الجمعة ٩ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم زكية علال

إبراهيم سعد الدين يهدينا أول الغيث

في البدء أعترف أن ما أكتبه ليس دراسة نقدية، فلم أكتب يوما نقدا ولا علاقة لي بمدارسه ولا بمذاهبه ولا بتوجهاته.. بل هي مجرد قراءة أو ملامسة لديوان شعري لم تمر قراءتي له كأية قراءة لكل الدواوين الشعرية التي مرّت بي، لأن أشعاره صافحت وجداني الإنساني بحرارة وصدق لم أعهدهما من قبل...

لقد عانينا من الإنكسار والذل ووصلنا حد التشبع الذي أَغْرَقَنَا في برودة عاطفية اغتصبت منا كل تذوق للجمال.. على امتداد سنوات عديدة ونحن نتوزع بين أخبار السقوط وحمامات الدم العربي التي تنقلها لنا الفضائيات العربية بأمانة مستفزة إلى أن ترهّلت عواطفنا وشاخت أحاسيسنا... حتى أشعار الغزل التي تطالعنا بها الصحف والمجلات، والدواوين الشعرية التي تقذف بها المطابع عجزت أن تحرك فينا الإحساس بالدفء، لأنه غزل لا لون ولا رائحة له.. غزل باهت ضعيف لا يقدر على منح الحياة لقلوب تحتضر، فهو يهتم بالجسد ويبتعد عن الروح ليصبح سلعة تأخذ وقتها في الرواج ثم تخبو...

وأنا أقرأ " أول الغيث " للشاعر إبراهيم سعد الدين وقفت على غزل لم أقف عليه منذ أن ولّى دفء ذاك الزمن الجميل.. غزل لا يتخطى الجسد فقط بل القلب أيضا ليتعلق بأسوار الروح..

وأنت تفتح الديوان على أول قطرة من أول الغيث تجد الشاعر يصافح قلبك بحرارة متميزة:

أول الغيث قَطَرْ..
حين لاح البرق في العينين قلت:
أول الغيث قطر..
وخبا البرق ولم يأت المطر..!!

وأنت تقرأ هذا المقطع يعتريك إحساس ذاك التائه في الصحراء وقد بعُدت المسافة بينه وبين أحبابه وكاد العطش يفتك به.. وهو يستسلم للنهاية المحتومة، تطرق يأسه أول قطرة لغيث سينهمر.. فيصرخ ممتلئا بالحياة: "إنه الغيث.. إنه الغيث"

وتأتي قصيدة " أما تعلمين " لتكشف أن منتهى الإنسانية أن يصير الحب خبزا وملحا وماء الحياة.. بل قد يصير وطنا لا نرضى سكنا غيره:

أما تعلمين؟!!
أما تعلمين بأنك خبزي وملحي
وماء الحياة..؟
وأني اصطفيتك لي وطنا
افتديه بماء عيوني
فما لي ملاذ سواه...

مثل هذا الحب الوطن يعلمنا – أيضا – أن حبنا للطرف الآخر لا يمنحنا الحق في تغييره أو تشكيله حسب مزاجنا، بل علينا أن نقبله كما هو وبكل عيوبه ومساوئه، ونتحمّل تأثير هذه المساوئ علينا:

لا تعتذري لي أبدا سيدتي..
فأنا أهواك كما أنتِ..
كوني ما شئتِ ومن شئتِ
رعدا أو برقا
ماء أو نارا
كوني سيلا يغرقني..
أو صاعقة تحرقني..
أو إعصارا..
كوني ما شئتِ ومن شئتِ
فجنونك بعضٌ من قدري
وغيومك إن عبرت يوما
تأتي دوما بالمطر.. !!

حتى والشاعر يرثي أخاه وصديقه وأمه يجعلنا نحس أن فقدان الأحبة يتحول إلى حالة من الحب المستمر:

كنت أعرف أن القمر
حين يكمُلُ بدرا
يؤوب إلى بيته في المساء
فيغفو على صدر أمه
ويرتد طفلا
هلالا يعود إلينا
براحته الناعمة
حفنة من ضياء

وأنت تنتهي عند آخر قصيدة تكتشف أن الحب لم يكن ضعفا ولا انكسارا ولا ذلا.. بل هو شموخ وقوة وعز.. الحب مدرسة نتعلم فيها التسامح والتعالي والتضحية والتفاني في خدمة الآخرين.

ديوان " أول الغيث " للشاعر إبراهيم سعد الدين يغري بالقراءة والإبحار في مراياه التي تهمس لنا " كم هو جميل الإنسان فينا خاصة إذا كان قلبه قادرا على احتواء الآخرين !! "


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى