ديوانه (ابن جِنِّي)، أمَّا النبوءات، فبالتأكيد أنها لم تعسكِر إلَّا في أذهان خصومه، كما رأينا في المقال السابق. وأمَّا القرامطة، فهم، بالحريِّ، أعداء المتنبِّي؛ لأنهم هجَّروه من (الكوفة) وشرَّدوا أهله منها، وإنْ عاصر بدايات انكفائهم وتقهقرهم. ومن معاني كلمة «الشيخ» في بيته: السَّيف. وهذا ما يبدو أن البردُّوني فطِن إليه، أو ثَقِفَه من بعض الشُّرَّاح، لكنه ردَّد القول مع المردِّدين بانتماء المتنبِّي إلى القرامطة. والمتنبِّي كثيرًا ما يورِّي عن السيف بالشيخ، كما في قوله:

سَــأَطـــلُبُ حَــــقِّي بِالقَــنا ومَــشـــايِخٍ
كَأَنَّهُــمُ مِن طُــولِ ما التَــثَموا مُـــرْدُ
ثِــقــالٍ إِذا لاقَـــوا، خِـفافٍ إِذا دُعُـوا،
كَــثــيرٍ إِذا شَـدُّوا، قَـــليــلٍ إِذا عُــدُّوا
وطَعــنٍ كَأَنَّ الطَّعـنَ لا طَعـــنَ عِـندَهُ
وضَربٍ كَأَنَّ النَّـــارَ مِن حَـــرِّهِ بَــرْدُ
إِذا شِئتُ حَفَّتْ بي على كُلِّ سابِـحٍ
رِجـالٌ كَأَنَّ المَوتَ في فَمِها شَهْــدُ(2)

فقد عطف «المشايخ» على «القَنا»، كأنه قال بـ«قَنا وسيوف». وإنْ كان قد ورَّى عن هذا المعنى بوصف «المشايخ» بما يناسب المعنى الحقيقي، وهو ما يُعرف لدى البلاغيِّين بالتورية المرشَّحة. ولعلَّه إنما يريد بقوله «كَأَنَّهُمُ مِن طُولِ ما التَثَموا مُرْدُ»، أن السيوف من طول انغمادها عن طلب الحق، الذي طالما جأر بنُشدانه، كأنها المُرْد الضِّعاف عن الطَّلَب، لا المشايخ المتمرِّسون. ولأن ذلك كذلك، تحدَّث مِن بعدُ عن «الرِّجال» في البيت الرابع. ولو كان يعني بـ«المشايخ» في البيت الأوَّل «الرِّجال»، لكان في الكلام عن الرِّجال من بعدُ تكرارٌ بلا معنى جديد، بل لكان انحطاطًا عن معنى «المشايخ» في البيت الأوَّل، بحسب فهم الشارحين.

وهكذا المتنبِّي؛ كثيرًا ما يُدير الرؤوس بألاعيبه اللغويَّة والبلاغيَّة. وتلك من أفانين عبقريَّته الشِّعريَّة، وأسباب السَّهَر جرَّاء شِعره واختلاف الخَلْق فيه. وما أعلم أحدًا التمح هذا المعنى في معنى «المشايخ» في هذا البيت. وإنْ كان في شرح (الواحدي)(3) ما يشي بأنه لم يستسغ ذِكر «القَنا» وحدها دون «السيوف»؛ فأراد اقتراح تركيبٍ يسوِّغ ذلك؛ فذهب إلى أن الشاعر إنما كنَّى بـ«القَنا» عن نفسه وبـ«المشايخ» عن أصحابه! قائلًا: «أراد أنه يطلب حقَّه بنفسه وبغيره؛ فكنى بالقَنا عن نفسه وبالمشائخ [كذا بالهمز، وحبذا عدم همز المشايخ!] عن أصحابه، وأراد أنهم محنَّكون مجرَّبون، ولذلك جعلهم مشائخ، وقوله «كأنهم من طول ما التثموا مرد»، أي أنهم لا يفارقون الحرب فلا يفارقهم اللثام؛ فكأنهم مُرْدٌ حيث لم تُرَ لِحاهم كما لا يُرَى للمُرْد لِحًى». ولا أدري لِمَ يخصُّ الشاعر نفسه بـ«القَنا»؟! لكن هكذا ذهب الواحدي.

مهما يكن من أمر، فإن غاية ما يصحُّ من الأبيات التي اتهمه بعضٌ بالقَرْمَطَة بسببها- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي-: القول: إنه يبالغ، نهجَ الشعراء، في تصوير عدائه لمعاصريه، ولاسيما من السلاطين، زاعمًا أنه لو استطاع، ما رعى فيهم إلًّا ولا ذِمَّةً ولا حُرمةَ دِين. وربما صحَّ القول: إنه ضَرَبَ بفعل القرامطة المَثَل فيما سيفعله بهم سيفُه، أو شيخُه. والقرامطة: نسبة إلى (حمدان بن الأشعث الأهوازي، ولقب شهرته: قُرْمُط، القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي)، مؤسِّس هذه الحركة الإسماعيليَّة الباطنيَّة في (الأحساء)، الثائرة على الدولة العبَّاسيَّة، التي اشتهر عنها قتلها الحجيج، وأخذها الحجر الأسود إلى (هَجَر)، شرق الجزيرة العربيَّة، واستبقاؤه هناك عشرين سنة أو أكثر. ولُقِّب بقُرْمُط لأنه كان «مُقَرْمَط» الوجه، كما نقول بلهجتنا الفَيْفِيَّة، متغضِّن الملامح عبوسًا. وقيل ذلك وصفٌ لجسمه، لقِصَر قامته، وقيل هو وصفٌ لخَطِّه أو لخَطْوه.(4)

ونحن لا يعنينا معتقد المتنبِّي في كثير أو قليل، غير أن ما يعنينا أن هذا الشِّعر الذي يُستدلُّ به على عقيدته لا يدلُّ على شيء، ولا يصحُّ معه تحديد اعتقاد؛ ولو صحَّ أن تُستقرأ عقائد الشعراء من شِعرهم على هذا المنهاج، ما سَلِم شاعر من زندقة! وأغلب الظَّنِّ أن الرجل لم يكن باطنيَّا ولا ظاهريَّا، أصلًا، فشخصيَّته وشِعره دالَّان على أنه كان يرى نفسه فوق المذاهب والدُّوَل. نعم، قد تتجاذب لغته التعبيرات الثقافيَّة؛ والإنسان ابن بيئته وعصره، لكن انتماءه بين ذلك لا يتسنَّى الجزم بشأنه. عدا أنه يبدو- بحسب أخباره وبعض إشارات شِعره- أنه رُبوبيُّ التصوُّر، كـ(أبي العلاء المعرِّي)؛ مؤمنٌ بالربِّ الخالق، لا بالأديان والنبوَّات.

ما لنا ولهذا التنقيب في الصدور؟ غير أن الشاهد في الموضوع أن التلقِّي كثيرًا ما يُلقي على المبدع من النعوت ما يحمله إليه النصُّ، وهمًا قرائيًّا، أو تأويلًا، أو نبزًا. وقد ظلَّ تلقِّي النصوص الأدبية في تراثنا العربي في حدود القراءات المباشرة، ومهارات الفهم الأوَّليَّة، التي لا تذهب بعيدًا في تذوِّق النص، ونقد خطابه، والوعي بطبيعته النوعيَّة. كيف لا، وقد رانَ على عقول معظم المشتغلين بالشِّعر والشعراء أن «الشِّعر كلامٌ موزونٌ مقفًّى له معنى!»، يقرؤونه كما يقرؤون الأخبار والسِّيَر؟ هذا في تعاملهم مع النصَّ. ولا غرو- في تعاملهم مع الشخص- أن يجدوا أبا الطيِّب قد اتُّهِم بشتَّى التُّهم من معاصريه، الذين هجاهم بأقذع ما فيه من طاقة الهجاء:

أَذُمُّ إلى هــــــذا الزَّمَــــــانِ أُهَــــــيْلَـــــهُ
فأعلمُهُمْ فَــدْمٌ وأَحْزَمُـــــهُــــــمْ وَغْــــدُ
وأكرمُهُمْ كَــــــلْبٌ وأَبْصَـــرُهُــــــمْ عَـــــمٍ
وأَسْهَدُهُمْ فَهْدٌ وأَشْجَـــــعُهُــمْ قِــــــرْدُ
ومِنْ نَكَدِ الدُّنيا على الحُرِّ أَنْ يَـَرى
عَـــــدُوًّا لَهُ ما مِنْ صَدَاقَــتـــــِهِ بُـــدُّ
بِقَلْــبِي وإِنْ لم أَرْوَ مِنـهـا مَـلالَــــــةٌ
وبِيْ عن غَوانِيْها وإِنْ وَصَلَتْ صَــدُّ
خَليلايَ دُوْنَ النَّاسِ حُزْنٌ وعَـــــبْرَةٌ
على فَقْدِ مَنْ أَحْبَبْتُ ما لَهما فَقْـــدُ
تَــــــلِجُّ دُمُوْعِيْ بِالجُفُــــــوْنِ كأنَّــــــمـا
جُــــــفُوْنِيْ لِعَــــــيْنَيْ كُلِّ باكـــِيَةٍ خَــدُّ
وإِنِّي لَتُغـــنيني مِنَ المَــــــاءِ نُغْــــــبَةٌ
وأَصْبِرُ عَنهُ مِثْلَ ما تَصْبِرُ الرُّبْــدُ
وأَمْضِى كما يَمْضِي السِّنَانِ لِطِيَّتِي
وأَطْوِيْ كما تَطْوِيْ المُجَلِّحَةُ العُقْـدُ
وأُكْــبِرُ نَفْسِيْ عَنْ جَــــــزَاءٍ بِـغِـْيــــــبَةٍ
وكُلُّ اغْتِيَابٍ جُهْدُ مَنْ ما لَهُ جُهـْـدُ
وأَرْحَــــــمُ أَقْوَامًا مِنَ العِــيِّ والغَــــــبَـا
وأَعْــــــذِرُ في بُغْــــــضِيْ لأَنَّهُــمُ ضــِدُّ(5)

(1) (2002)، الأعمال الشعريَّة، (صنعاء: الهيئة العامَّة للكتاب)، 2: 965.

(2) (د.ت)، شرح ديوان المتنبِّي، وضعه: عبدالرحمن البرقوقي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 2: 92

(3) (1861)، شرح ديوان المتنبي، عناية: فريدريخ ديتربصي (برلين: ؟)، 297.

(4) انظر: الأنصاري الأحسائي، محمَّد بن عبدالله آل عبدالقادر، (1999)، تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد، (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز).

والموسوعة العربية [على الإنترنت]، (قرامطة): https://goo.gl/VYBZLa

(5) شرح ديوان المتنبِّي، وضعه: البرقوقي، 2: 92- 95.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى