والتّعابيرُ، تهجرُني أيضاً!
تماماً كما دأبه كلّ يوم، انتصبَ عمّارٌ هذا الصباح أمامَ المرآةِ. وعلى خلافِ عوائدهِ، لمْ يدندنْ بأنغامٍ، إنّما مسحَ بحدّ كفّه على سطح المرآةِ الصّقيل، مجلياً امتدادات شبُّورةٍ آتيةٍ منْ نهر سَبو، وجعلَ يرمقُ وجهَه في الزّجاج، لوقتٍ، مثلَما لو يبحثُ فيه عنْ شيءٍ محدّدٍ. كشّر مفصحاً عنْ كاملِ أسنانه الأماميّةِ اللّصصِ. بدا الوجهُ وجهَه. بدت الأسنانُ أسنانَه. بعدَ حينٍ، أخذَ يمرّرُ رؤوسَ الأناملِ على مواطن الزّغبِ، ويمسدُ عليها. اقتربَ أكثرَ منَ الزّجاج وأكشر. ثمّ أمالَ باليدِ حنكَ اليمين إلى الشّمالِ، وأمالَ حنكَ الشّمال إلى اليمينِ. وكشّرَ منْ جديدٍ. رفع الذّقنَ بالسّبابة والإبهامِ إلى فوق، وتركه يسقطُ منْ تلقائه. وحينما عوّجَ الفمَ، وخوِصَ عيْناً وجحّظَ أخرى، حسبَ نفسَه مسخاً.
دخلَ المطبخَ لهنيهاتٍ، ثمّ خرجَ منْه مخطوفاً يحثّ الخطوَ صوبَ مرآة الحَمّام. ومنْ جديدٍ، عاد يتأمّلُ وجهَه. ماذا دهى الرّجلَ؟ كمّش بالأصابع على جلدة الوجنة، وصار يضغطُ ويجرّ، حتّى لتظنّ أنّه يلعبُ بعجينٍ. لكن، عجبٌ! لا قبوُ فمِ الرّجل اتّسعَ هذه المرّةِ، ولا الخدّان تخضْخَضا. وعبثاً، حاولَ عمّارٌ أن يكشّر. وجهٌ لا يُصدرُ خبراً، وملامحٌ لا تشي بحياةٍ. وفي منتهى الحياد، همسَ عمّارٌ: يا للهول، فقدتُ التعبيرَ!
صديقي عمّار، كما أصدقاء لي، قالَ يوم السبت، أقصدُ أمس البارحة، إنّ وجهَه لم يعد يعبّرُ. ولم يحدث هذا دفعةً واحدةً، أعلمَ. بلْ جاء كالماء الشَّلشلِ. نقطةٌ ترتدفُها نقطةٌ، حتّى فاضتِ الكأسُ بما حملت. وهذا الصباح، وأنا ألجُ بابَ الإدارة، استرعى انْتباهي وجهَ حارسها المحايدِ. في العادة، يستقبلُني أبا إدريس بحركةِ منَ الوجه، أفهمُ منْها أنّها ابتسامةٌ. الرجلُ يبتسمُ لي، بينما يقومُ منْ على كرسيه نصف قومةٍ، ويمدّ اليدَ بالتحيّة. وأنا أقابلُه بمثلِ ذلكَ. رجلٌ ناخص اللّحم، ويبتسمُ. هذا هو أبا إدريس كما عهدتُه منذُ التحقتُ بهذه الإدارة قبل العقد والنصف منَ السنين. يأكلُه النقرسُ والسُّكّري، ويبتسمُ لي كلّما دلفتُ إلى العمارةِ. أبا إدريس رجلٌ مسنٌّ وطيّبٌ، وأنا أحبّهُ. لكنّ أبا إدريس لم يبتسمْ عند هلّتي لصباح هذا الإثنينِ. اكتفى بمدّ اليدِ، فيما ظلّ فمُه مزموماً. وجهه، هو الآخرُ، لا يفضي بتعبيرٍ. موظّفو الإدارة؟ نعم، بعضُ موظّفيها فحسبُ، هو أيضاً، لا يُبين تعابيرَ. كما لو أنّ وجوهَهم لا تحملُ أمارات. كأنّما هي أبوابٌ موصدةٌ. وجوهٌ بخطوطٍ مستقيمةٍ ونازلةٍ، وتجاعيدَ مستطيلةٍ وعموديةٍ. تتحرّكُ الرؤوسُ دون أنْ تتحرّك عضلاتُ الوجه. لا تتحرّكُ 17 عضلة برسم الضّحكِ، ولا تتحرّكُ 43 عضلة برسم الغضبِ. ما يماثلُ الستين عضلةٍ في الوجهِ لا تؤدّي دوراً. هذا كثيرٌ. بعضُ الوجوه القمطرير، رأيتُه في الشارع. في دافنِ المقهى، الذي أرتكن فيه زاوية جانبية، شاهدتُ ما لا يعدّ من الوجوه على المنوال نفسه. شاهدتُها منْ قبلُ في الزقاق الفرعي. وجوهٌ تتخازَرُ، ولا تنطقُ بمعنى محدّدٍ كالطلس. تتناظرُ في حياد تامٍ. دهمني خوف، فرحتُ أتحسّسُ وجهي. لم يطل اصطباري، فنهضتُ أبغي التواليت. وزان المرآة، دعكتُ جوانبَ وجهي. وصفعتُ حنكيّ. وفي الحوضِ، بللتُ وجهي ونشّفته. اطمأننتُ إلى أنّ عضلات وجهي في محلّها وغير متصلبةٍ. اطمأننت أكثر حينما كشرتُ في الزجاجِ بضحكةِ خرساءَ. سوّيتُ ياقتي بَدْلَتي الكحلية وربطة العنقِ الزّرد. نقدتُ النادلَ، وغادرتُ.
حالةٌ بشريةٌ عجيبةٌ، قيضَ لي أنْ أُشهدَ عليها في بداياتِ هذا العقْدِ الثّاني منْ القرن الواحد والعشرين، هنا في مدينة القنيطرة بالمغرب، وفي هذا اليوم الخريفي الباردِ؛ حالةُ ابتدأت بحكايةٍ صديقي عمّار، صباح يوم الجمعة، ثمّ انتقلت الحكايةُ إلى الإدارة، فالشارعِ. بشرٌ لا يملكُ منَ الوجهِ سوى الجلد والسّحنة. أينَ ذهبتِ التعابيرُ، تعابيرُ الناس؟ أهي ريحٌ نكباءٌ هبّت، فعصفت بالعلامات الحييّة؟
بعد يوميْن، صرتُ أشكو منْ تشنّجاتٍ. في سرّي، قلتُ: ها حانَ دوركَ يا السي محمد. خطوطُ وجهي تتصلّبُ وتستقيمُ. عيناي تضيقانِ. غضونٌ تجمّعت في جبْهتي. تجاعيدٌ انتشرت على صفحةِ محيّاي. هلْ هي الأعراضُ؟ سألتُ صديقي عمّاراً. نعم، هي الأعراضُ، أنا أقولُ لكَ، أجابَ. وما العمل؟ سألتُ. استشر طبيباً، أجابَ. أنا أقولُ لكَ. ثمّ أغلقَ هو، فيما وضعتُ أنا ذراع السماعة، ورفعتُ منْ صوتِ جهازِ التلفازِ.
صباحَ هذا الخميس. ذهبتُ إلى الطّبيب، ولمْ أذهبْ إلى الإدراةِ. ربّما هاتفتُ أحدَهم بالإدارةِ. لا أذكرُ. صعدتُ إلى الطابق الثاني منَ البناية الزجاج المظلَّلِ بشارع محمد الخامس، فوق مقهى ميتربول. كلّ المقاعدِ في صالة الانتظار مشغولةٌ. وثمّة كثيرٌ منَ الواقفينَ. أفهمُ أنْ تُملأَ صالةُ عيادةٍ بمرضى. شاهدتُ هذا الوضعِ في عياداتٍ. لكن أنْ تُفاتحُني السكرتيرة الخدْبَجةُ، حالما وطأت قدمايَ البابَ، في الموضوعِ، فهو ما لم يخطرْ ببالي قطُّ. أعرفُ أنّ مهمّة سكرتيرة الاستقبال تنحصرُ في فتح ملف طبيٍّ لكَ، ومنحكَ رقمَ ترتيبٍ بالولوجِ. هذا عملهُا، وعنهُ تتقاضى جرايتَها. بيدَ أنْ تباشر معكَ موضوع الزيارة، هي نفسها، فهذا ليسَ منْ بابِ اختصاصها بالقطعِ. هو اختصاصُ الطّبيبِ بالأحرى. سألتني المرأةُ الرتكةُ، بعدَ أنْ تقحّمتني بعيْنٍ نافذةٍ، وحاجبٍ مقوّسٍ، عمّا إذا كانت التعابيرُ هجرت وجهي أنا الآخر. ثمّ لمزت بذقنها إلى الصّالة، وأردفت قائلةً إنّ هؤلاء، جميعهم، القاعدون منهم والواقفون، يشْكون منَ الأعراض ذاتها. هلْ ستنتظر دوركَ أم ترجئ الموعدَ إلى وقتٍ لاحقٍ؟ طبعاً، أرجأتُ الموعدَ. نزلتُ المصعدَ، وسرتُ في الشّارعِ. ضجيجٌ في الرّأسِ، والخاطر متضايقٌ. قدمايَ تسلكان بي في اتجاه مبْنى الإدارة، بينما العينانِ تفتّشانِ عنْ مكانٍ، أقرب مكانٍ، يسعفُ على التّفكير في ما يحدثُ. شربتُ قهوتي، ولمْ أفكّر في شيءٍ. بلى، فكّرتُ في أنْ أحصلَ على رخصةٍ إداريةٍ لأسبوعيْن على الأقلّ، وأهربَ بجلدي. أهربُ أيْن؟
وهذا السبتُ، قال لي عمارٌ في النقّالِ: لا تذهب إلى الطبيبِ. أنا ذهبتُ وزوجتي. أنا أقولُ لكَ. وفي المقهى قال عمّار بينما كانَ يمجّ سيجارتَه مجّاً: سيمنحُكَ الطبيبُ دواء الزاروكسات. الدواءَ نفسَه الذي وصفَ لي. وسيقولُ لكَ خذْ لكَ أيضاً دواء السيرلكس، أو المكلويمايد أو الأُتراكس. أنا أقولُ لكَ. وسيقولُ إنّكَ مصابٌ بالرّهابِ الاجتماعي، ويقدّمُ إليكَ وصفةً بالأدويّة السيروتونية. أنا أقولُ لكَ. الكلامُ عينُه، والوصفاتُ ذاتُها. وسينصحُكَ بالفاشيا ثيرابي لتدْليكِ عضلات الوجهِ. وربّما نصحكَ باللّبان كيْ تبرمَ به أضراسكَ، وتحرّكَ بهِ عظْمةَ الفكّ. أنا أقولُ لكَ. الطبيبُ، أيّ طبيبٍ، قال هذا الكلام لمنْ دوّخه وجهُه مثْلي، فزارَ العيادةَ جَزوعاً. لا تزر الطبيب يا صديقي السي محمد، لا حاجةَ لك به الآنَ. أنا أقولُ لكَ.
حديثُ صديقي عمّار إليّ، صباحَ هذا السبتِ، أَسْدى لي خدمةً. هذا الحديثُ كنتُ أبحثُ عنْه. وعمّارٌ وهَبني إيّاهُ. كلامُ الأطباء باتَ يُضجِرُني. لمْ أصرْ، منذُ أمدٍ، أتحمّله. أحسبُه، في الحقيقة، هلَجاً. تكونُ بينَ أيديهم كالفريسةِ، بينما هم يحذقونَ في اختراع أمراضكَ، ويهضلونَ. يتذاكونَ عليكَ، وأنت غرقٌ في الكرسيّ إزاءَهم كالغشيم، بوصفاتٍ لا لزومَ لها، ويسخرونَ منكَ بمجرد ما تدبرُ مولياً، فيما همْ يسلمونكَ لصيادلةٍ أو مختبراتِ تحليلاتٍ تأتي على الباقي منْ أنفاسكَ. تفعلُ بكَ سكرتيراتُهم الشّيء نفسه. ينْكأنَ بكَ ويشمتْنَ ويبتزْنكَ. لا تخلي العياداتُ سبيلكَ سوى عقبما تعرمُ منكَ آخر عظمٍ وتنكتُه. منْ أين لهم بهذه العمارات والكاتكاتات؟ أنا أكرهُ العيادات والمختبرات. في الواقعِ، صنعَ صديقي عمّارٌ معروفاً إذْ صرفَني عن التطبُّبِ.
وها أنذا، الساعةَ، مُقرنْصعٌ في الشقّة، ومعتصمٌ بها. وقدّامي المرآة، أقرصُ الحنكَ والصّدغَ والوجنةَ والذقنَ والعارضيْن وتقطيبةَ ما بيْن الحاجبيْن. وكلَّ أعضاء الوجه، ألوّي فيها. وأتساءلُ في سرّي عمّا إذا كان عمّارٌ فتحَ وجهَه، وبأيّ جرعاتٍ حقنَ العضلاتِ؟
لا عمّارٌ فتح الوجهَ، ولا زوجته نجحتْ في مخاتلة الكمد رغم ركام الأصباغِ التي أغدقت على صفحة المحيا. الصّدع جواني، والدواء لنْ يكونَ سوى جواني، علّق الرجلُ، ثمّ أغلقَ.