وشوشات عفا عنها الزمن
في وقت من أواخر شهر دجنبر كان البدر يختفي وراء غيم كثيف، زاد الليلة حلكة وسوادا، وقف عزيز الى جانب عمود كهربائي خشبي، مِصباحُه يشكو شُحًّا في الإضاءة. كانت أسنانه تصطك من شدة البرد. شعر حينها برعدة الخجل وعيناه الحائرتان تراقبان غرفتها من بعيد. ذهب احساسُه بوجودها في المكان. شعر بجرح كبير يدمي قلبه، ويثكل روحه، فدفن لوعته في غيابها عن الدراسة لأكثر من أسبوعين. لأول مرة يشعر بارتباك هائل، وأدرك أن بداخله شوق اليها لا ينضب فيضه ... كانت تدرس معه بثانويه عمر بن عبد العزيز بمدينة وجدة. بنفس القسم، شعبة العلوم التجريبية.
كانت (ب) شقراء جميلة لا تفارق الابتسامة محياها. قوامها متسق. يحبها الجميع. تزيدها الغمازتان المرسومتان على خديها جاذبية. انوثتها الصارخة تنضح وراء جسمها الممشوق. كانت أحاديثهما، ونظراتهما تنم عن عاطفة جياشة تنمو بينها في صمت. مضت بهما الأيام كأسعد ما تمضي بين شابة وشاب تحت مظلة حب عذري خفي. لم تكن الساعات التي يقضيها (عزيز وب) مشيا على الأقدام كل يوم ذهابا وإيابا عبر شارع أحفير، مرورا بكوليج باستور، ووصولا الى ليسي عمر بن عبد العزيز، شِبْعاً لإطفاء جمرة الوصال بينهما. كانت القنطرة التي تفصل حي الطوبة الخارجي بداخله، نقطة اللقاء، وفي العود تكون لهما قفلة للديار. احتقن وجه (ب) هذه المرة، وشعرت بضيق شديد حين استدار بطيئا ناحيتها وطفق يغزل الحكايات الوهلة عن مراحل الطفولة والدراسة الابتدائية. حكايات بعض المعلمين الأجلاف بمدرسة ابن بسام للبنين (بوشراوط). كانوا أفظاظا في طباعهم، جفاة في تعاملهم. لا تأخذهم بالأطفال رحمة، وكأن في صدورهم غِمرٌ وسخيمةٌ. يأمرون أطفال القسم الأشداء بوضع الضحايا على الطاولة، ويمسكون الأرجل الحافية بإحكام، وينهالون عليها بالجلد (فلاقة) وهم ينفثون من الغيظ، ويزفرون من التمقُّط، ثم يتركونهم يذهبون الى أماكنهم يزحفون، غير قادرين على المشي. وآخرون كانوا يتفننون في وسائل التعذيب. يضعون المسطرة الحديدية بين أنامل الأيادي الغضة، ويلفونها بين الأصابع بقوة، حتى يلتهب الجلد المثيُّ، فترعش الأيدي وترتعد الفرائص. كانت (ب) تجلس على حافة اليأس. تصغي في إكراب الى عزيز وهو يسافر بمعيتها عبر حكايات القطار القادم من الجزائر، الذي يعزف سمفونية الوصال بين الأشقاء. عندما يمر من فوق الجسر محدثا قعقعة مصحوبة بنفيث يسمعها سكان المدينة جميعهم. من الفيتنام شمالا، الى سيدي معافه جنوبا. ومن واد الناشف غربا، الى سيدي يحيى شرقا. يكون هذا الصفير موعداً يلقي بعض المسافرين الاوّابين من وهران وتلمسان عبر نوافذ القطار أمتعتهم وبضائعهم لأهليهم وذويهم الذين يكونون في الانتظار. ثم يبحر عبر حكايات وادي ايسلي، وبرك العوم المعروفة بأسماء مختلفة " كالزيد ور، والزرقة، والبارج، وهلم جرا...
غابت (ب) طيلة أيام الأسبوع، فدست في هذا الغياب إكماد وإتعاس. ولم يكن الأمر على ما رجمَتهُ ولا توهمته. منعها والدها من مواصلة الدراسة. لم يعد عزيز يستسيغ لذة السبات. فأضحى كلما يمر من تحت الجسر يشعر بأنفاسها تلامس روحه. فتحول القلق الى لهفة اللقاء، ومعرفة أسباب الاختفاء. ألفى نفسه يتوَكَّفُ الأخبارَ عنها ويتجسسها. لماذا أفَلَت فجأة كما يأفل القمر نهاية الشهور الهجرية؟ ولماذا لا يزال اسمها يحلق بين أسراب النجوم المتلألئة؟
جاءت (نجاة) صديقة دراسة مشتركة. فلم تكظِم على جِرَّتها، واستراحت الى عزيز بمكنون سرها. وأخرجت دفائن صدرها، فأخبرته بقرب خطبتها من شاب يقطن بالديار الفرنسية. فالتهبت نار الغيرة في جوانحه. دفعته همسات الشفيف على قارعة الشوق لرؤيتها، مهما كلفه الأمر من ثمن. لعل النظر الى وجهها يشفي لهفة التوق والصبابة.
انتقل في اليوم الموالي بين أرجاء الزقاق الضيق الذي تسكن فيه (ب)من حي (بو غالم) ذهابا وإيابا. يحلق بحلمه الضائع باتجاه نافذة بيتها المطل على الشارع. يحاصره صمت المكان في ظلمة يوم بارد. يدسُّ في جيبه ورقة تحمل بين طياتها عباراتٍ معقولةً بالتعب والكلال. يشرح لها ما أصاب جسمه لإعراضها من إعياء ونَصَب. حروف تحمل أشواق الذكريات على غيم الكلمات. لأنها فتاة عفيفةٌ وحَصانٌ. لا خطِلة المنطق، ولا فاحشة اللسان. ارتجف قلبه النازف بهول النزوع والوله، لما تجلت له ذَكْوة نور تتسلل من بين شقوق النافذة الخشبية. انفجرت في نفسه جُذوةٌ غريبة أربكت عيناه الغافيتين. انفرج الشق الأيمن من النافذة على مصراعيه فلاحت الحسناء (ب) بلباس نوم ابيض كملاك ضل الطريق. نظرت اليه بدلال زائد وهي تلقي بشعرها الاشقر المسدول على كتفها. احتضنته بقلبها من بعيد، فامتلكته الدهشة قبل ان يصله هميس صوتها المنبعث من شفتين نديتين. كأن قطرات الطل المتساقطة لثمتهما على التو. استقرت ابتسامتها الحلوة على جدار قلبه وغمغمت: ماذا تفعل هنا في هذا الوقت يا عزيز؟
ترك الصمت يسود برهة، لأن ابتسامتها العذبة، وصوتها الشجي، أتْرعا نظراته المنكسرة فخيم عليه وجع وحزن شديدين. أخرج الورقة المكتوبة بيراع الأحزان من جيبه، ولفها حول الحصى، ثم ألقى بها بين أحضان (الجميلة ب). لم يبرح المكان حتى التقفتها بين أحضانها بعد ثلاث محاولات متتالية من المطاوحة. انصرف عبر ساحة اسمها (الجردة)وكلماتها ترفرف بين جوانحه. لقاؤها لم ينسه ذكريات ممارسة بعض الألعاب رفقة الأتراب بهذا المكان [ كزوزليط—ودينيفري—والنيبلي—والزربوط—وداسوس—...] وكان التنافس على أشده بين فرق الأحياء لكرة القدم بملاعب مختلفة (كالمرشي والغابة الصغيرة la petite foret- - وسوق الغنم- وعلى هامش حي النيجر...
في اليوم الموالي ذهب عزيز الى ثانوية عمر بن عبد العزيز كعادته يلفه الإحباط، أشأم من البسوس. ركن الى مكان لا يدركه الضوء الا قليلا. ينتظر دخول التلاميذ عبر البوابة الخلفية للمؤسسة، التي تطل جهة اليمين على ساحة الرياضة. سيستهل يومه الدراسي بحصتين متتاليتين للتربية البدنية، قبل الرياضيات والعلوم. من حسن الحظ هطل المطر وأجلت الحصة الى وقت لاحق. تذكر حينها أنه كان يجد لذة وهو يمشي رفقة (ب) تحت الرذاذ. جسده يلتصق بجسدها وهي تحكي له حكايات الصبا بتحفظ...
تراءى له من بعيد الصديقة نجاة تشق طريقها نحوه بابتسامة عريضة. فحصته بنظرة سريعة واستطرت قائلة: ها أنا جئت لأكسر ترقبك الرهيب، وحزنك العميق، وكدرك الأسيّ... تسمرت نظراته، وارتبكت يداه، وتصلبت ابتسامته، وأحس بإيلام مغص يلف أمعاءه وقال: هل من أخبار عن (ب)؟ قالت بنبرة تنطق بالأمل: هذه رسالة منها...خذ...
