ورثة الشعر
ما الذي حمل أبا العلاء المعري على تسمية كتابه في شعر أبي تمام "ذكرى حبيب"، وكتابه في شعر المتنبي "معجز أحمد"- وهو الذي سمى كتابه في شعر البحتري "عبث الوليد"- إلا أن يكون التورية بمنازلهم عنده، وهو وريث المتنبي، والمتنبي وريث أبي تمام، ولن يكون البحتري إلا صبيًّا حضر القِسمة! لا ريب في أنني إذا احتكمت إلى أعمال ناظم الكلام النصية الثلاثة [التحديد (الاختيار، والإبدال)، والترتيب (التقديم والتأخير)، والتهذيب (الحذف والإضافة)]، التي لم أفتأ أحتكم إليها في تقدير النصوص- أفضيت إلى مواطن الإرث، وقد فعلتُ!
ذهبت أفتش شعر أبي تمام الأكثر، عما يُوارِد شعر المتنبي الأقل، حتى عثرت لأمدوحة المتنبي الوافرية العينية المفتوحة ذات الواحد والأربعين بيتا "مُلِثَّ القَطْرِ أَعْطِشْهَا رُبُوعَا"، على أمدوحة أبي تمام الوافرية الدالية المكسورة ذات الستة والأربعين بيتا "أَظُنُّ دُمُوعَهَا سَنَنَ الْفَرِيدِ"؛ فجعلتُ مقالي "بين أبي تمام والمتنبي: موازنة نصية"، كالتنبيه على ما بين شعريهما على وجه العموم من جوامع وفوارق، ثم ما بين القصيدتين، حتى لَيستحقُّ أن يُعدّ خطوة ثامنة في سبيل التطبيق النصي العروضي.
لقد تفصَّلَت لي أبيات قصيدة المتنبي على خمسة فصول (الأطلال، والغزل، والمديح الأول، والشكر، والمديح الثاني)، بست وستين جملة- وأبيات قصيدة أبي تمام على أربعة فصول (الغزل، والفخر، والمديح، والشكر)، بأربع وأربعين جملة. وكانت جديرةً بالنظر بينهما فصولُ الشكر والغزل والفخر، ثم حركة القصيدتين، ثم حركة الفصول، ثم أطوال الجمل، ثم أنواع الجمل، ثم روابط الجمل ولاسيما روابط الاعتراض والترتب القسمي والترتب الشرطي، ثم مواقع كلم القوافي من جملها- حرصا على استنباط معالم المنزع الفني الواحد الذي نزع إليه أبو تمام، ثم تقدم به بعيدا -وإن لم يسعفه عمره!- وخَلَفَهُ عليه المتنبي بعد حين، ثم تَقَدَّمَ به إلى غايته!
لقد تجلى لي كيف اجترأ المتنبي بإرث أبي تمام، على تركيب الكلام؛ فآثر بعض الكلم على بعض، وقدَّمَ وأخَّر، وقسَّمَ وزاوَجَ، وأَوْغَلَ فيه حتى أشرف على الغاية، بل تجاوزها في غير هذه القصيدة، واشتط حتى يشتغل بِهِ عَنْهُ متلقوه، وهو القائل:
أَنَامُ مِلْءَ جُفُونِي عَنْ شَوَارِدِهَا وَيَسْهَرُ الْخَلْقُ جَرَّاهَا وَيَخْتَصِمُ
قال المعري: "يَقُولُ: أَنَا أَقُولُ الْقَصَائِدَ الشَّوَارِدَ عَفْوًا، مِنْ غَيْرِ إِتْعَابِ فِكْرٍ، وَأَنَامُ عَنْهَا مِلْءَ جُفُونِي، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَسْهَرُونَ مِنْ أَجْلِهَا، وَيَتَنَازَعُونَ فِي دَقِيقِ مَعَانِيهَا، وَجَوْدَةِ مَبَانِيهَا"!