الثلاثاء ٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم رامي نزيه أبو شهاب

إدوارد سعيد والذكرى الرابعة لرحيله

قبل أيام قليلة وتحديدا في الخامس والعشرين من أيلول حلت الذكرى الرابعة لوفاة المفكر والناقد إدوارد سعيد، الذي ما زال نابضا وحاضرا في الوعي العالمي كأحد أبرز مفكري ونقاد هذا العصر المزدحم أصلا بالفلاسفة والمفكرين ، سمق إدوارد كشجرة زيتون في غابة من العباقرة كما يرى تيري إيجلتون، وبدا حضوره انحيازا وتدخلا إلهيا لشعب ( فلسطين ) الذي وجد في إدوار سببا للتباهي كما عبر الشاعر الفلسطيني محمود درويش .

إدوار سعيد أستاذ الأدب الإنجليزي الفذ في جامعة كولومبيا جاء حضوره على غفلة من كل من يقف في مواجهة كل ما هو فلسطيني، ولكن الفلسطيني(إدوارد ) شكل هذه المرة وجها جديدا في الفكر العالمي المعاصر، حين أعاد الصراع إلى حقيقته التي تواطأ عليها جزء من الضحية، وكل الجلادين لإخفائها.

نهض إدوار سعيد بها مؤسسا كلمة كادت أن تغيب وتتلاشى في أدبيات العصر ( الاستشراق ) مصطلح عاد مر أخرى بقلم ووعي إدوار سعيد مؤطرا هذه الكلمة بإسقاطات جديدة في كشف يبدو سافرا للبعض في تعرية أدبيات فكرية اضطلع بها الغرب اتجاه الشرق ابتداء من الهند، وانتهاء إلى فلسطين مرورا بالعراق .

تميز إدوارد سعيد حين بدأ في استنطاق النص في كل بعد متاح وضمن كل أداة ومنهج (مستطاع) فكان بنيويا ونصيا وتأويليا وتاريخيا ونفسيا واجتماعيا، كان كل ذلك للوصول إلى البعد الغائب وعيا، والحاضر تطبيقيا لصورة الشرق المؤسسة بوعي الغربي، إذ تعمقت حتى أصبحت لبوسا وشيئا حاضرا في اللاوعي الشرقي وبات الخلاص منها أشبه بأكذوبة .

الكائن الأبيض يضع كل ما هو خارج ذاته ضمن مقولاته هو ، يبتعثها لتصبح نصا واقعا وحكما قاطعا ، ومنتهيا ومنجزا. وإذا أردت أن تعرف ذاتك فاقرأ نفسك بعيون الغرب ، لتجد أنك خارج ذاتك .

إدوار سعيد حمل " كونراد " كتعويذة في كتابيه " الاستشراق " و" الثقافة والإمبريالية " كونه يشبه إدوار سعيد في حلوله في لغتين، وفي خارج المكان الأصل إلى المكان المفترض كلاهما حمل وعيه بأنه اللا منتمي للغة أدركها ونسيته، ولغة أدركته بينما نسيها .

يقول ادوارد سعيد في التعبير عن مفارقة وجوده قائلا : أنا فلسطيني ولكني طردت منها منذ الطفولة ، وأقمت في مصر دون أن أصبح مصريا ، وأنا عربي ولكني لست مسلما ، وأنا مسيحي ولكن بروتستانثي ، واسمي الأول " إدوارد" رغم أن كنيتي " سعيد " .

بدأ " سعيد " التدريس في جامعة كولومبيا في نيويورك سنة 1963 كأستاذ للأدب الإنجليزي وبدا اعتياديا إلى أن زلزل الأرض حين أطلق كتابه " الاستشراق " ، ليعقبه بعد ذلك في كتابه الآخر "الثقافة والإمبريالية " وفي هذا الكتاب ( الثاني ) وطأ " إدوارد سعيد " أرض المقولات الغربية العلوية وأسقطها عن صهوتها، وتحضرني هنا عبارة – عميقة الدلالة - لبطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال"مصطفى سعيد " للطيب صالح ، حين كان يقوم بغزو معاكس صوب الشمال، حيث قال في فعل ثأري استحضره الآن " إني اسمع خيول النبي وهي تطأ أرض القدس " إذ يحضر هنا بطل الطيب صالح " مصطفى سعيد " كمرآة لصورة بطل " كونراد " في رواية " قلب الظلام " " كورتز" ، قاصدا التشويه المقصود. من هذا المفصل تحديدا استنهض كتاب" الاستشراق" هذه الحركة في مواجهة الآخر المستعلي غير أنه انتهج معبرا بدأ من داخل وعقر داره، كمال أبو ديب في معرض تقديمه لكتاب( الاستشراق ) ينص على ذلك حين يقول : " الاستشراق هو تجسيد لوعي نقدي ضدي غربي ، ليس ظاهرة شرقية بمعنى أنه ليس عمل شرقي يهاجم الغرب ، وإنما هو تفجر من داخل الثقافة الغربية يمارس فاعليته الخلاقة على حيز من هذه الثقافة بطريقة جدلية ستؤدي في النهاية إلى إخصاب جديد لاستشراق من نمط جديد "

