الخميس ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧

هوامش على جذع نخلة يحيى السماوي

بقلم : يس الفيل ـ مصر

وجوده بيننا يؤكد أن شعرنا بخير..وأن جذوره الممتدة في تربة النفس العربية لأكثر من ألف وخمسمائة عام ، ستظل تقاوم التصحر والجفاف .

هذا هو الشاعر العراقي المهاجر يحيى السماوي الذي يؤكد بإبداعه المتجدد أن الأصالة لا تستوجب الجمود ، وأن التمسك بالموروث من القيم لا يتطلب الإنكفاء على المستهلك من المعاني والصيغ والأفكار ... ذلك اننا بالمعايشة الواعية نستطيع أن نقدم روح العصر حية نابضة فيما نطرح من إبداع يستوعب هذه الروح المتطلعة الى آفاق التجاوز دائما ، وذلك بصدقنا الفني ، ثم بصدقنا مع أنفسنا ، في كل ما نطمح إليه من كمال إنساني منشود .

فبعد غربة عن الأهل والوطن امتدت نحو عقدين ، يعود الشاعر إلى العراق ، وهو بهذه العودة كأنما عاد الى الحياة مرة أخرى :

الآن أبتدئ ُ الصبا ولو انني

جاوزت ُ خمسينا ً من السنوات ِ

ميلاد جديد بعد يأس قاتل ، وبداية مأمولة بعد نهاية مأساوية فرضها نظام بغيض ، كم عادى الأحرار ونكل بهم ، وطاردهم أينما حلوا ، رغم أن هولاء المطاردين كانوا أسعد حظا ً ممن لم يستطيعوا الفرار من المحارق الصدامية .

وشاعرنا الذي جمع بين الأصالة والمعاصرة في إبداعه الممتد خلال اربع عشرة مجموعة شعرية ، ما زال يقبض على جمر الكلمة الحية الناصعة حين يخاطب الوجدان العام مخاطبة مباشرة لا سيما وهو يتحرى قضايا وطنه الذي تهرّأ تحت سياط الأبناء والغرباء على السواء .. يتجلى ذلك بوضوح في مجموعته الشعرية " نقوش على جذع نخلة ـ منشورات دار التكوين ـ دمشق" حيث لا يكتفي الشاعر باستلهام روح العصر وانطلاقاته ، ولا تستعبده اللغة بمفرداتها العتيقة وإنما هو يجنح إلى المغاير معنى ً والمختلف مبنى ً ، ليقدم لنا سبيكة عصرية تؤكد انحيازه للموضوعية وحرصه على تجاوز السائد والمألوف :

أنا يا عراق ُ حكاية ٌ شرقيّة ٌ

خُطتْ على رمل ٍ بسنّ ِ حصاة ِ

غرّبْتُ في أقصى الديار فشرّقت ْ

روحي .. وحسبك منتهى غاياتي

مولاي كم عَصَفَ الزمانُ بمركبي

فأغظتُ مُزْبِدَ موجه بثباتي

وأحسب أننا من خلال قصيدتين فقط ، وردتا في هذه الملحمة الشعرية ، نستطيع أن نؤكد ما ذهبنا إليه ، من أنه قد تفوّق على نفسه ، وهو يتعايش على البعد مع قضايا وطنه ، ويغامر في التعبير عمّا يعانيه هذا الوطن ، المنكوب بأبنائه .. قبل نكبته بالإحتلال الأخير .

ففي مطلع قصيدته الملحمية " يا صابرا ً عقدين إلآ بضعة " والتي سبق نشرها في المجلة العربية "العدد 330 " تحت عنوان " ما أحلى العراق " يقول الشاعر :

ألقيتُ بين أحبتي مرساتي

فالآن تبدأ ـ يا حياة ـ حياتي

الآن أختتم ُ البكاءَ بضحكة ٍ

تمتدّ من قلبي إلى حدقاتي

إلى أن يقول :

انا في السماوة لن أكذب ما ارى

فلقد رأيت ُ بأهلها قسماتي

لا يُخطئ القلبُ الترابَ شممته

فتعطرتْ بطيوبه نَبَضاتي

وهنا يضعنا بصدقه الواقعي في قلب المشهد الأسيان :

سأصيح بالقلب الأسير كفى الأسى

فاغلقْ كتاب الحزن ِ والنَكبات ِ

ثم يتوجه الى موطن هواه ،ليؤكد لنا أنه ما رأى الحياة جديرة بالعيش إلآ في لحظات العودة إليه ، لتتداعى الذكريات بعد ذلك ، حيث الجسر الحديد والسجن القديم جهة الرميثة في السماوة ، وما في المدينة من نخيل مستوحش للغائبين .. ورغم اختزال ما شهد من محن ٍ وما تجرّع من أسى ً في لحظة الميلاد هذه ، تلك التي سمت فيها نفسه وشفت فيها روحه لتطارد الضغينة ، مثلما يطارد الضياء جحافل الظلام ، إلآ أن الزفرات تتصاعد من وجدانه ، والمعاني تتطور مع أبجدياته ، لتصل إلى اللحظة الفارقة .. ويطرق الباب .. وسأله مَنْ بالداخل .. وهنا يردّ الشاعر : حيّ ميّت ٌ .. خبر الجحيم فتاق للجنات .. ثم ليستطرد متسائلا : أين العجوز ؟ أين أمي ؟

فحضنتها حضنَ الغريق ِ يشدّه ُ

رَمَق ٌ من الدنيا لطوق نجاة ِ

قبّلتُ حتى نعلها ... وكأنني

قبّلتُ من ورد ِ المنى باقات ِ

وسألتها عفوَ الأمومة عن فتىً

عبثتْ به الأيامُ بعد شتات ِ

وفي رحلة سريعة معه عبر الأزقة والحارات وبعد استغراق ، يسير في زمان كبا وأيام تعثرت في دروب المصير .. ورغم صخر السنين الذي أثقل خطوه ووحشة الطرقات التي جرّحت أقدامه .. إلآ أنه يهتف وقد أشجته العودة وأنسته كل ما كان :

الله ! ما أحلى السماوة .. ليلها

باكي النَداوة ِ ضاحكُ النَسَمات ِ

الله ! ما أحلى السماوةَ .. صبحها

صافٍ صفاء َ الضوءِ في المرآة ِ

فتّانة ٌ .. حتى نِباح ُ كلابها

خلفَ القرى يُغوي ثغاء َ الشاة ِ

أتفحّصُ الطرقات .. أبحث بينها

عن خيط ذكرى من قميص حياتي

وكأنما هو يؤكد مقولة مَنْ سبقه من الشعراء الذين تجرعوا مرارة النفي والتشريد والإغتراب ... أزمانا ً.

ورغم لوعة الأسى ومرارة الأشواق .. إلآ أن قيم الشاعر وأخلاقياته تستصرخانه حتى وهو بين المطرقة والسندان .. ليتذكر حينما تطلعت نفسه وهو دون البلوغ ، إلى جارته .. فإذا بصفعات أبيه وتهديدات أمه تذكرانه ، إن كانت المراهقة قد أنسته ما لا يجب نسيانه ، لكأن به يذكرنا بالبيت العربي الشهير :

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي

حتى يوارى جارتي مثواها

وحينما نصل الى بيت القصيد في قصيدته الملحمية هذه ، نتعجب مما يقول فيها مخاطبا هذا الوطن القابع في أعماقه ، المتجذر في روحه :

جهّزْ ليومي في رحابك فسحة ً

وحُفَيْرَة ً لغدي تضمّ رفاتي

مما يقطع بأنه هنا وجد ضالته المنشودة في هذه العودة الآملة ... لكنه يغادر العراق بعد حين عائدا الى منفاه الإختياري ، عندما اكتشف أن نهر الدم لم يتوقف عن الجريان.

أطرق الباب على ثانية المليحات والتي جاء عنوانها عنوانا ً للمجموعة الشعرية بكاملها ... وهي بدورها ملحمة من ملاحم الوطنية وإنْ لم تخضع للنظام البيتي كسابقتها ، وبذلك اتسع أفقها واستطال مداها ، حتى شملت العاصفة وما سبقها وما خلفته على أرض الواقع من دمار ، لا يعنيها في ذلك اكتمال الإيقاع ولا التحام الموسيقى التي تدفقت نغما ً ربانيا ً في شرايين الملحمة السابقة ، ثقة ً من الشاعر أن لكل حدث ٍ حديثا ً، ولكل فاتنة أسباب فتنتها .. من هنا يستسلم كلية لذكرياته المتقدة ، كذلك لم يشغله تصوير ذلك الواقع البغيض وإنما أصبح .. وكل ما يعنيه .. خلال ثلاثين لوحة رسمتها هذه المطولة أن يستوحي الأحداث ما جرى ، وأن يستثير الصمت ، ليتحدث بما كان .. ولغة الصمت أوقع في أذن المعتدي من الصراخ والعويل ، لا سيما إذا كان هذا الصمت مما يسبق العاصفة .. لكن .. ويا للأسف

ٍ
وراء كل مستبد ٍ

نخبة ٌ تعمل في صناعة الألقاب ْ

وزمرة ٌ من المصفقين َ لا تتعب من نفاقها

وثلة ٌ من أدعياء الفكر ِ تسترزق من أقلامها

تجيد فنّ " الردح والمدح "

أو الرقص على وقع رنين التبر ِ

في الولائم " المدفوعة الحساب ْ "

وجحفل ٌ من أشرس الذئابْ

وهو هنا يعرّي الدجل والنفاق ، ويسخر من بطانة الزيف ، حينما تستمرئ التصفيق للمختل والمنحرف والساقط والجبان ، دونما اعتبار إلى أنها إنما تزايد على وطنها ، وتساند من أضمر السوء لهذا الوطن ، الذي كتب عليه أن لا ينجو من محرقة إلآ ليقع في محرقة أشدّ وأقسى ..
وبحسب الشاعر أنه لم يستطع غض البصر عن الواقع المأساوي الذي تجسده هذه اللقطة بالغة الدلالة على عنف المعتدي وشراسة العدوان :

طفلٌ بلا ساقينْ

وطفلة ٌ مشطورة ٌ نصفين ْ

وطاعن ٌ دون يد ٍ

وامرأة ٌ مقطوعة ُ النهدين ْ

وكوّة ٌ في قبّة ِ الحسين ْ

جميعها :

حصاد طلقتين ِ من دبّابة ٍ

مرّتْ بكربلاء ْ

تحيّة ً ليوم ِ عاشوراء ْ

وكما نرى .. فإن الشاعر هنا قد استنطق الحدث بعد أن أخرسته المأساة وألجمته تداعياتها ، مما يقطع بأن وحدة الصور وتجانسها داخل السياق الشعري إنما هي قد فرضت نفسها استجابة لانفعال حادّ ٍ هيمن على ذهن الشاعر ، ليقدم لنا في النهاية كلية التجربة ، بعد استبعاد ما هو غير متجانس مع طبيعته الخاصة .

ليس هذا فحسب .. وإنما هو يرتدي عباءة المصلح لينفذ من خلال الحمية الدينية الى قلوب مَنْ تسابقوا الى اقتسام الغنيمة :

يا كلّ مَنْ جاؤوا الى وليمة العراق ْ

من ساسة ٍ ومن مُرابين َ

وباحثينَ عن أسواق ْ

لتتقوا الله به ِ

فليس من مكارم ِ الأخلاق ْ

أكلُ نطيحة ٍ على مائدة النفاق ْ

وأحسب أن الشاعر وهو يتشح الحكمة ةيتكئ على القيم لإثارة المتهافتين .. أحسب أنه ما استخدم هذا الأسلوب إلآ ليكون أبلغ في السخرية ممن لم يستوعبوا أحداث التاريخ .. فقد يمنعهم الحياء من مواصلة الرحلة ، أو يردعهم الخجل عما تسابقوا إليه .. لكن يبدو أن وراء الأكمة ما وراءها ... لا سيما :

تعفرتْ بذلها الجباه ْ

فطاعن ٌ يبحث عن دوائه ِ

وجائع ٌ يبحث عن طعامه ِ

وخائف ٌ يبحث عن مأواه ْ

وعاشق ٌ يبحث عن ليلاه ْ

في الوطن المحكوم بالمأساهْ

وبعد ؟ فهذا حديث متوجع على هامش المجموعة الشعرية " نقوش على جذع نخلة " للشاعر العراقي المبدع يحيى السماوي .

يس قطب الفيل

عضو مؤسس باتحاد كتاب مصر

حائز جائزة البابطين في الشعر عام 1991

بقلم : يس الفيل ـ مصر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى