الاثنين ٢٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم فرج الغضاب

ألق من سني العمر

مشروع قراءة في شعريّة وجع الذّات والنّوى من خلال قصيد: "الأوساع والأسّ " من ديوان "في رجل رجل وامرأة أنثى" لمحمّد مرزوق شوشان.

بدء:

قدرهم أن يجحدوا، قدرهم النّسيان... لكن قدرهم الخلود من كانوا ضمير الأرض والحقّ. متأخّرا عن دار نشر مجهولة غير سميّة ولد في ربوع البلاد خضراء ديوان من الشّعر ابنا يمينا يحمل أوجاعها وينحت بالكلم ملحمة كاد الجهد يعجز عن إنشائها في الأرض فجنح لما يشبه الحلم، حلم الشّعر وما هو بشعر. بل ألق سنيّ من بين حجب الذّات يأتلق بِشْرًا محضا وصكّ غفران.

يروعك إذ يحدّث في إحدى وعشرين مقطوعة حديث الشّعر، ينقل نفاثة الرّوح أو ما بقي منها في زمن هشّ مرعب ديدنه النّكران ولا تأسّ. وينشد آخر تراتيله مزامير تكاد أن تكون سليمانيّة تقطر راحا مصفّى شعشعانيّة كأنّها السّلسبيل تهب الحياة الخلد ولا تني تقطف من رحيق الذّات الجواد شهدها. فهل يكون غفران أو اعتراف؟ أم هل يستقيم الوجود بعد العوج بالحرف وقد انثلم السّندان؟

بعض قراءة وتقديم:
الصّوت الكَلِيمُ في النّصّ، هو الذّات السّنديان الواهبة إذن، تخطّ في أرض الشّعر أتلاما لها الخلد قبل الرّحيل ينشأ ويكاد. وتكون أنشودة ومحاكمة فنجوى وآخر الإشارات لطريق غايته الخلاص. خلاص الشّعراء... بناء من الرّمز يرصّ الشّاعر المعلّم لبناته واحدة واحدة منتقاة منحوتة من مرمر سني العمر الذّاوي، من صلب لغة معتّقة مصفّاة حمّالة العشق في عصر البهتان. هي نفاثة ممّا بقي من الجسد المنهك تطفو قبل الرّحيل. وإذا الذّات تلقي للشّمس نجواها فخبرها الفاجع:
"

صباح الخير يا شمسي
أنا يحيى
أبيت اللّيالي أقطع من جلدي
أحذية يخالسنيها سماسرة الحفا
ليبكّر الغرباء إلى عسفي"

وإذا الخبر بعد العشق وترجيع النّجوى ملحمة وأناويّة الشّعراء:

"

صباح الخير يا شمسي
أنا يحيى
وها خبري:
ألفيتني أحيا حيثما اتّسعت ببصيرتي باصرتي
وتعالى العالم يسعى إلى حسّي

"

فالذّات المتكلّمة في ثنايا هذه التّقاطيع المضمّخة وزنا غنائيّا سعيدا أصله الأسى منه يقطر فيكابر، تعلن وجودها فتذكّر إذ تنتسب "أنا يحيى" على غير نهج في الانتساب معهود؛ بعد التّخصيص بياء النّسبة: "شمسي".

"أنا يحيى"، عبارة بريئة تعلن الوجود في الظّاهر، وباطنها الألم والنّقمة أمّا غايتها فافتكاك الوجود، والإشارة لموطن الخيانة أيّا كان نوعها. إذ ليس أقسى على الذّات من أن تُسْلَبَ وجودها. وليس أقسى على من سُلِبَ الوجود من جحود المحبّ. ولكأنّه بيت طرفة من أنقاض صدى الجاهليّة الجهلاء يرجّع الحكمة المنسيّة:
"وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهنّد"

ففي الخطاب إذن تذكير، وإعلان وجود، فتملّك. وفي الخطاب تنبيه لأسباب النّكران. فشمس المتكلّم ما أنكرته أو عميت عنه إلاّ لأنّه صادق يفني العمر فلا يحيا لغير الآخر يسلبه شهد الحياة إذ في سبيله يسعى. ذات تفني العمر كدّا فيكون الجزاء كيدا. أن تقطع من لحمك لإكساء الحفاة، وما القاطع الصّانع للأحذية إلاّ معلّم معلّم في عصر الأساتيذ: (تهجينا بالمعنيين التّأصيليين المتعامى عنهما: المعنى المعجميّ في اللّغة الفارسيّة، والمعنى الإحاليّ في هجائيات المتنبّي كافور. وكم كافور في بيتنا الواهي.) معلّم قطع عمره أغلبه للأجيال يشيّدها تشييدا: "وأبواب منفاي عجوز يذري على الأبواب شيبته".

وما المقتطع إلاّ روحه ذاتها يقدّمها نسغا عسى منه أو فيه حياة للآخر لابن الشّمس، وقد اقتطع المعلّم رئتيه أغلبهما بعد العقل مهرا قدّمه للأجيال الجحود. وما سماسرة الحفاء، اليرقات المستسبعة في عهد الخيانة والرّدى إلاّ المؤسّسة تحترف المغالطة والشّقوة فتؤسّس للخراب والمنفى:
"

وغانية تتعرّى معرضا للكراء
وطفل يسومه سوق النّخاسة سوم بخس".

وما الغرباء غير الآخر الّذي من أجله الذّات تسلخ من روحها روحا تقدّمها هديّة لمن هم عن الحقّ يعمهون. هي التّجارة الخاسرة إذن، وبئست تجارة هي في هذا الحدّ الأعمى القائم على أبواب الخراب:

"صباح الخير يا شمسي
أنا يحيى وكم يحيى معي
كنّا مواتا ينهب الوكلاء من ليلنا غدنا
ويضحون بلا غد
بين بداية مأتم ونهاية عرس".

هي الفاجعة الرّعب تستقيم في النّظر الواعي، فما تنشد من سلوى غير الجنوح لشمس من الوهم كأنّها الوثن القديم مجدّدا يتجلّى بهتانا وغفلة أو نسيانا. "صباح الخير يا شمسي" لازمة حاملة للفواجع بإطلاق. تتردّد في منتهى القصيد وتتبعك أينما حلّت بك الذّاكرة في تجوالها الأقاصي. وتلتحم بك وشما يوقّع لك الحياة بعد القراءة فيزعجك. بل تكون اللاّزمة شوكا فأغنية تقضّ مضجعك في الصّحو كما في المنام. وليس لك بدّ من التّرنّم بها غصبا. فهي ذاتك المنسيّة وقد هُيِّجت بك تتلاعب. وتكون منها في المدى ترنيمة شرف على وقع مأثرة الشّاعر:
"

صباح الخير يا شمسي
أنا يحيى
لم تطلني من عقبي حملات التّعهير
ولا من عالمي عارة قدسي
لكنّني مغترب في قيس أوساعي على أسّي".

هو الإغتراب إذن، وأحبب به اغترابا لا يساوم وإن أُلْقيت الذّات إلى مشارف النّهايات. إذ فيه التّأسيس الحقّ يُنْتَبَهُ له فيكون المغترب بؤرة الكون والمقصد وتلك أناويّة الشّعراء:

"صباح الخير يا شمسي
أنا يحيى
وها خبري:
ألفيتني أحيا حيثما اتّسعت ببصيرتي باصرتي
وتعالى العالم يسعى إلى حسّي".

ويكون الأمل نبراس الذّات المتعبة الّتي تكشّفت لها النّهايات أو كادت، فتلقي آخر فلذة من رئتها قبل الرّحيل رسالة لمن يريد أن يعي الدّرس يوما. وثقة بالآتي الّذي ينشقّ عن الجحود وجودا خلدا أصيلا:

" صباح الخير يا شمسي
أنا يحيى
لحظة موتي لحظة ميلادي
وطوافي بك ميعادي إلى زادي
أنا لازورد السّماء، وهم نزوة طقس".

هو خلود الفكر وجودا صِرْفًا وسبيلا آن لها أن تُطرق بعد فناء الجسد، جسد المعلّم الّذي علّم كي لا يصير له أحد عبدا. هي النّهج السّقراطيّ أو يكاد ملؤه المحبّة خالص المحبّة والوجود الفيض الأزل:
"

صباح الخير يا شمسي
أنا يحيى
فانظري بين أخلاق التّجّار وأشواق العشّاق
أيّها اليشرق؟
أيّها اليمسي؟".

تتحوّل المناجاة، مناجاة الشّمس الحبيسة في غيوم العالم الجديد؛ هذا العالم المطواع طوعا وكرها. أو ما يبدو أنّه الطّريق القويم تنشده حبيبتنا الولايات المقدّسة القدّيسة، وينشده عتاتنا أهازيج فخر وديدن عصر قادم آن له السّؤدد في المضارب والتّخوم... تتحوّل المناجاة إلى حبسة الشّعراء وعيهيّة الحرف ينحبس إذ لم يعد له من مريد. وتصير الشّمس، شمس الشّعر القاضي الممكن تؤول إليها الأمور يُطلب فيها النّظر.

"فانظري" أيّتها الشّمس نِظرة عادلة في الكائن الرّاهن تتوزّعه سبيلان: أولاهما فيها تطغى " أخلاق التّجّار" وما أكثر تجّارنا وما أخسر تجاراتنا في هذا المدى الأرعن. وثانيتهما شَهْدٌ من " أشواق العشّاق" وما أنزر عشّاقنا في هذا المدى الأعمى تتجاذبه السّفاهات...

ألا " فانظري" أيّتها الشّمس في المصير. أيّهما الأبقى؟ أحلم التّجار أم وهم العشّاق؟... والكلّ في الخروج سواء... وإن قُرِئَ بعض الأمل ختلا... فما الإشراق والإمساء في الأصل إلاّ دَوْرٌ واحد عليه المدى يدور. ألا فاحكمي أيّتها الشّمس النّجيّة في قياس أسّه مغلوط. ولا تثريب فما ذلك إلاّ من قول الشّعراء. شعراء تتآكلهم الهموم، هموم الإنسان في لحظات سقوط الإنسان...

ولكأنّ القول وهو من باب الشّعر المحترز منه أو عليه أو فيه –إذ يرد على غلاف المجموعة تنصيص على الجنس الأدبيّ موضوع بين معقّفين "شعر"- لكأنّه مصداق لرجم بالغيب من متاهات القرن التّاسع عشر يصدح على لسان فريدريك نيتشه مبشّرا بالمستقبل وكلّ أروبا ساعتها تهزج بفورات القرن فيقول في مقدّمة بعض آثاره ما معناه: هي الكارثة تحلّ بالإنسان في القرنين القادمين... قد رأى نيتشه في انتصارات أروبا القاريّة وقيمها الإنسانيّة جدّا الّتي هزجت بها دهرا إعلان كارثة تحلّ بالإنسانيّة في قرنين قادمين. وإنّها لكارثة. وإنّه لمن المخبولين بالشّعر قد كان.

خروج:

"في رجل رجل وامرأة أنثى" صدى الواقع ووقائعه وصور فنّيّة شعريّة على نهج جديد تراود الموسيقى تنشدها علّها يكون منها عماد. عماد قول يستصفي من الكلام أحسنه وأفضله وقعا حتّى يكون منه الأدب الفنّ إذ يعلو بإطلاق. وعماد من القول يكشف هموم الذّات الواعيّة يخلّد مآثرها حتّى تكون منه سيرة ومحاكمات تلتصق بالرّاهن اليوميّ أيّما التصاق.

فالكتاب يتجاذبه حدّان: الإغراق كلّ الإغراق في الفنّ حدّ التّجلّي فالمتعة والإنتشاء من ناحية. والإغراق كلّ الإغراق في المباشر من الوقائع الذّاتيّة الحميمة الّتي تحكم سيرة الفرد المنشئ كما يريدها أن تكون فتخرج على الخلق من ناحية ثانية. وأمّا الثّالث الوسط بينهما فهو متن النّصّ يخرج فريدا بعد كدّ مقصود ليؤسّس إلى نهج من القول جديد. قد يُفتح منه باب على مصراع الشّعر الممكن قد يدور. وقد يفتح منه في الآتي باب على مصراع الوجود. به ينشأ جيل في الكون جديد. فيرتّل تراتيله ترتيلا.

الكتاب جدير بالقراءة القراءة فيها نقد وتمحيص. ولعلّ القول فيه فاتحٌ بابا من الفكر والاختلاف حوله منشود. إذ لا فضل في فنّ لا يحرّك فكرا. ولا فضل في أدب سويّ مستقيم مطواع مُعَوْلَمٍ على نهج الأغيار يكون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى