آثار ليبية على الأرض الباريسية!
حينما دخلت قوات الملكين المتحدين لتوهما: "فرناندو" وزوجته "إيزابيلا" صباح 2/1/1492م آخر الدول العربية "الأوروبية": "مملكة غرناطة" كانت بنود "معاهدة الإستسلام" تنص على حماية مقدسات المسلمين وحرية ممارستهم لشعائرهم الدينية تحت حكمهم المسيحي الجديد مقابل تسليمهم المدينة، ربما أسوة بذات الحرية التي كانوا يوفرونها لليهود والمسيحيين حينما كانوا حكامها، لكن احترام هذه المعاهدة استمر 7 سنين فقط لتبدأ بعدها مهمة تنصير المسلمين رغبة أو رهبة! و الرد كان ثورة، فوصل مجلس الدولة في الحكومة الإسبانية إلى نتيجة ملخصها أن: "صار المسلمون خطراً على الدين والدولة، بل تبيَّن أنه جرت إتصالات بينهم وبين إخوانهم في المغرب والقسطنطينية، لذا فإما أن يعتنقوا المسيحية أو ينفون خارج إسبانيا"
والنتيجة أن حملة التنصير صارت علنية، إشتهرت باسم مازالت ذكراه تثير الرعب: "محاكم التفتيش" فما كان هناك إلا الفرار بالجلد، جموع كبيرة من الأندلسيين نزحت رعباً أو كرهاً، ولا أرض أقرب لهم من شمال أفريقيا، ولأن حكام وسكان هذه المنطقة رحبوا بهؤلاء النازحين، عرفت المنطقة منذ تلك اللحظة إستيطان آلاف العائلات الأندلسية، حتى مدينة "درنة" في الشرق الليبي، ولما كان الحقد على هؤلاء المسيحيين ناكري العهود قد تأصل في نفوسهم، ولما كانت رغبة الإنتقام تلهب مشاعر شبابهم وهم اللذين كانوا أقوياء ذوي خبرات والآن هم عاطلون فقد تحول الكثير منهم إلى القرصنة البحرية، هدفهم الأوحد النيل من المصالح الإسبانية، بالدرجة الأولى سفنهم التجارية العديدة التي يرونها تمخر مياه المتوسط عائدة بغنائمها الهائلة من العالم الجديد الذي إكتشفته لتوها
بالمقابل لم يكن الإسبان أقل حقداً على هؤلاء المنافسين إقتصادياً ودينياً وعسكرياً، حكام الماضي، وطالما أنهم نجحوا في هزيمتهم في أوروبا، لم لا يكملوا عملهم ويعملوا على هزيمتهم على الأرض التالية - شمال أفريقيا - ربما يتم القضاء على جوارهم المقلق عسكرياً والمنافس إقتصادياً إلى الأبد؟ وبالفعل لم تكد تمر 13 سنة على إنتصارهم الغرناطي حتى نجحوا في احتلال مدينة "المرسى الكبير" المغربية عام 1505م ثم "وهران" الجزائرية سنة 1509م ثم شقيقتها "بجاية" وأخيراً "طرابلس الغرب" سنة 1510م، لقد صار البحر المتوسط منذ هذه اللحظة وحتى أوائل القرن الـ 19 ساحة حرب عصابات بحرية متقطعة بين دول أوروبا المسيحية من جهة والمغاربية من جهة أخرى بقيادة قباطنة أقوى الدول الإسلامية آنذاك: السلطنة العثمانية، سيكون نصراً كبيراً لو سقطت سفينة تنقل أسلحة أو ذخيرة، لكن صار هدف الطرفين من هذه الهجمات فيما بعد بضائع وركاب السفن التجارية، فالبضاعة مكسب مادي سريع، والركاب ورائهم ثراء سريع إذا ما افتداهم أقاربهم، وإلا فهم عمالة مجانية وجواري جميلات!
لعبة المعاهدات: لكن هذه الحرب تغيرت قليلاً منذ القرن الـ 17 حينما بدأت الدول الأوروبية تدرك أهمية إبرام معاهدات سلام مع أعدائها حكام ولايات الجزائر وطرابلس الغرب وتونس، العثمانية إسمياً والمستقلة فعلياً، فمقابل هدايا سنوية ورسوم محددة تدفعها الدول الأوروبية إلى هذه الدول سيسمح لسفنها التجارية بأن تحمل جوازات مرور تؤمن لها رحلة آمنة أمام شواطئ الشمال الأفريقي، ما عُرِف تاريخياً بالجواز البحري التركي الذي يصدر منفصلاً لكل رحلة ممزقاً إلى قسمين بحافة متعرجة، الجزء الأعلى تحتفظ به سلطات الدولة المغاربية ويحتفظ القبطان بالجزء السفلي، وعند الضرورة يمكن التأكد من صحة الجواز بمطابقة الجزأين! ومع أن السلام التام - رغم هذه المعاهدات - لم يحدث يوماً فالثابت هو أن سفن الدولة غير المبرمة لمثل هذه المعاهدات تستباح فوراً
كانت "فرنسا" الرائدة في استغلال هذه الفرصة، إن سنة 1630م تشهد إفتتاح أول القنصليات الأوروبية في العالم الإسلامي: قنصلية فرنسا في "حلب" السورية وقنصلية فرنسا في "طرابلس الغرب"، كان هذا إيذاناً ببدء علاقات سلمية طويلة بين "فرنسا" و"طرابلس الغرب"، تؤمن فيها مرور السفن الفرنسية أمام الشاطئ الطرابلسي مقابل دفع رسوم سنوية حددتها المعاهدة المبرمة بين البلدين، والتي يعد إفتتاح القنصلية أولى ملامح تطبيقها السلمي، لكن الأمر لم يسلم دائماً من الإنتهاكات من كلا الطرفين، وكمثال على ذلك ما جرى أيام ملك فرنسا "لويس الـ 14" (1643-1715م) لقد وقَّع هذا الملك أول معاهدة سلام مع حاكم "طرابلس الغرب"1 آنذاك "حسن عبازة"2 في 25/10/1681م، لكن بالنظر إلى الشكاوي والتظلمات المتعددة التي كانت تصله من انتهاكات البحرية الطرابلسية المتكررة لهذه المعاهدة طوال السنوات التي تلت إبرامها أصدر أوامره في منتصف سنة 1685م إلى "المشير ديستغي" بمعاقبة "طرابلس الغرب"
ليبيون في باريس القرن الـ 18: يوم 19/6/1685م ظهر "المشير ديستغي" أمام ميناء "طرابلس الغرب" مع أسطوله الحربي المكون من 22 سفينة، إقترب قليلاً لكنه توقف على بعد فرسخين من الشاطئ، لقد كان الجو من الرداءة بحيث لم يسمح له بعمل أي شئ سوى الرسو، لكن ثالث يوم هذا الرسو تحسَّن الجو، فأصدر أوامره بالإستعداد للهجوم، في الساعة العاشرة من ليلة 23/6/1685م ومع سكون الليل المطبق أصم آذان الجميع صوت إنفجار مرعب كالرعد، من نظر إلى السماء شاهد بوضوح خطوطاً حمراء ساطعة تضيء ظلمة الليل، لقد فتحت السفن الفرنسية كامل نيرانها صوب المدينة، وبدأ تساقط القنابل العشوائي عليها كالمطر، غير مُفَرِّق بين قلعة أو منزل أو كنيسة أو جامع، لكن كل هذا الجحيم لم يكن سوى البداية، إذ ظل الأسطول يقصف المدينة طوال الليالي الـ 10 التالية كانت نتيجتها أن أجبرت "طرابلس الغرب" على توقيع معاهدة سلم ثانية يوم 29/6/1685م من 3 نقاط:
1. فك سراح جميع الأسرى المسيحيين بغض النظر عن جنسياتهم وجلبهم على سفينته
2. إعادة بضائع وأمتعة رعايا ملك فرنسا أو تعويضها نقداً
3. تسليم 6 رهائن من كابر رجال الدولة الليبية يصطحبهم معه إلى مدينة "تولون" الفرنسية ليبقوا هناك إلى أن يتم تسليم جميع الأسرى العاملون حتى الآن على السفن العسكرية الطرابلسية
