الخميس ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم حسن عبادي

أرض السماء

قرأتُ للروائي الأسير كميل أبو حنيش رواياته: خبر عاجل، بشائر، ووجع بلا قرار، وراق لي أسلوبه ورسالته. وحين استلمت روايته "مريم/مريام" جاءتني مقولة "لعلّ الكتابة عن السجون وجع، لكنّ الصمت عنها أكثر وجعًا، فهو أدب ثائر في وجه من يُصادر الحرِّيّة".

صفّوري يطلّ على صفّوريَّة المدمّرة من حيّ الصفافرة النصراويّ، عادة يورِّثها الجدّ للحفيد. لا تبعد عن مرمى البصر، ولكنّها سُلبَت منه إثر النكبة. صفُّوريّة أجمل مكان في العالم، فردوس مفقود يحلم أبناؤه باستعادته يومًا ما، فمريم تقول: "جمعتُ ما بحوزتي من حليّ ذهبيَّة ووضعتها في كفِّ محمود، وقلت له بحسم: بِعها واشترِ بثمنها بارودة". وبرمشة عين تحوَّل أهلها إلى لاجئين.

عشتُ هذا المشهد السرياليّ حين رافقت إيفا(سميرة) حمد الزعتريَّة بطريقنا خروجًا من الناصرة، فسألتني عن بلدة صفُّوريَّة، فركنتُ السيَّارة لنطلّ عليها، وتساءلتُ في أذنيْها: "ما هو الأصعب، أن تنظر إليها صباح مساء وحُرمتَ منها، أم أن تكون لاجئًا في الشتات، وكلاكما تحلم بالعودة إليها؟".

خيبة أمل اللاجئين من مهزلة أوسلو والمفاوضات العبثيَّة أدَّت بمريم أن تقول: "اليوم فقط، أُدرك أنِّي لن أعود إطلاقًا إلى صفُّوريَّة، لقد تهاوى الحلم الكبير". يعود الألم إلى الماضي كفردوس مفقود، حتى وإن كان جحيمًا.

الحنين يخنق الروح؛ فلا شيء يُشبع الحنين إذا استبدَّ بنا ونحن في الغربة! والغريب يروِّح عن نفسه بقصِّ قصَّته وروايته، وكثيرًا ما نحتاج أن نروي إلى شخصٍ غريبٍ حكايتنا حتى نفهمها.

فخلال السرد، نكتشف الكثير من بواطن الغموض الذي كنَّا لا نفهمه قبل ذلك؛ ففيه تفريغ الذاكرة من شحنة مُرعبة من الصور والأحداث والتداعيات، وعلاج للتنفيس عن الكتمان والاحتقان. فأن تتذكَّر كلّ شيء مع التفاصيل الدقيقة شيء سيِّء للقلب، لكنّه جيِّد للروح. تقصّ الحكاية دون أن تنسى حرفًا واحدًا، وكأنّها مطبوعة كشريط مسجَّل تُعاود سردها في كلِّ مرَّة من جديد بلا كلل أو ملل.

أهلنا الباقون ضاعوا في صحراء التيه. عاشوا صراع الهويَّة وقضيَّة المواطنة والوطنيَّة، ومحاولة الأسرلة التي فشلت وبقيت وهمًا وسرابًا؛ فالكبار يموتون، ولكنّ الكبار جُرحوا، والصغار هم الجروح. وتمّ الحسم أنّنا فلسطينيُّون أبناء هذا البلد. بقينا نحمل الجمرة كي لا تضيع البلد، ولا يعيبنا أن نُجبَر على حمل الهويَّة الإسرائيليِّة المفروضة علينا فرضًا. هويَّتنا عربيَّة فلسطينيَّة، وننتمي إلى هذا المكان بتاريخه وثقافتِه وحضارته. نحن الباقون هنا فلسطينيُّون حتّى النخاع، أنقياء، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى!

نعم، إنَّ هذا العالم المتخيّل سيبدأ من هنا في فلسطين حينما نواجه العدوّ ونهزمه، فنكون ملهِمين لغيرنا. نحن أمناء على قضيَّتنا. وإن استطعنا في يوم أن نقهر عدوَّنا، فسيبزغ تاريخ جديد. وُلِدنا لنُحبّ ونعشق الحياة، ولكنْ لا تمازج لدماء الجلَّادين مع دماء الضحايا.

إنَّها رواية الحجارة كشاهدٍ على نكبة مستمرَّة لشعبٍ عليه أن يُثبت للعالم أنَّ فلسطين بلده التي هُجِّر منها ودُمِّرَت ولا وطن له سواها. المسألة ليست مجرَّد بيت. فالبيت هو مكان وزمان وذاكرة، ذاكرة بيت دمّروه. هو المكان والزمان والأهل والجيران والأقارب والذكريات. البيت هو ذاك الذي يسكننا منذ النكبة.

الابن الذي رَسَمتْه تمام الأكحل في لوحة "إرث الشهيد" يحمل جثَّة الشهيد العارية ما دامت خارج الوطن، إلى أن تُوارى في ترابه، وهي رمزيَّة الإرث. إنَّها وصيَّة الأب الشهيد لابنه: أن يبقى حاملًا ذكراه ولا ينسى الوطن، والجثمان لن يستريح إلّا حين يحضنه ترابُ الوطن،. ردَّني إلى بلادي: هذه هي صرخة الشهيد لابنه، لن يستر جسدي إلَّا تراب الوطن! وكما قال غابرييل غارسيا ماركيز في روايته "مائة عام من العزلة" فإنَّ "المرء لا ينتمي إلى أيَّ مكان ما لم يكن له فيه ميِّت تحت التراب"، ليكون له قبر وشواهد.

المنافي البعيدة ومخيَّمات الشتات مليئة بمن تَرَكُوا روحهم وديعةً على أرض الوطن، يعدُّون الأيَّام والسنين، ويعيشون هاجس العودة - عودةِ الروح الى الجسد. حنينٌ صاخب بالعودة إلى أسمائهم الأولى، يستيقظ الطفل فيهم وتسرقه أحلامُ اليقظة بعيدًا إلى مواكب السفن العائدة، لترسو على شواطئ يافا وحيفا محمَّلة بأفواج العائدين، يلاحقهم كابوسٌ مزمن:

الخوف أن يغادروا هذه الدنيا قبل تحقيق العودة... كلٌّ إلى "صفُّوريَّته".

إنَّها الأمل الذي يُحرِّك المشاعر ويُثير الشجون ويخفِّف من مرارة الغربة. إنَّها زيت المصباح الذي يُنير الطريق نحو الوطن. إنَّها الأمنية الحزينة التي يردِّدها أهلنا في المنافي والشتات:

"تصبحون على عودة"، و"بالعودة". حين سمعت الجدَّة مريم: "يا حجّة، عقبال العودة لصفُّوريَّة"، أجابت بلهفة واحتضان وقُبلة: "هذه أجمل أمنية أسمعها في حياتي، لم يقُلها لي أحد منذ سنوات بعيدة".

نعم، لم ولن نرضَ القبول بعودةٍ فرديَّة على شكلِ مِنَّةٍ من أحد. ولكلّ صفُّوريٍّ قبر ينتظره ليُدفَن في تراب الوطن... في صفُّوريَّة.

صفّوريَّة المشتهاة ما زالت تنتظر.

(مقدمة رواية "مريم/مريام "- للأسير كميل أبو حنيش الصادرة عن دار الآداب سنة 2019 وشاركت حفل إشهارها يوم الجمعة 27 أيلول 2019 بمعرض عمان الدولي للكتاب)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى