جولة أدبية حول الاستنكاف
من القائل:
ولَلْكَـفُّ عــن شــتم اللئــيم تكرُّمًـاأضرُّ له من شتمه حين يُشْـتَمُ
هو الشاعر المؤمِّل بن أَميل المحاربي- كوفي من مخضرمي شعراء الدولتين الأموية والعباسية (ت. 190 هـ)
وقد سبق هذا البيت قوله:
وكم من لئيمٍ ودّ أني شتمتهوإن كان شتمي فيه صابٌ وعلقم
ياقوت الحموي: معجم الأدباء ج 19، ص 202، وكذلك في حماسة أبي تمام ج2 (شرح التبريزي)، ص 11.
الشاعر يستنكف عن الشتم من منطلق التكرّم والتفضل، فهو يعرف أن اللئيم ينتظر منه أن يقوم بالشتم، حتى لو كان هذا الشتم مرًّا علقمًا، وذلك ليفاخر في مجالسه ويقول: تشاتمت أنا وفلان. لكن قرار الشاعر: لا لن يشتمه وهو يكفّ عنه، ويعرف أن هذا الامتناع هو إهانة له أكثر، كما أنه صون لعرض الشاعر، ولذا يربأ بنفسه عن سبابه، وكأن الشاعر يأخذ بقوله تعالى خذِ العفوَ وأْمُرْ بالعُرف وأَعرِضْ عن الجاهلين- الأعراف، 99.
إذن هو الحِلم الذي ضُرب بأحنف فيه المثل، فقالت العرب: أحلمُ من أحنف.
حُكي عن الأحنف بن قيس أنه قال: ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرَفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضلت عليه. فأخذه الخليل، فنظمه شعرًا، فقال:
سـألزِم نفسـي الصفـحَ عـن كل مذنبوإن كـــثُرت منـــه إلـــيَّ الجـــرائمفمــا النــاسُ إلا واحــدٌ مــن ثلاثــةشــريفٌ ومشــروفٌ ومثــلٌ مقــاومُفأمــا الــذي فــوقي فــأعرف قــدرهوأتْبـــع فيـــه الحــقَّ والحــقُّ لازموأمـــا الـــذي دونــي فــأحلُم دائبــًاأصـــون بــه عـِـرضي وإن لام لائــموأمــا الــذي مثلــي فـإن زلَّ أو هفـاتفضلــتُ إن الفضــل بـالفخر حـاكم
(انظر: الماوردي: كتاب أدب الدنيا والدين، ص 306)
ومن الشعر المستـنكف عن مجاراة الإساءة:
قـل مـا بـدا لك مـن زور ومن كذبحِلمي أصمُّ وأذني غيرُ صمّاءِ
وقال عمر بن علي:
إذا نطـــــق الســــفيه فلا تجبــــهفخـير مـــن إجابتـــه السـكوتُســـكتُّ عــن الســفيه فظــن أنــيعيِيـت عـن الجواب وما عَيِيــتُولكني اكتسيت بثوب حِلموجُنِّـبْتُ السفاهةَ ما حييتفإن كلّمته فرّجت عنهوإن خلّيته كمدًا يموت
قيل لضرار بن القَعقاع: والله لو قلت واحدة لسمعت عشرًا.
فأجاب ضرار من يهدده بالشتائم:
والله لو قلت عشرًا لم تسمع واحدة.
فما أعجب حلمه!
حد الحلم أنه ضبط النفس عن هيجان الغضب، وقد قال الحكماء:
ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الجواد إلا في العسرة، والشجاع إلا في الحرب، والحليم إلا في الغضب.
قال الشاعر في ذلك:
ليســت الأحــلام فــي حــال الـرضى *** إنمـــا الأحــلام فــي حــال الغضــب
وفي هذا المعنى أنشد النابغة الجعدي بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولا خــيرَ فــي حِـلم إذا لـم يكـن لـهبـــوادرُ تحـــمي صفــوَه أن يُكَـَّـدراولا خــير فــي جـهل إذا لـم يكـن لـهحـــليمٌ إذا مـــا أورد الأمــر أصــدرافلم ينكر الرسول عليه ذلك.
سأختم موضوع الاستنكاف بما قاله الشافعي:
يخاطبني السفيه بكل قبحٍفأكره أن أكون له مجيبايزيد سفاهةً فأزيد حِلمًاكعود زاده الاحراق طيبا
ويقول شاعر آخر:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّنيمضيت ثمت قلت لا يعنيني
إلى هذا الحد؟!
بعد كتابتي هذه المادة قرأت للصديق الشاعر عبد السلام موسى- دير الأسد ما هو في المعنى، وكأنه يقول: ها نحن خير خلف لخير سلف:
ولكنَّ حِلْمَ المَرءِ زَيْنُ لِباسِهِإِذا شانَ أَخلاقَ اللِّئامِ المَعاوِزُوكم عائِبٍ قد جُزْتُهُ مُتَغافِلًاوقد صَرَّحَت في العِرْضِ منهُ المَغامِزُوما حَدَبًا أَوْلَيْتُهُ الصَّفْحَ مُعْرِضًاولكنْ أَبَت لي النَّفسُ أَنّي أُناجِزُ
موازنة بين الحزن والغضب:
قرأت في كتاب الماوردي الذي أشرت إليه أعلاه موازنة بين الحزن والغضب أحببت أن أثبتها:
الغضب هجوم ما تكرهه النفس ممن دونها، وسبب الحزن هجوم ما تكرهه النفس ممن فوقها.
والغضب يتحرك من داخل الجسد إلى خارجه، والحزن يتحرك من خارج الجسد إلى داخله. فلذلك قتل الحزن ولم يقتل الغضب لبروز الغضب وكمون الحزن. وصار الحادث عن الغضب السطوة والانتقام لبروزه، والحادث عن الحزن المرض والأسقام لكمونه. ولذلك أفضى الحزن إلى الموت، ولم يفض إليه الغضب.
فهذا فرق ما بين الحزن والغضب.