في اللحظة التي غادر فيها "المشير ديستغي" مدينة "طرابلس الغرب" يوم 19/7/1685م كان على ظهر سفينته ـ طبقاً لشروط المعاهدة الجديدة - كل من: كبير كُتَّاب "طرابلس الغرب" الأتراك "يوسف الخوجة"، ونائب وزير الخزانة فيها "محمد الخوجة"، و4 ضباط برتبة نقيب، و4 ضباط برتبة ملازم أول كمعاونين، و3 جنود كحرس، حيث أقاموا كلهم في حديقة يملكها الملك "لويس الـ 14" في مدينة "تولون" المطلة على المتوسط
ليبيات قصر فغساي!: بعد نحو سنة من إقامة هؤلاء الطرابلسيين وكدليل على استمرار حسن العلاقات ما بين البلدين أرسل القنصل الفرنسي بطرابلس الغرب "كلود لوميغ" إلى ميناء "تولون" الفرنسي 29 عمود رخامي من آثار مدينة "لبدة" الأثرية الليبية، المدينة الساحلية الواقعة غرب طرابلس الغرب بنحو 120 كلم والتي يعتقد أن مهاجرين فينيقيين أسسوها في القرن السادس قبل الميلاد، وظلت مأهولة حتى وصول الهجرة الهلالية لها 1000 مضت، أعمدة هذه المدينة الهدية نُقِلَت بحراً ثم براً إلى أن وصلت مدينة "فغساي" لِتُزَيِّن "حتى هذه اللحظات" واجهة قصر الملك "لويس الـ 14" الجديد: "قصر فغساي" الذي كان قد إنتقل للإقامة فيه من قصر "اللوفغ" قبل 4 سنوات فقط من وصول أعمدته اللبداوية
لكن في 5/1687م ـ أي قبل شهرين من إتمام الرهائن الطرابلسيين السنتين من الإقامة المريحة في "تولون"ـ أُزيح حاكم طرابلس الغرب "عبدالله الإزميرلي" من الحكم وصار بدلاً عنه "إبراهيم الترزي" حاكمها الجديد، ورغم أنه لم يحكم سوى بضعة أشهر إلا أنه سارع خلال هذه الأشهر بإرسال وفد إلى "باريس" يرأسه إثنان من كبار حاشيته3 يتكون من 7 شخصيات رفيعة و 5 من خدمهم حملوا معهم 6 جياد و نعامتين وبضعة غزلان وحيوانات أخرى كهدايا للملك "لويس الـ 14"، طلبوا منه إطلاق سراح رهائن "تولون" الطرابلسيين، ويبدو أن "لويس الـ 14" كان راضياً جداً على إحترام الطرابلسيين لمعاهدة السلم المعقودة بين البلدين إذ لم يقبل فقط بعودة هؤلاء الرهائن سريعاً إلى بلدهم وإنما أصر على أن ينتقل أعضاء الوفد الطرابلسي براً من مدينة "تولون" على نفقة الدولة الفرنسية إلى مدينة باريس لزيارة أهم معالمها! إن الأماكن الباريسية التي زارها الوفد الطرابلسي تعد اليوم أشهر مواقع باريس السياحية، تستقطب سنوياً ملايين الزوار، ولازالت تعرف بالأسماء ذاتها، إنها:
* قصر فغساي: مقر الملك لويس 14 الجديد بدل "قصر اللوفغ" حيث إنتقل إليه قبل زيارة الوفد الطرابلسي بـأقل من 5 سنوات، زاد من شهرة هذا القصر أنه شهد العديد من الأحداث التاريخية كتوقيع معاهدة إنتهاء الثورة الأمريكية في 1783م وإعلان الإمبراطورية الألمانية في 1871م وإعلان الجمهورية الفرنسية الثالثة في 1875م وتوقيع معاهدة السلام التي أنهت الحرب العالمية الأولى في 1919م، وصار متحفاً منذ سنة 1837م
* قصر اللوفغ: مقر ملوك فرنسا السابق الذي يعد أضخم قصور كل أوروبا حيث إستغرق بناء كافة أجنحته أكثر من 3 قرون، واليوم هو أشهر وأغنى متاحف العالم
* حدائق التويليغي: الحدائق المواجهة لمدخل قصر اللوفغ والتي كانت جزء منه، أعيد تصميمها في 1664 وهي الآن حديقة عامة
* كاتدرائية نوتغدام: أجمل وأشهر كنائس فرنسا، بنيت في الفترة من 1163 إلى 1345 ورممت في الفترة من 1845 إلى 1864، يعد تاريخها نموذجاً مختصراً لتاريخ فرنسا وباريس، وربما أهم الأحداث التي شهدتها هذه الكنيسة هي تتويج نابليون بونابرت كإمبراطور
* منطقة سان دينيس: الضاحية الشمالية الصناعية لباريس التي سميت على دير رهبان فيها هو أحد أغنى وأهم دور رهبان فرنسا، يشتمل على مقبرة لملوك فرنسا وشخصيات فرنسية شهيرة
* مصانع الغوبلان: التي سميت على الأسرة التي أسست مصبغة ملابس في منتصف القرن الـ 15 في ذات المكان، حيث اشتراها سنة 1662م وزير مالية الملك لويس الـ 14 وحوَّلها إلى مصنع لصناعة أثاث الملك وبلاطه، ومنذ سنة 1697م صارت المهمة الرئيسة لهذا المصنع هي حياكة النسيج، المهمة التي لازالت مستمرة حتى الآن، وكان ينتج أفضل الأقمشة المنتجة في فرنسا أيام زيارة الوفد الطرابلسي
* فندق الأنفاليد: أحد أجمل أبنية باريس، بناه الملك "لويس الـ 14" في الفترة من 1676م - أي قبل 11 سنة فقط من زيارة الوفد الطرابلسي - إلى 1671 ليكون مقراً لجنوده المعاقين بسبب إصابات في حروبه المختلفة، ووظف اليوم ليكون متحفاً عسكرياً، لكن كنيسته المقببة تعد إحدى معالم باريس الشهيرة حيث يرقد تحتها منذ سنة 1861م "نابليون بونابرت" ذاته
وليبيِّات كنيسة "سان جغمان"!: في سنة 1711م نجح "أحمد القرمانلي" ذلك الشاب الليبي الطموح ذي الـ 23 عاماً في فرض قراره بالقوة على السلطان العثماني في أن يكون حاكم "باشوية طرابلس الغرب" مقابل دفع ضرائب سنوية منتظمة والحكم بإسمه، وما أن مرت 3 سنوات على ذلك حتى أسرت البحرية الطرابلسية سفينتين فرنسيتين، منتهكة بذلك مرة أخرى معاهدة السلم الطرابلسية الفرنسية، إلا أن "أحمد" لم يرضى بذلك، إذ أنه لم يفرغ بعد من توطيد حكمه الجديد، فلم يفتح صراع جديد أمامه مع دولة هي صديقة قديمة؟
بعد تذمر رسمي من القنصل الفرنسي في طرابلس السيد "إكسبيلي" أوفد "أحمد" في 3/1720م سفيراً عنه إلى باريس لمقابلة الملك الفرنسي الجديد "لويس الـ 15" يعرض عليه إحياء معاهدة السلام المعقودة بين البلدين منذ 90 سنة، ويبدو أن السفير الطرابلسي كان على درجة عالية من الحِكْمَة لأن في رحلة عودته كان بصحبته السيد "دوزو" كسفير فوق العادة من الملك "لويس الـ 15" إلى "أحمد القرمانلي" له مطلق الصلاحيات، وما أن حل صباح يوم 4/7/1720م حتى نجح في إبرام معاهدة سلام جديدة بين البلدين
لتعزيز هذا السلام الجديد وصل ميناء طرابلس الغرب بعد شهرين من هذا التوقيع "الـماركيز4 دو فاغيني" على رأس 3 سفن فرنسية ليستلم هدية طرابلس الغرب إلى ملك فرنسا التي وعد بها "أحمد" يوم توقيعه المعاهدة الجديدة: أعمدة رخامية من آثار مدينة "لبدة" الأثرية المهجورة، فلو صدف أن مررت يوماً من أمام كنيسة "سان جغمان دي بغي" بالحي اللاتيني في باريس عند محطة القطار الأرضي وسألت عنها سيقال لك إنها أقدم كنائس باريس، بدأ في بنائها في القرن 11 وظلت لمدة طويلة كنيسة ملوك فرنسا، أجراسها هي الأجراس القديمة الوحيدة في باريس، لكن لابد وأنك ستفاجأ بشدة حينما يقال لك إن هيكل القداس الحالي لهذه الكنيسة ُبني بهذه الأعمدة اللبداوية هدية طرابلس الغرب إلى ملك فرنسا في 1720!