وآخرون منّا ومنهم
المقدّمة:
قال سلفهم الصّالح: " لا تطير بوم مينرفا إلاّ إذا حلّ الظّلام ". تلك هي حكمتهم القديمة الّتي أسّسوا عليها فكرهم الحضاريّ. إذ ليس أدعى إلى ظهور الفلاسفة، وليس أكثر تطلّبا لفكرهم تُنْشد فيه الحلول من لحظات انهيارات الحضارة أو فترات الأزمات المهدّدة للكيان أيّا كان الكيان. ولعلّ ما يشهده الرّاهن اليوم أدعى إلى إنطاق كلّ مفكّر في هذا الهمّ الحضاريّ الّذي يعبرنا فيمزّق كلّ ما آمنّا به يوما من القيم، ويجهض كلّ مشروع حضاريّ أردنا العمل على تأسيسه. هو الظّلام حلّ بمدينتنا إذن. وآن أن نستعير منهم بعضا من حكمة مينرفا عسى فيها حلّ أو خلاص أو إرادة موت.
في هذا الإطار تتنزّل " ... وآخرون منّا ومنهم" سيرة سرديّة لسالم العيّادي نهاياتها الاستفاقة على الفاجعة والبحث عن السّعادة الضّائعة أو حلم بمشروع ممكن. استفاقة جيل هي على فواجع الحياة في واقع انهارت فيه القيم كلّ القيم دون استثناء، فأشرف الكيان المعاصر على مدارات الخراب المفجعة، يرصد تشكّلاتها ويتقصّاها بنظرة حادّة قوامها إرادة تجويد الفكر وحسن اختيار السّؤال للتّجاوز إمكانا إن استُطيعَ إليه سبيل...
ولعلّ اشتغال الكاتب بحرفة قريبة من الفكر وتاريخه مصدر قوت، ووقوفه عرضا على بعض الدّاء في الكلمة الرّاهنة المفتقرة للأسس الصّلبة والرّؤية الواضحة، جعله يختار الخروج عن النّسق اختيارا أصيلا عاملا على إعادة الفلسفة -بما هي تفكير نقديّ قوامه أن يتضمّن مقدّما الوعي بالمشكلات النّظريّة، ثمّ أن يتبيّن لاحقا الحلول الآنيّة- إلى الحياة، إلى الواقع الحيّ، إلى إطارها الطّبيعيّ الّذي يُفترض أن تتحرّك في فضاءاته. وما محاولة القصّ إلاّ إنزال للفكر المتعالي – في فهمنا القاصر له – من شطحاته المفارقة المقبورة بين جدران المدارس والأكاديميات، إلى حلبة حرّة لا حدود لها، هي وقائع المجتمع ويوميّاته المتجدّدة في كلّ آن. عسى في ذلك بعث لحياة جديدة وتأسيس، أو هي النّهاية ليس من ورائها رجاء.
" ... وآخرون منّا ومنهم" كتابة قصصيّة قصيّة. بل نصّ عصيّ عن الحدّ، هامش ولا متن كما ادّعى صاحبه، سيرة ذاتيّة هو، مزعج، ليس من الهيّن محاورته، أُريد له أن يكون حلاّ يُنتهج للخروج من مآزق اليوم الحضاريّ الّتي فيها نتردّى. لكنّه فيما نرى سؤال مكثّف ولا إجابة ينشد أن تُنجز حوله المتون.
في هذا السّياق الحضاريّ نروم قراءة هذا الأنموذج السّرديّ الوليد اختيارا. إذ لا فائدة من أدب ليس من ورائه فكر. ولا خير في متعة جماليّة إن لم تكن للفكر محرّرة. وعلى ضوء هذا الفهم أحاول مقاربة الأثر في مسائل ثلاث:
أوّلها محاورة وصفيّة موجزة لمتن الكتاب بما هو سيرة سرديّة وإخبار.
وثانيها دراسة بعض الدّلالات بالحفر في الذّاكرة العلاميّة المفترضة.
وثالثها مناقشة بعض الأبعاد الفكريّة فيه.
1 القول في السّيرة.
الكتاب رسالة من مقام تواصليّ طرفاه باثّ ومتقبّل، اختار لها الكاتب أن تتحدّد بجنس من الكتابة السّرديّة الحديثة هو القصّ، يصرّف عبره فنون اللّغة ومن ورائها فنون الفكر. كما حدّدها في التّقديم منها بجنس من الأدب آخر اصطلح على تسميته بالسّيرة الذّاتيّة. بل هي سيرة ذاتيّة جدّا. ولعلّ مبدأ التّنازع هذا بين الجنسين هو ما دعا الكاتب إلى محاولة الخروج عن الحدود النّظريّة لكلّ فنّ منهما، فتصرّف في رسم اللّغة إذ مهر كتابه بهذه العبارة: " كتابة قـ) صـ(صيّة" فأخرج حرف الصّاد الأولى باستعمال قوسين. وهذا الإخراج من الرّسم يؤسّس لمعنيين متضايفين. أوّلهما يلامس الحدود التّصنيفيّة فيحيل إلى القصّة جنسا أدبيّا. وثانيهما ينأى عن التّصنيف فيحيل إلى أنّ هذا النّمط من الكتابة قصيّ عن الحصر بإطلاق فهو البعد والنّهايات لا درك لهما. وقد وزّع الكاتب خبره على ثلاث ورقات هي جملة فصول الأثر، تمثّل كلّ ورقة سيرة سرديّة قائمة الذّات لها من مخصوص الهواجس مسائل تعالجها.
فأمّا الورقة الأولى فإنّها تنفتح بالاستفاقة على الموت. وهو حدث ذروة من القصّ يوجّه المسير السّرديّ لـ" أنا المتكلّم " في اتّجاهين اثنين ينبثقان عن لحظة زمانيّة حاضرة آنية متشضّية هي الفاصلة بين العلم بموت الجدّة وموعد الدّفن.
أمّا الاتّجاه الأوّل فاسترجاع للماضي إيحاء. وأمّا الاتّجاه الثّاني فاستشراف فبناء لآت ممكن. وعند إمعان النّظر يُتبيّن أنّ الاتّجاه الأوّل يتمثّل في رافدين اثنين:
– الرّافد الأوّل: إشارات تحيل إلى قطيعة قديمة حدثت بين الجدّة بما تحمله من رموز والذّات السّاردة الّتي اختارت العزلة والانقطاع عن العالم بالتزامها الدّهليز مقرّا.
– الرّافد الثّاني: يمثّله طريق البحث عن المنزل الإرث الّذي يشير من خلال أحاديث الشّيخين عنه إلى أصول النّشأة العرجاء للذّات السّاردة باعتبارها عاملا من عوامل القطيعة.
وبالمثل يتشكّل الاتّجاه الثّاني من رافدين نشآ آناء الحياد عن الإرث المنشود عرضا.
– الرّافد الأوّل: إشارات تحيل إلى الواقع تتمثّل في الاستعاضة عن الدّار الإرث الميّت بدار أخرى تنبض حياة هي دار الخناء بكلّ ما تحمله من رموز.
– الرّافد الثّاني: إشارات تنفتح على الحلم بما هو دار أخرى مضادّة للإرث.
وإعادة التّرتيب الزّمنيّ لمكوّنات هذه الجملة السّرديّة يفضي إلى القول التّالي:
) ينشأ السّارد نشأة عرجاء تقحمه في صراع مع الأهل والمجتمع ينتهي بعزلة اختياريّة. ثمّ يموت أحد أطراف النّزاع وهو الجدّة الّتي تمثّل باعثا على قطع العزلة. وهو حدث يحيل على صراع جديد طرفاه السّارد من جهة والأهل والمجتمع من جهة أخرى، ينتهي أيضا بعزلة جديدة هي المعرفة حسّا ورؤيا.(
أمّا الورقة الثّانية فإنّها تسجّل ولادة جديدة للذّات السّاردة. أو هي تَذَكُّرٌ لفترة سابقة على انتجاع الدّهليز مقرّا فمثوى والقطع مع العالم الخارجيّ بالعزلة الإراديّة. وتتمثّل هذه الولادة في نشوء فكر جديد مبعثه التقاؤه بتأبّط شؤما أو حلوله فيه الّذي تولّد عنه إنس جديد وكينونة جوهر. وهي مرحلة يتجاذبها أيضا من الحياة بعدان: بعد مجرّد يقوم على إعمال الرّأي ومحاولة الإسهام في نقد الفكر. وبعد حسّيّ يتحدّد بالمشاهدات في المدينة ومعاينة أوجه الحياة فيها.
ففيما يتعلّق بالبعد الأوّل: يلاحظ أنّ تأبّط شؤما ذات لها نسقها الفكريّ الخاصّ. تُحدِّث في المعضلات الفكريّة ولها منها مواقف نقديّة صارمة. إذ تناقش مثلا الوجوديّة تيّارا فلسفيّا وتقوّم النّظرة إليه. كما تهتمّ بالفنون فتنقد الرّسم مثلا من خلال الحديث عن المطويّة بعنف حطام المدينة...
لكنّها تتجاوز أيضا مجرّد هذه الحدود فتخبر بما سيأتي، إذ تنبئ بالحقيقة الخالصة الّتي تصدر عن المعتوه والمجانين.
وأمّا فيما يتعلّق بالبعد الحسّيّ، فإنّ تأبّط شؤما يسجّل مشاهد من الحياة في واقع المدينة ساحاتها، فيحدّث عن المحرّمات فيها: وهي الجنون أي المعرفة الصّرف، والضّحك بما هو علامة من علامات السّعادة المطلقة، والرّقص بما هو علامة احتفال بمطلق السّعادة. كما يفضح من خلال تجواله في ساحة "لاقورا" الّتي تحوّلت إلى ساحات، كلّ الممارسات الحياتيّة اليوميّة الّتي تحكم المجتمع من وصوليّة إلى قمع إلى خيانة وغدر إلى غواية وزيف... وهي قيم سلوكيّة يكتنز بها الواقع الاجتماعيّ الرّاهن في عصر انهارت فيه قيمٌ، وأخرى فيه تكاد تتشكّل على غير نهج مسبوق.
أمّا الورقة الثّالثة وهي عماد الكتاب والغاية من إنشائه، فإنّها تحمل رؤية خاصّة تتمثّلها حلاّ ممكنا من شأنه أن يُصلح ما تردّى فيه الواقع الجديد. هي دعوة إلى الانطلاق، إلى القطع مع السّابق وتأسيس قيم جديدة حدّها الانطلاق في ممارسة الوجود والنّهل من معين السّعادة فيه بحثا عن التّماهي مع الذّات. هي رؤية حالمة تذكّر بمشاريع أصحاب المدن الفاضلة فيها مُتعة صوت وغناء، رسم وفلسفة، حبٌّ ونشيدُ وجْد... بل هي الخروج عن السّائد، بل إحداث قطيعة معه. هي الحريّة إذن لا حدّ لها يكون فيها الإنسان محور الكون.
2 القول في العلامة.
يقوم الكتاب ككلّ نسق سرديّ إنشائيّ على جملة من الشّخوص تحرّك الحدث، وتدفع بالبرامج السّرديّة إلى منتهاها في متن الورقات. فتتفاعل فيما بينها في إنشاء عالم الكتاب إن سلبا أو إيجابا، وتحمل رؤى وأفكارا متقاربة أحيانا، مختلفة متناقضة في الغالب. لكنّ إمعان النّظر في هذه الكائنات الورقيّة يكشف عن أبعاد دلاليّة -يتحرّك عبرها الفكر- عميقة ، تحيل إليها التّسميات والنّعوت المتعلّقة بها. فعلامات من قبيل: الجدّة، الدّهليز، الكوكب الآخر، المومس، الحيّة... لا يمكن النّظر إليها بما هي علامات تعيينيّة إشاريّة لا تتخطّى عالم النّصّ المثبت في الكتاب. إذ إنّها وكأيّ علامة لغويّة لها ذاكرة ضاربة جذورها في التّاريخ.
والممتع في هذا النّصّ:" ...وآخرون منّا ومنهم" أنّه مكتنز بإشارات لها في الذّاكرة أبعاد أسطوريّة شرقيّة تتحرّك في نصّ مواز للنّصّ الحكائيّ المكتوب. فتعمّق جوانب الفكر المطروحة فيه. ولا غرابة في ذلك باعتبار أنّ كلّ ما قيل، وكلّ ما أنجز من أنساق فلسفيّة إلى اليوم ما هو إلاّ تنويع على وقع الأسئلة الأولى الموغلة في القدم الّتي وضعَ الإنسان في عصر البدايات عند أوّل مواجهته للطّبيعة وتفكّره في الكون إذ أراد اكتشاف ذاته. وليس أقرب للذّاكرة من أساطير الشّرق القديم، وليس أقرب لعلامات هذا النّصّ الرّمزيّة من أسطورة بلاد ما بين الرّافدين الّتي من خلال مكوّنات عوالمها سنحاول تحديد بعض الأبعاد الدّلاليّة لأهمّ المسمّيات في الكتاب وإن بإيجاز.
العلامات في ظاهر النّصّ:
إنّ تبيّن دلالات الأسماء بما هي تعيين للشّخصيات القصصيّة والأزمنة والأمكنة في ظاهر النّصّ يحيل إلى مفهوم الموت بجميع أبعاده الحسّيّة والمعنويّة بما هو لحظة انعتاق أي حدث قطع وتأسيس في ذات الآن. وعليه تبدو سيرة النّصّ سيرة موت محض ينفتح عليه وبه يختتم. ولتبيّن أنواعه نورد هذه المعطيات البدئيّة.
الشّخصيات:
– الجدّة: تحيل الجدّة إلى مفاهيم الأصل والتّاريخ والإرث ... وهي مفاهيم لها علاقة بالموت وطيدة، إذ إنّها في سيرة البشر تنبع من البعد الزّمانيّ الّذي يفعل فعله فيه. فقانون الموت هو المحرّك لمفهوم التّاريخ أصلا.
– المومس: تحيل إلى مفاهيم عديدة من بينها الغواية والتّبرّج، لكنّها تلتقي مع الجدّة في مفهوم الموت وإن اختلفت طبيعته لدى كليهما. إذ المومس قطع للخصب بالضّرورة. فهي الصّورة النّقيض من حيث الأثر في الزّمان لصورة الجدّة. وتلك دلالتها على الموت إذ فيها إعدام للأصل والتّاريخ والإرث... فهي تثبيت لآنية الزّمان.
– الحيّة: هي وجه من وجوه الموت الدّائم أيضا في المخيال العربيّ باعتبارها باعثة على الفناء. فهي كائن سامّ يخشى دائما. ثمّ هي تحيل إلى الصّراع الأبديّ بينها وبين البشر في الذّاكرة الإنسانيّة مهما اختلفت الثّقافات.
– عروس البحر: كائن خرافيّ لا وجود له. فهي في حقيقتها عدم مطلق وذلك عنصر أساسيّ على مداره يُتعرّف الموت.
– المعتوه/ المجانين: لهما علاقة بالموت أيضا. وهو موت اجتماعيّ حدّه اللاّمبالاة والإهمال في أحسن الحالات. والعزلة الإجباريّة في معتقلات خاصّة في أقصى الحالات.
– الرّسّام/ الموسيقيّ: فيهما إحالة على الموت أيضا بما هما كائنان يؤسّسان لحياة مفارقة للواقع تنعكس على علاقاتهما الاجتماعيّة. وهما بذلك الوجه المقابل للمعتوه والمجانين.
– الدّجّال: له علاقة وطيدة بالموت في المخيال البشريّ وخاصّة في حضارات الشّرق. إذ هو علامة من علامات الفناء. فظهور المسيح الدّجّال في الفكر العربيّ الإسلاميّ والمسيحيّ على حدّ السّواء يمثّل إحدى علامات يوم القيامة.
– تأبّط شؤما: كائن يحيل على مفهوم الموت أيضا بما هو عنوان للتّطيّر ومجلبة للنّحس في المخيال الإنسانيّ على اختلاف الثّقافات.
– المرتقي السّلّم: فيه إحالة على الموت مجازا، باعتبار الصّورة الّتي قُدّم بها في سيرة النّصّ. فهو زيف وعدم نجاعة في الواقع ومثاليّة مطلقة.
الأمكنة:
– الدّار: مكان يحيل على مفهوم الموت بما هو حدّ ومستقرّ يعمل على تثبيت الحياة وحدّها.
– الرّوضة: هي الموت الشّرقيّ في المتخيّل تحيل إلى الأبد والخلود بمعنى انتفاء الزّمن.
– الكوكب الآخر: يحيل على القتل الحضاريّ العنيف بما هو إرادة غزو وسلب وتسلّط فقهر.
– الدّهليز: هو موت آخر بما هو عزلة وحياة مظلمة ومعرفة خادعة منخدعة.
– المقهى: يحيل على الموت أيضا بما هو حرّيّة مطلقة لا حدّ لها تقتل الأسس الأخلاقيّة المعياريّة.)نقول بالعامّيّة التّونسيّة: " تحسب روحك في قهوا " لذاك الّذي يخرج عن النّسق السّلوكيّ الأخلاقيّ العامّ..
الأزمنة:
إنّ السّمة الأساسيّة للزّمن الّذي يحدّ النّصّ تتمثّل أيضا في الإحالة إلى مفهوم الموت. إذ القصّة مؤطّرة بمعالم زمانيّة مجمّدة تنحصر في لحظة حاضرة آنية، طرفاها العلم بموت الجدّة والعلم بموعد الجنازة غدا أو بعد غد. وفي هذه الرّؤية الزّمانيّة المختارة إرادة تحطيم منطق الزّمن في محاولة للإمساك بالمستحيل من التّعيّنات وهو الحاضر الّذي لا يعدو أن يكون سوى مجرّد وهم أو خدعة عقليّة تحاول تثبيت الرّاهن بالتّنويع الكاذب لأطراف الزّمان حدوده.
العلامات بما هي ذاكرة مسترجعة
أشرت سابقا إلى التّواشج القائم بين مسمّيات نصّ القصّة والرّموز الأسطوريّة الشّرقيّة القديمة باعتبارها ذاكرة أو نصّا متضايفا يتحرّك موازيا للنّصّ القصصيّ الأصل. وعليه يكون من الضّروريّ التّذكير بالأسطورة الشّرقيّة القديمة.
يؤرّخ النصّ السّومريّ "هو الّذي رأى" لمواجهة الإنسان الأوّل لهذا الكون وما رافق ذلك من أسئلة وجوديّة نظرت فيها كلّ الحضارات والفلسفات على اختلاف أنساقها من بعد. وعليه فالأسطورة هي مخزن المعرفة والحكمة الأولى للإنسان صيغت بنقاوتها البدائيّة. وسمة نشوء المعرفة أو البحث عنها في هذه الملحمة أنّها تأسّست على حدث فارق يتمثّل في الموت الّذي دعا البشر إلى التّفكير في ذواتهم وفي الكون المحيط بهم. إذ إنّ أحداث الأسطورة السّومريّة الرّئيسيّة المتمثّلة في محاولة البحث عن الحقيقة وطلب الخلود، انبثقت إثر مقتل أنكيدو فوقوف الطّاغية جلجامش على حدث الموت حقيقة الإنسان وفواجعه وهو ما دعاه إلى القيام برحلات البحث عن الحلول الممكنة للخلود.
على هدي ما تقدّم يمكن قراءة مفهوم الموت الّذي تبديه معالم المسمّيات في القصّة) الكائنات والأمكنة والأزمنة ( على أنّه استحضار لسيرة البحث الأولى عن المعرفة وقوانينها، سواء ما تعلّق منها بالبشر فردا ومجموعة أو ما تعلّق منها بالكون تمثّلا وتفسيرا. وعليه تفيض الحدود الدّلاليّة للمسمّيات عن إطار المرجعيّة النّصيّة المحدودة، لتكتسب أبعادا أخرى نلخّصها فيما يأتي:
– الجدّة في النّص تذكّر بالجدّة الأسطوريّة) زوجة أوتنابشتيم، منقذ البشريّة من الطّوفان( الّتي مُنحت الخلود فعرفت معنى الموت فسعت إلى محاربة زوجها حتّى لا يفشي سرّ الخلود للحفيد جلجامش. فهي مثل الجدّة في القصّة تموت لكنّها ترفض الموت. تدخل في صراع مع الآخر وتقاطعه أحيانا حبّا فيه.
– المومس في النّصّ تذكّر بالمومس في الأسطورة الّتي أرسلتها عشتار لتأهيل أنكيدو حتّى يتمكّن من دخول المدينة ومقاتلة الطّاغية جلجامش. فكلاهما مثّلت طريقا إلى المعرفة أو قناة توصل إلى الكشف والحكمة، وإن كانت حكمتهما غير موثوق بجدواها.
– تلتقي حيّة النّصّ مع الحيّة الأسطوريّة في عدائها للبشر من ناحية، وفي تمثيلها لسبيل المعرفة. ففي الأسطورة مثّلت إيحاء بطلب الخلود حقيقة، ثمّ عملت على سرقة عشبة الخلود من جلجامش.
– عروس البحر في النّصّ تقابلها صورة الفُلْكِ في الأسطورة. فهي حلم أو وَهْمٌ مكّن جلجامش من عبور بحر الموت لملاقاة أوتنابشتيم حتّى يسأله عن سرّ الخلود.
– المعتوه والمجانين في النّصّ يقابلون صورة الجدّ نوح البابلي الّذي اكتشف الحقيقة ورضي بالعبث الخالد. فانعزل عن البشر.
– الموسيقيّ والرّسّام في النّصّ يقابلان ربّان بحر الموت في الأسطورة. فالرّبّان أوصل جلجامش إلى مقرّ الجدّ فكان خائنا لسيّده إذ كشف أسراره. ثمّ بعد عزله من مهمّته استقرّ مع سادنة الحانة على شواطئ بحر الموت يتمتّعان ببهجة الحياة رقصا وغناء وألحانا.
– الدّار في النّصّ تتماثل مع مدينة أوروك ومعبد نينسون أمّ جلجامش. وهي أطر من المكان تحدّ من المعرفة، بل تؤسّس للزّيف فتقتل الشّخصيّة الرّئيسيّة سجنا ووهما.
– المقهى في النّصّ تتماهى مع الحانة من النّصّ الأسطوريّ، إذ تمثّل محراب انهيار القيم.
– الدّهليز في النّصّ يحيل إلى أنفاق الجبال في النّصّ الأسطوريّ الّتي تمثّل أولى طرق رحلة البحث عن الحقيقة. وهي أمكنة تقدّم المعرفة الخادعة.
الحوصلة:
من خلال ما تقدّم من محاولة رصد علامات النّصّ الرّمزيّة عن طريق كشف آليات استحضارها للمعنى الذّاكرة، يمكن تبيّن كيفيات تحوّل السّيرة الذّاتيّة، الذّاتية جدّا إلى سيرة وعي أو محاولة تأسيس حضاريّ كما يدّعي الكاتب. فلغة القصّة، خاصّة ما تعلّق منها بالتّسميات والتّعيينات المكانيّة والزّمانيّة سواء عن قصد من مبدعها أو عن غير قصد منه، قد تحرّكت في مسير بناء الأبعاد الدّلاليّة للنّصّ بما تحمله من شحنة قادرة على إنتاج المعنى تراكمت عبر الزّمن.
فلئن بدت هذه اللّغة المشكّلة لعالم النّصّ من حيث هو خبر آنية لها مراجعها المحدّدة البسيطة، فإنّها في مستوى الخطاب من النّصّ ترقى إلى نصوص أخرى لها من الذّاكرة نصيب تحيل إليها فتكتسب دلالات جديدة تبرز بكلّ ثقلها الثّقافيّ ومخزونها المرجعيّ العائد إلى عصر البدايات من الذّاكرة الإنسانيّة. إذ تبيّن من خلال رصد بعض رموز القصّة هذه القدرة على استحضار الموروث الأسطوريّ الشّرقيّ منشأ، الإنسانيّ غاية. ففي النّصّ أصداء لأقدم الملاحم البشريّة، ملحمة بلاد ما بين الرّافدين، بما هي أولى محاولات الإنسان تفسير الكون، وبما هي المخزون المعرفيّ الّذي يؤرّخ للأسئلة الوجوديّة الكبرى للبشريّة الّتي ما تزال تتردّد عبر العصور وإن اختلفت الصّيغ.
مناقشة أبعاد القصّة الفكريّة:
ممّا سبق يبدو أنّ هذه الكتابة سواء كانت قصّة أو سيرة ذاتيّة بما هي عمل في مجال المعرفة، تُقرأ على أنّها وسيلة من وسائل عرض مشروع فكريّ ورؤية تناقش الأحداث الرّاهنة الّتي يبرزها المشهد الحضاريّ المعاصر. وهي بذلك مندرجة ضمن ما اصطلح عليه بالقصّة الأطروحة. وعند تمعّن قضاياها الفكريّة، يُلاحظ أنّها تهتمّ بالمسألة السّياسيّة أساسا في إطار ما يُدعى بالفلسفة العمليّة مقابلا للفلسفة النّظريّة. وفي هذا المجال تعرض القصّة لأهمّ التيّارات الّتي اعتمدت في تنظيم المدينة بدء من الأفلاطونيّة إلى اليوم. وسنتوقّف عند بعضها اختصارا.
تقدّم القصّة الرّؤية السّياسيّة الأفلاطونيّة الدّاعية إلى تأسيس المشاريع الحضاريّة على أساس المدينة المحاربة، وهي المتمثّلة في السّيرة السّرديّة في المسمّى بالكوكب الآخر. فهذا الكوكب الآخر كما يقدّمه النّصّ يعمل على الهيمنة القاهرة على أصحاب الرّوضة فيبتزّ منهم كلّ منتج خصيب.
كما يقدّم الكتاب المشروع الحضاريّ الهيجليّ مجسّما في آخر فهم له كما رآه فرنسيس فوكوياما، باعتباره قد تجسّم في المؤسّسة الحضاريّة للولايات المتّحدة، فكان الإعلان عن نهاية التّاريخ والإنسان الأخير.
كما ناقش الكتاب على لسان تأبّط شؤما التّيّار الوجوديّ بما هو حلّ ممكن. وبيّن إفلاسه.
وأشار أيضا في معرض سيرة النّصّ إلى المشروع التّأصيليّ مجسّما في صورة الجدّة بما هو تاريخ كان فاعلا ثمّ انهار وبقي ينشد العود للتّأسيس الجديد برفضه الموت.
هذه القضايا كلّها يبيّن الكتاب أنّها كانت مفلسة أو ستكون. ويقرّ أنّها لا يمكن أن تحمل مشروعا حضاريّا خصيبا ) من خلال التّنصيص في الورقة الثّالثة على عدم إعادة قراءة الورقتين الأولى والثّانية (. ويدعو في المقابل إلى رؤية أخرى مستلهمة من المشروع الحضاريّ الفارابيّ القائم على محاولة تأسيس المدينة الفاضلة الّتي تكون الفلسفة فيها فاعلا يحكمها من خلال القنوات الّتي تتوسّلها لنشر الفضيلة وهي محصورة في الفنون مطلقا. فما الدّعوة إلى الغناء والرّقص والرّسم الجديدة الصّادرة عن ذوات قادرة بمفردها، لا قادرة "بقدرة قادر"، إلاّ احتفاء بهذا الخيار الحضاريّ حلاّ من الحلول الممكنة والأكثر جدوى.
لكن يبقى أنّ هذا التّصوّر لا يمكن أن يحقّق المنشود لأسباب. فتاريخيّا ثبت فشل المشروع الفارابيّ، على الرّغم من إقراره مبدأ القوّة في تأسيس مدينته الفاضلة. إذ ينصّص الفارابيّ في كتاب السّياسة على ضرورة أن تكون المدينة الفاضلة مدينة محاربة لها مؤسّستها العسكريّة الخاصّة الّتي يجب أن يتوفّر فيها مبدأ القوّة والنّجاعة، لحماية المدينة من أيّ عدوان خارجيّ ولتقويم كلّ انحراف ممكن عن قوانين النّظام فيها.
ثمّ الملاحظ أنّ المشروع الفارابيّ الّذي أراد به صاحبه الخروج عن الأزمة الحضاريّة الّتي اجتاحت الامبراطوريّة العبّاسيّة لم يتحقّق له النّجاح، إذ من المعلوم أنّ الانهيار في المؤسّسة العبّاسيّة في القرن الرّابع الّذي عاصره الفارابيّ لم يتدارك أمره رغم عمل الحمدانيين على تطبيق ما أتى به منظّرهم الفارابيّ.
ثمّ يُناقش هذا الطّرح من زاوية أخرى. إذ كيف يمكن تطبيق مشروع حضاريّ على مستوى من الرّقيّ كهذا في إطار تاريخيّ مأزوم وهو الرّاهن الّذي نعيش في غياب الأرضيّة الصّلبة له. أي ما مدى نجاعة هذا المشروع في الواقع اليوم في إطار مبدأ صراع الحضارات، بل تدميرها ومحاولة استئصالها قولا وفعلا؟ ألا يكون ذلك نوعا من التّرف الذّهنيّ وحلما من الأحلام الممتنع تحقيقها في الواقع!
هذه جملة من القضايا ندعو السّيّد سالم العيّادي إلى النّظر فيها وتجويدها، فعسى فيها حلّ قد يخرج من المآزق يوما.
الخاتمة:
ختاما، يبدو أنّ هذه الكتابة الّتي حَوْلَها دار الحديث تمثّل نوعا من الحُبْسَةِ أو الإرتاج، أو هي بعبارة علم النّفس حركة –سدّ. فالسّارد صعق بخبر موت الجدّة وهي حلم جميل ومشروع منتج جعله يتعطّل عن العالم للحظات هي مدى القصّة أو السيرة الذّاتيّة نفسها. وبما أنّ ردود الفعل عند العلم بالموت تختلف من شخص إلى آخر، وتتراوح في الغالب بين الغيبوبة عن الوعي أو الشّرود، فإنّ السّارد واجه نفس الأمر وإن اختلفت الصّيغة. فهذه الحالة النّفسيّة كانت قادحة لفكره إذ نشّطت فيه القدرة على استحضار وتمثّل كلّ الأنساق الفكريّة في ذات الآن، بل دفعته إلى التّقييم والاختيار أحيانا. وفضّل الدّعوة إلى بهجة الحياة حلاّ حضاريّا، وفي الحقيقة ما هو إلاّ حلّ ظرفيّ يُنشد عند النّكبات، لتحقيق التّوازن النّفسيّ والحفاظ على الذّات من احتمال الانهيار التّام والجنون.
والمتأمّل في موسيقى الشّذرات من الورقة الثّالثة يمكنه التّفطّن إلى تلك الشّحنات العاطفيّة الّتي تعبّر عنها. ففيها كلّ ما تحبل به الذّات الإنسانيّة من فرح وغضب وحزن وأمل وشجى تمثّل للمهموم بلسما وتعزية. إذ الموسيقى فيما هو متعارف عليه فنّ يضطلع بوظيفة التّطهير، تطهير النّفس الّذي يحتاجه كلّ إنسان سويّ يطلب التّوازن الرّوحيّ.
إذن، الفنّ مشروع حضاريّ يُقبل في حدود نحتاجها الآن في حالة الانهيارات الّتي تجتاحنا، فحضارتنا مهدّدة، بل كياننا كلّه مهدّد. لكن لا يسمح بأن نبقى في حدود الفنّ نهاية، إذ يجب أن نتعامل معه على أساس أنّه مرحلة ظرفيّة أو وقفة يكون بعدها الفعل. وفي نفس الإطار يجب أن نختار فنوننا، فما كلّ فنّ علاج.
أذكّر أنّ الطّريف في هذا الكتاب أنّه صادر عن رجل يحمل همّا ثقافيّا يشغله. والممتع أن يكتب محترف الفلسفة أدبا، وهي تجربة يُرجى أن تتكرّر، بل أن تكون سُنّة حتّى نؤسّس لفنوننا وحتّى نبعد كلّ متقوّل في الأدب وما أكثرهم. والأكثر إمتاعا أن يكتب الموسيقيّ سيرة أدبيّة، بل أن يوضّفها لخدمة الفكر )وليس ذلك بغريب عن سالم العيّادي المختصّ في الفلسفة والمتكوّن في الموسيقى(.. وعلى هذا يكون تنفيذ الشّذرات الموسيقية الموجودة في الورقة الثّالثة من الكتاب أمرا على غاية من الجدوى، -بما هي عمل موسيقيّ ثريّ نابع عن تجربة وبحث عميقين من جهة، وبما هي عنصر بنائيّ في النّصّ ذاته من جهة أخرى- عسى في ذلك بعث على حسن اختيار موسيقانا احتراما منّا لآذاننا. ومن خلاله لمستقبل كياننا إن وجدنا له سبيلا، حتّى لا نصير رمادا في أتّون صراع الحضارات البدعة الّتي ظهر بها علينا الدّجّال، دجّال الكوكب الآخر .