أكره سندريلا
المقعد الإسمنتي بارد، يتحدى اليوم الشتوي ذا النكهة الصيفية. التمرد قد ينتقل أيضا إلى روح الطبيعة. البرودة الحادة تنفذ إلى عظامها وهي لا تتزحزح، ترابط على مقعد اللحظة المنفلتة، تقطر ذرات فرحها التي تناثرت في الأفق المعوسج.
كانت جميلة، كما تكون النساء في السادسة عشر، بل إنها فاتنة كما تكون فتنة الثامنة عشر،حتى بعد العشرين وفي الثلاثين مازالت بالفتنة المشعشعة ذاتها مع بعض الألق الداخلي الذي يفضح النضج، فما الذي يعيق شفتيها المكورتين الصغيرتين عن الابتسام؟
وكان هو يقاوم الخوف والقهر متحصنا بأذيال جمالها الأخاذ، قد يكون الجمال بلسما،كأن يتهيأ لدى عماد مثلا دثارا ضد النقص، ضد الغرور، وضد الهزائم المكورة عند عتبات البيوت، هزائم الصباحات البائسة في المكاتب وفي قاعات الدرس المضغوطة بالأرواح الهائمة تبحث عن النظائر.الديك أيضا ينتابه مثل هذا الشعور المخدر فينفش ريشه الزاهي. يحتمي من الخوف بموسيقى صوتها المترقرق، برفرفة ابتسامتها، بعطر أنفاس شبابها. وهاهي تغلف أيامه اليابسة بلون وردي، تؤجل كهولته، تقاوم بيديها الطريتين طيورالنحس التي تتربص بأيامه وتهئ سريرا دافئا وقهوة معطرة بالحنين . باختصار كان جمالها عقارا مضادا للشيخوخة التي وضعت بكل حذر توقيعا لطيفا على فوديه، توقيع هو من الرقة واللطف لا يكاد يرى. لهذا وتماشيا مع الوضع، راح يناديها ضاغطا على كل الحروف ــ كعهد من يعرف أسرار الصنعة ــ سندريلا.
اسمها ليلى ، اسم له موسيقى وأذيال طرزتها الحكايات، اسم له أجراس وتاريخ مدوزن بالشعر والعشق والأصداء البعيدة والأنات الخافتة ، اسم يلتحف غلالة الليل، ورجع نايات في الصحراء، ونشيج طيور و إهماء مطر صيفي. له ماء صاف وجنات أندلسية وحدائق وأغاريد . أحقا كنت كل هذا ؟ تسأل نفسها ذات مغيب.
تجلس في الحديقة العامة لا مبالية بعد أن طلبت استراحة يومين ، منحها الطبيب عطلة مرضية، وهاهي النظارات السوداء تتكفل بالمهمة وتشرف على بقية التفاصيل. هاربة من العيون، من العالم الموبوء بالغبار والمرض والعاهات. وفي جدران القلب المتصدع أوشام ونقوش ورمال منسربة ومعزوفات ريح خريفية. إلى جانبها ترقد الحقيبة اليدوية الحمراء كانت هديته في زمن التوهج . رمقتها بطرف عينها، كان يفترض أن تكون سوداء، نعم هذا صحيح . تقول في نفسها تبدو الدنيا بخير؟ نعم . ولكنها ليست بخير، المقعد الإسمنتي يحملها بعد إذ أبت سيقانها مواصلة المسير من أجل تغيير عجلة النجدة ،يحدث هذا أحيانا في منتصف الطريق وربما في بداية الرحلة ، الأسوأ عندما يحدث في النهاية ويسدل الستار وتتوهج الأضواء.
هي ليست على ما يرام، الحقيبة الحمراء تصرخ بالإعلان،كان يفترض بها أن تتجلل بالسواد. حسنا لم السواد؟ فليست حزينة ولا تتوشح ألوان الحداد، فقط هي غاضبة من سندريلا، سندريلا هي من نثرت الرماد الذي ملأ حلقها. وحلت ضفائرها الطويلة فتساقط شعرها كوريقات الخريف الذاوية .
عندما دقت الساعة منتصف الليل ــ ساعة الأخطار والمهام الكبرى ــ انقشعت الكذبة ، تناثر ثوبها الأميري أشلاء و ذرات رماد وفي تلك اللحظة الحاسمة أشاح الأمير بوجهه رأى ظلالا قاتمة تحت عينيها . قال لها : أنا ذاهب . في تلك اللحظة الحاسمة كان عليها أن تقول: لا، وبصوت قاطع كأجراس الإنذار. كان عليها أن تقد قميصه من قبل هذه المرة ، ليتوقف لأن المكبح كان في يدها فلم أفلتته ؟
اليوم وفي الحديقة العامة والعالم يغفي خلف ظهرها ، عرفت سر "لا " ومعدنها الأصيل، إذن هي التي تصنع المصائر، وتمنح الرجل طاقة جنونية من أجل مطاردة عطرها ومنع دقات ساعة منتصف الليل اللعينة ، ولم لا اقتفاء أثر قدميها الحافيتين، أهذا كثير عليها ؟ أهذا كثير على جمالها وشبابها ؟ أخ من ينظر اليوم لأزهار الجبل ؟
الآن هاهي تراه يذوب في الفراغ ، وعيناه خامدتان، موقنة أن الرجال مثل الدنيا ينقادون للحمقى أكثر. لو أنها قالت "لا " فحسب، لتوهج الكون ولاح وميض باهر حملها على جناح غيمة وطوح بها بعيدا في أرض عشتار . ولكنها في ذلك الصيف القاسي حركت رأسها نحو الأسفل: أي نعم . حركت رأسها نحو الأسفل فتوارى أميرها ، أمير الثلوج .
ترمقني الآن من علياء شرفات قلبك المترع ، أعرف أن الركح لم يعد لي ثمة فراشات كثيرة تدنو من الضوء، لتعلو كومة رمادك، رماد سجائرك اللعينة التي تماهي رائحة الرجولة المفتعلة. وليكن فهناك جولات كثيرة قادمة. حركت رأسها بعزم ومت شفتيها وقامت من مكانها.
ملاحظة للكاتبة
نرجو دوما أن تكتبي علامات الترقيم من نقطة وفاصلة وغير ذلك ملاصقا للكلمة التي تسبقها