يوم بائـس
ينهض من نومه كعادته، في تمام السادسة أو قبلها بقليل، يرفع الغطاء عن جسده المتثاقل إلى الفراش، يفكر لحظة ثم يهب مسرعا إلى إبريق الماء، يتوضأ ثم يصلي الفجر، وبينما هو في مكانه يفكر في أشياء كثيرة، يتفقد في دفاتر التحضير ، إنه يوم السبت أول الأسبوع، يراجع ما كتبه في اليوم السابق، يستعد لأداء رسالته المقدسة، سوف يذهب اليوم إلى مدرسة الشيوخ الثانوية، أنها بعيدة، ليس هذا فحسب، فالطريق ترصعها الحواجز والتلال الترابية التي وضعها جيش الاحتلال الإسرائيلي ...، وبسرعة ألقى نظرة خارج المنزل المتواضع، وقال في نفسه: السماء تمطر، والجو بارد، لا بد إذن من لباس ما يقيني هذا البرد، فالصحة هي النعمة الكبرى...
ولبس ما تيسر من ثياب، فالمعطف قديم نوعا ما، لكن لا بأس من ارتدائه في مثل هذا الوقت وعمد إلى الحذاء حمله وحدق به قليلا؟، وضع يده اليسرى داخله قام بتنظيفه، بل مسحه وخلع عن جنباته الطين من يوم أمس. قال محدثا الحذاء: أنا معلم ولا بد من ظهور مقبول أمام التلاميذ، وما عليك إلا أن تحتمل إزعاجي في كل صباح، يجب أن ألبسك نظيفا حتى يتناسب هذا الأمر مع وظيفتي، هيا إجلس على الأرض حتى تعانق قدمي.
حمل المعلم كتبه ودفاتر التحضير، ألقى نظرة أخيرة على نفسه، هناك في المرآة المتواضعة المعلقة على أحد جدران البيت، وخرج يحني رأسه يقصد حمايته من الأمطار المتساقطة ومشى في طريق ليس بالقصير للوصول إلى موقف السيارات لركوب إحداها، حضن ما بيده تحت إبطه تحت معطفه، خوفا عليها من البلل.
سمع المعلم صوت سيارة قادمة، نظر إلى الضباب في خلله، شاهد نورا يخترق الضباب ويقترب منه، وقف إلى جانب الطريق أشار بيده، فتوقفت السيارة بمحاذاته، وبسرعة تلقف الباب فتحه وصعد إليها قائلا: السلام عليكم، صباح الخير.
فرد السائق عليه: صباح الخير يا أستاذ مروان، إلى أين أنت ذاهب هذا اليوم؟
ـ إلى الشيوخ.. ماذا نعمل ؟ هذه هي الحياة.
ـ الحمد لله حيث تجد وظيفة ترتزق منها، فالوضع صعب، وغيرك لا يجد عملا.
ـ نحن نقول : الحمد لله، ولكن حتى الوظيفة لها مشاغلها ومشاكلها.
ـ بالأمس منع الاحتلال التجول في مدينة الخليل.
ـ ومتى كان ذلك؟
ـ الساعة الثالثة عصرا.
ـ لم أسمع بهذا، حتى أنني اليوم لم أتابع الأخبار، ولا أعرف هل توجد طريق إلى (بيت عينون ).
ـ والله، أنا هذه أول جولة لي ولا أعرف الوضع،، ولكن في اعتقادي هناك سيارات يمكنها أن تنقلك إلى حيث تريد.
ـ إذا كان هذا فلا بأس .... لا حول ولا قوة إلا بالله.
وأطرق المعلم مفكرا في وضعه، هل يستطيع الوصول إلى مدرسته، وقلب دفتر التحضير ففتحه، وإذا به ينظر إلى عنوان الدرس، أنها قصيدة (وطن النجوم) لإيليا أبو ماضي، إنها قصيدة جميلة وتعبر عن جمال الوطن وحب الشاعر له، سوف استمتع والطلبة في شرحها وقراءتها، وبدأ يدندن البيت الأول منها:
وطن النجوم أنا هنا حدق أتذكر من أنا
وبعد هنيهة قطع صمته المتحدث، صوت السائق قائلا: تفضل يا أستاذ.
ترجل المعلم من السيارة، ومشى قاصدا سيارة أخرى متجهة إلى (بيت عينون) ومن ثم إلى الشيوخ نظر يمينه ويساره ولم يجد أحدا من الناس إلا القليل، وفجأة سمع جلبة في المكان، أعاد نظره وإذا بجيش الاحتلال يصرخ : ( ممنوع التجول،ممنوع التجول....) وإذا بجب عسكري يطلق غازا مسيلا للدموع، وأعيرة مطاطية لتفريق العدد القليل من الناس، أو ربما قطع الحركة عن منطقة المنارة). هرب الحضور والمعلم معهم، فنظر فإذا بسائق يلوح بيده قائلا: (بيت عينون.... بيت عينون) فأشار المعلم بيده وأسرع إلى السيارة وصعد فيها على عجل، ألقى السلام، ملابسه مبتلة، وتنهد تنهيدة عميقة قائلا: استغفر الله العظيم.
ومضت السيارة متجهة إلى بيت عينون، لم تكن ممتلئة كما الأيام العادية، لأن السائقين لا يقنعون بها إلا مليئة بالركاب مع وجود رغبة ملحة في الزيادة، يجلس المعلم في الكرسي الأمامي بجانب السائق، وهناك في الخلف فتاتان، إنهما معلمتان أيضا، ينظر كل واحد إلى ساعته إنها السابعة والنصف صباحا، والطريق ما زالت طويلة، رغبة في الوصول مبكرا إلى المدرسة تنازل كل واحد منهم، ولكن المفاجأة هي اعتراض السيارة حاجز ترابي من صنع جيش الاحتلال الإسرائيلي، توقف السائق قائلا، تفضلوا بالنزول من السيارة ، فهذا آخر موقف لنا.
إحداهما قالت: ولكن الطريق طويل، ولا علم لنا بهذا!.
ـ وماذا تقصدين يا أختي.
ـ ألا توجد طريق بديلة.
ـ والله لا يوجد غيرها.
وما كان من الثلاثة إلا أن غادروا السيارة ومشوا باتجاه التراب الذي يبلغ ارتفاعه متران ونصف مع وجود بعض الخسف في جنباته، وصعدت الفتاتان تمسك إحداهما الأخرى وترفع بيدها أطراف ثوبها بعيدا عن الطين، وهم المعلم، وصعد خلفهما وساروا بمحاذاة بعضهم ينظرون إلى الحاجز الآخر، إنه قريب من الأول ولكنه بحاجة إلى اجتياز وتخطي. وفجأة سمع صوت يقول : توقف.. توقف.
تلفت الجميع فقال المعلم: جيش إنه حرس الحدود.
ـ وماذا يريدون منا؟
ـ سوف نسألهم الآن ... هيا بنا.
ـ تحرك بسرعة يا حمار (قال الجنود وهم يسددون بنادقهم باتجاه المعلم والفتاتين).
إنهم خمسه وهناك سادس يجلس في سيارة الجيب، وساروا وراء المساكين بعد أن دفعوهم أمامهم وأفواه البنادق في ظهورهم إلى أن وصلوا الجيب.
حاول المعلم النظر خلفه، وما أن التفت برأسه حتى سارع الجنود بالضرب بالبنادق في ظهره وعلى ذراعيه، حاول المقاومة ولكن دون جدوى، فالصقوا وجهه بالسيارة يمسكون يده خلف ظهره يقيدونها.
وترجل الضابط من السيارة العسكرية، وقبل أن ينطق بكلمة نطقت يده بصفعه إلى وجه المعلم، ثم قال: ما اسمك يا جبان؟.
ـ لست جباناً.
ـ اخرس يا حيوان!.
ـ لست حيواناً.(بعد أن بصق الدم من فمه).
وأشار إلى زمرته فانهالوا على المعلم ضربا مبرحا، والضابط يشرح بصوته: إنه وقح.
نعم وقح... جبان.
وتوقف الجنود لحظة عن الضرب، وأمروا الفتاتين بالذهاب، رفضتا في البداية ولكنهما مغلوبتان على أمرهما، ولا يمكن لهما أن يفعلا أي شيء، وسارتا إلى المعلم بحرقة وألم وحزن، فقالت إحداهما هكذا هم الشباب ، معرضون للاعتقال والقتل والإهانة.
ـ ولكن هذا المسكين كان يحدق بساعته يريد الوصول إلى المدرسة متشوقا للقاء الطلبة وشرح الحصة.
ـ نعم هو مسكين ولكن... الجيش الإسرائيلي متوحش، يتعامل مع الشعب بالعنجهية والهمجية، وكذلك الفوقية.
ـ انه يتعامل بمنطق القوة.
ـ أتذكر أمة لا تدري عنه شيء.
ـ أعانها الله وأعانه... هيا بنا.
ـ وبعد أن أشبعوا جسده ضربا سأله الضابط: ما اسمك الآن؟.
ـ وبصوت متقطع: لا أعرف.
ـ مشيرا إلى الجنود: فتشوه وهاتوا بطاقته.
ـ مروان ارزيقات، من تفوح أيضا.
وفجأة جاء اتصال هاتفي إلى سيارة الجيب فرد أحد الجنود، فلحقه الضابط وأجاب على الهاتف قائلا: حاضر سيدي.
ثم التفت إلى الجنود: اتركوه ليس المطلوب ، لقد تم القبض عليه، هيا...
وبسرعة صعدوا إلى سيارتهم العسكرية وانطلقوا مسرعين تاركين ورائهم المعلم ملقى على الأرض، بعد أن مرغوه بالطين، فاتسخت ملابسه، وكذلك جسده من أيدي الاحتلال البغيض، وتحامل المعلم على نفسه، وقام على قدميه المرتجفتين تحته، رفع رأسه عاليا ثم ألقاها على صدره، والتجأ إلى الحاجز الترابي من شدة تعبه، بعد أن خارت قوته، نظر إلى نفسه نظرة حزينة متألمة، فبكى قلبه دما وعيونه دموعا متكسرة، ثم حول بصره إلى الأرض المغطاة بالمياه الوسخة الممزوجة بالطين، رأى طرف دفتر التحضير، وكتبه المغمورة بالماء، حنى ظهره والتقط الدفتر وبحث عن الكتب إلى أن وجدها، حملها ثم هزها قليلا لإزاحة الماء عنها ولكنها محاولة فاشلة، فضمها إلى صدره تحت معطفه ومضى.....
هذه القصة منقولة عن كتاب مركز ابداع المعلم في رام الله ـ فلسطين وقد قام الاستاذ حذيفة سعيد جلامنة بتنسيقه وتحريره وتدقيقه .
موقع المركز هو
www.teachercc.org
مشاركة منتدى
23 كانون الأول (ديسمبر) 2004, 01:51
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اشكركم على هذه القصة التي اعجبتني جدا وعندما زرت موقع مركز ابداع المعلم وجته رائعا . ولديهم قصص رائعة ومواضيع مميزة عن التربية المدنية وحقوق الانسان وتجربتهم في هذا المجال اعتقد انهم يشكروا على هذا المجال .
وشكرا لكم ولهم
7 كانون الثاني (يناير) 2007, 17:11, بقلم عدنان رزيقات
اجمل مقالة في الدنيا كلها يا راجل اكتب وكسر الدنيا كلها اخوك عدنان الشاورما