أخبار بلا صوت
يحتد النقاش، وترتفع الأصوات في جميع أمور الحياة ،عندما يجتمع كبار السن في العمارة، في اجتماع شبه يومي في شقة أحدهم ... وفي ذلك اليوم سار كل شىء كما كان يسير في الماضي ، نفس طريقة النقاش ، نفس اللهجة ، نفس النبرة العالية من الصوت، ولكن وفي لحظة شرود عابرة ... سرق أحدهم نظرة لجهاز التلفزيون وهو يقدم نشرة الأخبار طبعاً بلا صوت حتى لا يغطي صوت المذيع على أصواتهم ..
لقد كانت الصور المرافقة للخبر هي التي بدأت تشد انتباهه، فصمت وتوقف عن متابعة حديثه الذي كان قد بدأه ، ولما كانوا يسمعون وينتظرون بقية الكلام ، انتبهوا لصمته وتابعوا نظراته التى كانت متسمرة بجهاز التلفاز.. يسود الصمت والكل يتابع المناظر، ويراقب الصور التى استمرت بالظهور ، منهم من كان يمتص الدخان من سيجارته، وقد نسي أنه لا يلبس طقم الأسنان ، فيزداد تجويف خده للداخل مع شدة الإنفعال.... ويتمتم أحدهم ( لكم الله يا أهل فلسطين لقد دمرت بيوتكم )... ويرد الآخر( انظر للجندي قاتله الله كيف يسحب الشاب ليدخله في عربة الاعتقال..قطع الله يدك يا بعيد)... ويشرب الشاي.
يرتفع صوت أحد الشيوخ بحدة الثائر(..أريد ملعقة سكر الا يكفي المرارة التي نشعر بها في بكاء هذه المرأة الفلسطينية التي تذكرنا بمرارة عام 48 وقسوة 68.)...وتحشرج صوته ،وبدأت دمعه تتحرك على وجنته وهو ينظر لشوارع البلدة القديمة ، للجدران، للأطفال .. شهق صاحب السيجارة وهو يرى الجنود تنهال بالبنادق ضرباً على شيخ وصل التراب لشعرات لحيته البيضاء، وخلفه صبية صغيرة تبكي لما يفعلوه بجدها الشيخ الكبير ..
سحب نفساً طويلاً وقال ألا يكفي العذاب والمرارة، حتى تجعلونا نتفرج على أخبار الدمار في فلسطين، وتخفون صوت الجهاز، بالله عليك ارفع الصوت قليلاً حتى نسمع ما يحدث في فلسطين ... ويرتفع الصوت شيئاً فشيئاً.... علا صوت المذيع وهو يقول " كانت هذه الصور، هى أثار الدمار والخراب اللذي تركته احداث هذا اليوم في بغداد..."
فتح الجميع أفواههم وصمتوا مشدوهين.وسقطت السيجارة من فم الشيخ المسكين ....