كُتبت الرسالة بخط أزرق على ورقة وردية، لظى حروفها كالشظايا تلتئم من بوح مكتوم لسنوات. كأنها رُتِّلت في معابد الغزل والتَّتَيم. تروي من فضاء الروح بوحاً نابعا من جوارح تعلُّقٍ وهُيام مستور. ثم أردفت في الرسالة قائلة:
حكم قضاء القدر أن أبقى على هواك يا عزيز ما بقي من عمري. سأنتزع من الوقت المتاح ساعة يوم الأحد، على الثانية والنصف مساء. تذرَّعتُ بذريعة زيارة خالتي، لنلتقي بالقرب من بوابة الكنيسة المحاذية لإعدادية باستور... وهيج حبك في الحشا يستعر. أترقب الصبح من مقلتيك يا حبيبي. وفي الغد بإذن الله نلتقي...
انتعش قلبه كوردة تم ريُّها بعد ذبول ويباس. قضى الليلة كاملة يترقب الموعد بشغف الجوى. كانت الساعات تنقضي في ريثٍ وتبطؤ، كأنها أيام وشهور. استبق عزيز موعد اللقاء بساعة من الزمن. يترصد اطلالتها بلهف. كان طيفها يرفرف في كل مكان، حتى أنه يخال له كل فتاة آتية من بعيد قد تكون هي، خصوصا مع دنو موعد اللقاء...
حان الموعد المحدد ولم تحضر، وكلما مرت الدقائق يزداد معها خفقان القلب، ويشتد التوتر. بقي ينتظر وقتا طويلا يجوب المكان بالطول والعرض كالأبله. وقف يتأمل ما يقتنيه من دكان (jack et jean) القريب من اعدادية باستور، ليكسر محنة الانتظار التي تشبه الوقوف على الجمر المتوهج. الأخوان (جاكيجو ) هما الوحيدان اللذان يبيعان مطاط استبدال مقلاع الصيد ( لاستيك). اقتنى نصف متر وفكر في كومة الحلفاء، وعجلة الهواء الداخلية للدراجات. لإذابتها وصنع لصاق صيد طيور الحسون chardon)) بالقرب من وادي ايسلي. بدأ السكون يحل كالطَّسم الذي غبش على المكان. فعاد الى البيت يجر ذيول الخيبة بخطى وئيدة، والقمر يتبع ظله وفي صدره غصة ولذعه...
كان يوم الأربعاء حين انزوى عزيز بنفسه وحيدا تحت شجره ظليلة بالثانوية، شارد الذهن يفكر في سبب الغياب. تمنى ان يكون مانعه خير. تنتابه سُفعة غضب، يكتوي بنار الأسف والتربذ. قضى ليلته يغفو ويصحو على ملامحها، كأن النور والديجور ينبعان من سحر عينيها الجميلتين.
لم يكن قدوم نجاة هذه المرة فأل يُمن وبِشر، بل ناءت بحمل خبر ثقيل، رسالة مقتضبة أبطَرت ذِرعَه.
السلام عليكم حبيبي وصديقي عزيز وبعد، سبقتني عثرات الذنب والاعتذار، وأنا أخط بأنامل مرتجفة هذا الخطاب بعد تفكير وانتظار. خللتك الأيام والشهور. كنتُ أسقي حدائق روحي من صفاء روحك. أعترف أمام محكمة الحب أني صغَوتُ إليك بودي من زمان. فكنت المحدث الفكه، والمؤنس الصفي الأنيس. أجدد لك أسمى اعتذاري لعدم وفائي بالعهد والوعد.
لازالت سوءة الموعد توبخني يا أثيري... لا تعذلني يا حبيبي "ربَّ لائم مُليمٌ، وربَّ مَلوم لا ذنب له". لا أزف لك الخبر، لقد اغتصبوا قلبي ذلك المساء، حيث صاغت الأقدار أحداثا لم تكن في الحسبان. لقد قدموا قلبي قربان زواج لابن خالتي المتواجد بلوكسمبورغ. أرجوك يا حبيبي لا تنحى علي باللوم. ما عاد لي بالقلب نبض، أصبح ذلك القلب مملوكا للوفاء والصدق.
أخيرا ألتمس منك الصفح إن كسرت إحساسك بهذا الخبر المفاجئ. وألحقت بنفسك الضجر. أنا متأكدة بأن أكثر الناس أوجاعا، هم أصدقهم حبا.
لك من هذا القلب المجروح ألف قبلة...
كن بخير.