ياقوت وغول الحقول
كانَ ياقوتُ فتى مكافحاً يستيقظُ باكراً كلَّ صباحٍ؛ ليذهبَ إلى حقلِهِ حيثُ يعملُ بهمَّةٍ ونشاطٍ ليؤمِّنَ قوتَ أهلِهِ، وبينما كانَ مُنْهَمِكاً في عملِهِ وهو يغنِّي، كعادتِهِ، ليُبعِدَ عنْ نفسِهِ مللَ الوحدةِ، وفتورَ الهمَّةِ وإذْ بحشرةٍ تلسعُهُ. لم تكنْ تلكَ الحشرةُ مما ألِفَهُ؛ فقدْ كانتْ هيئتُها غريبةً، وحجمُهَا أكبرَ ممَّا اعتادَ على رؤيتِهِ. أمَّا لَسْعَتُهَا، فقدْ تقرَّحَ مَوْضِعُها، وطَفِقَ الجلدُ المحيطُ بها يجفُّ رويداً رويداً، ويتساقطُ كذرَّاتِ التُّرابِ. أمَّا ألَمُها فقد كانَ أكبرَ مما اعتادَ على احتمالِهِ، فأخذَ يئنُّ من الألمِ، وأصابَ جسدَهُ الخمولُ والشُّعورُ بالغثيانِ، فأثارَ الرِّيبةَ في نفسِهِ أمرُ الحشرةِ واللَّسعةِ، وما آلَ إليه جسدُهُ، وطفقَ ينظِّفُ أثرَ اللَّسْعَةِ بالماءِ تارةً، ويَمْسَحُهُ بالأعْشَابِ تارةً أخرى، ولكنْ دونَ جدوى..
وبينما كانَ يكابدُ ألَمَهُ الذي لا يُطَاقُ ظهرَ أمامَهُ غولٌ عَظيمُ الجثَّةِ، مَهُوْلُ المنظرِ، لكنَّهُ لم يأبهْ لهُ بادئَ الأمرِ بسببِ انشغالِهِ بآلامِهِ، ولأنَّهُ ظنَّ، حينَها، أنَّ ما رآهُ لم يكنْ سوى تهيُّؤاتٍ راودَتْهُ بسببِ الدُّوارِ الذي ألمَّ به من جرَّاءِ تلكَ اللَّسعةِ الغريبةِ.. بيدَ أنَّ ذلكَ الغولَ ما لبثَ أن خاطبَهُ وهو يشيرُ إلى موضعِ اللَّسعةِ:
أتريدُ شفاءَها؟
طبعاً.
سأُعْلِمُكَ بدواءٍ يعالجُها فتزولُ فوراً وكأنَّها لم تكنْ.
وقبل أن يتفوَّهَ ياقوتُ الذي تهلَّلَ وجهَهُ، وانفرجتْ أساريرُهُ، ببنتِ شفةٍ، عاجلَهُ الغولُ بقولهِ:
إن كتمتَ العلاجَ سنةً فإنَّني سأجعلكَ أغنى رجلٍ في القريةِ؛ تملكُ الأراضي والقصورَ والفلاحينَ والخدمَ، وإنْ لم تفعلْ فستبقى ،كما أنتَ، فلاحاً يكدُّ نهارَهُ ليؤمِّنَ قوتَ عيشهِ، فلم يكنْ أمامَ ياقوتَ إلا أنْ يوافقَ؛ فالألمُ لمْ يعدْ يُحْتَمَلُ، ثمَّ إنَّ الحشرةَ التي خالَهَا فألَ سوءٍ عليه قد تكونُ سببَ سعادتهِ بسببِ ظهورِ ذلكَ الغولِ، فما عليه الآنَ سوى أنْ يكتمَ علمَهُ، وينتظرَ أن تمضيَ السَّنةُ حتَّى يعيشَ حياةَ الهناءِ والرَّخاءِ والحبورِ والسُّرورِ.
ولم يكنْ قد مضى سوى بضعةِ أيامٍ حتَّى سمعَ بمعاناةِ جاره سوار الذَّهبِ مع حشرةٍ غريبةٍ، ومع إشراقةِ كلِّ صباحٍ كانَ عددُ الفلاحينَ الذين تلسعُهم تلكَ الحشرةُ الغريبةُ يزدادُ شيئاً فشيئاً، وكلَّما حاولَ ياقوتُ أنْ يُفصحَ عن الوصفةِ السِّريَّةِ التي لقَّنهُ الغولُ إيَّاها تذكَّرَ الخسارةَ التي ستحيقُ بهِ فيما لو فعلَ ذلكَ قبلَ انقضاءِ المهلةِ المحدَّدةِ، فيرجعُ القهقرى عمَّا تخالجُه به نفسُهُ، فيلتزمُ الصَّمْتَ.
كانتْ معاناةُ الفلاحينَ تزدادُ يوماً إثرَ يومٍ، فكلَّما رجعَ من الحقلِ سمعَ أنينَهم منْ وراءِ الأبوابِ، فيغضُّ الطَّرفَ وهو يحصي الأيامَ ليكتملَ عقدُ السَّنةِ، فينالَ الثَّروةَ الموعودةَ والسَّعادةَ الغامرةَ التي سيمضي بها بقيَّةَ عمرِهِ دونَ الحاجةِ إلى الاستيقاظِ باكراً لكفاحِهِ اليوميِّ في الحقلِ يجرُّ المحراثَ، ويبذرُ الأرضَ، ثمّ يسقيها، ليجنيَ محصولاً يعتاشُ عليه وأسرته عيشةَ الكفافِ، لكنَّ صمتَهُ لم يكنْ هيِّناً على نفسِهِ؛ فأنَّاتُ أبناءِ قريتِهِ كانتْ سكاكينَ تقطع قلبه نهاراً وتتحوَّل إلى "جاثومٍ" يَقُضُّ مَضْجَعَهُ، ويؤرِّقُ روحَهُ ليلاً..
لذا فقدْ هبَّ من قيلولتِهِ في أحدِ الأيامِ كالملسوعِ، مُزِيحاً الجاثومَ عن صدرِهِ، ومضى إلى بيوتِ أقربائِهِ، وأصدقائِهِ، وأبناءِ قريتِهِ من الفلاحينَ وهو يخاطبُ نفسَهُ مذعوراً:
لستَ أنانياً يا ياقوتُ.. لن أبنيَ سعادتي على تعاسةِ الآخرينَ.. لن أجمعَ ثروةً من آلامِ النَّاسِ.
وطفقَ الفتى يعالجُ المصابينَ واحداً تلوَ الآخرَ ، ولمْ يَعُدِ الجَاثومُ يخنُقُ أنفاسَهُ ليلاً، لكنَّ الغولَ ظهرَ لهُ مَرَّةً أخيرةً مؤنِّباً إيَّاهُ على الثَّروةِ التي تنازلَ عنها، والسَّعادةِ التي تسرَّبتْ من بينِ يديِهِ، فأخبرَهُ ياقوتُ بأنَّ السعادةَ الحقيقيَّةَ هي محبَّةُ النَّاسِ واحترامُهم لهُ، ولقدْ نالَها حينَ شاهدَ آلامَ الناسِ تزولُ، ولَهَجَتْ ألسِنَتُهمْ بالدُّعاءِ لهُ؛ وحازَ الثَّروةَ حينَ اكتسبَ العلمَ الذي سخَّرَهُ اللهُ لهُ لعلاجِ الناسِ؛ فالعلمُ وُجِدَ لكي ننتفعَ بهِ وننفعُ النَّاسَ. أمَّا الثَّروةُ التي تقومُ على آلامِ النَّاسِ، فإنَّها تُورِثُ الشَّقاءَ والتَّعاسةَ، لا الهناءَ والسَّعادةَ.
= انتهت =