لقد وطأ سعيد الغرب في طباق لغوي حين اكتنه رموزه الثقافية ( كبلنج ) و(جين أوستن) و(إم فورستر) و(كامو) و(كونراد) ، وأبرز مقدار نرجسيتها في استنطاقها لصورة الآخر ( الشرق دائما ) حيث يقول " إدوارد سعيد " : افترض الغربيون اكتمالية ومناعة روائعهم الثقافية وتراثهم البحثي وعالمهم الإنشائي ؛ ويقف باقي العالم متوسلا أن نعيره نحن الغربيين انتباهنا على حافة نافذتنا " هذه المقولة تختصر الكثير من إشكالياتنا الحاضرة حين نضع أنفسنا ( الشرق ) ضمن إشعاع الآخرين باعتبارنا ( أقل ) وأكثر قصورا من خلق اكتمالنا بمعزل عن ( الأب الروحي- الغرب ) فننطلق من مفهوم الحاجة للآخر كي يخلق لنا وجودنا الثقافي ضمن مسطرته هو، وإذا فقدنا هذه المسطرة فنحن في ركب الجاهلية العالمية وسلسة من نقاط العار المتواصلة التي ربما تسم عصر العولمة.

ومن هذا المنطلق يبدد " إدوار سعيد " الفكر المسبق نحو ثقافة معينة في الدوائر الأكاديمية الغربية في تصورها لأمة أو حضارة ما ، حيث يقول في كتابه " الآلهة التي تفشل دائما " : ... الحال عينه في التعامل مع العالم الإسلامي – فمليار إنسان بالكامل ، بمجتمعاته الكثيرة والمختلفة ، ولغاته الست الرئيسية التي منها العربية والتركية والإيرانية ، المنتشر على نحو ثلث الكرة الأرضية – يتكلم المثقفون الأكاديميون الأمريكيون والبريطانيون باختزال وبرأيي ، على نحو غير مسؤول على شيء يدعى " الإسلام " باستخدام هذه الكلمة المفردة يبدو أنهم يعتبرون الإسلام شيئا بسيطا يمكنهم أن يطلقوا عليه تعميمات إجمالية تجسر ألفية ونصف من التاريخ الإسلامي "

ما أحوج هذا الشرق إلى مقولات كثيرة ينتهجها الشرق لنبذ ضعفه المتولد من نظرة الآخر له، وهنا كان إدوار سعيد نقطة التحول الشاذة في توجهات الشرق نحو استنهاض فكري يقيه خذلانه الحضاري في ركب العالمية، وغالبا ما كان يضل الطريق في مواجهة أنظمة التفكير المضادة، فتلاشت كل محاولة منذ أفول القرن التاسع عشر إلى زمننا المعاصر، وهنا وقوف اضطراري في قراءة متأنية لمشروع إدوار سعيد في سبر أغوار مشكل الصراع الحضاري حين وقف في مواجهة مقولة نهاية التاريخ لفوكوياما ومقاربة أعتقد أنها أثيرة في تحديد تعريف حاد لمفهوم الثقافة لأمة ما، وأكثرها اقترابا- ربما - من مفهوم المفكر الإسلامي الجزائري " مالك بن نبي " في كتابه " مشكلة الثقافة " حين يرى أنها( الثقافة) تلك المنارة التي تضيء مقدارا محددا مما يعني مقدار معرفة لذاتك واقترابك من إدراك ماهيتك لتمتلك ثباتا حقيقا في خطاب الصراع الثقافي .

ولعل إدوارد سعيد ( ذاته ) نموذج شديدة الوضوح على مقدار أن تنطلق وترتد من ذاتك إلى ذاتك وإلى ( أرضك) ومستقرك الأبدي، فقد عبر عن ذلك عند زيارته فلسطين معبرا عن سعادته برؤية الفلاحين الذين ما زالوا يعملون في أرضهم ولا شيء أبقى وأكثر خلودا من هذه العبارات التي كانت أكثر عباراته بساطة ولكنها كانت ربما أكثرها تعبيرا عنه كإنسان فلسطيني حيث قال : رأيت في الضفة الغربية المزارعين البسطاء يستمرون في حياتهم فوق حقولهم يزرعون ويفلحون ويحصدون بجد يختلط عرقهم بتراب وطنهم، يروون أشجار الزيتون الخالدة بقطرات الماء التي يوفرونها من مياه شربهم’ ثم تابع القول ’لقد أثلج صدري ما رأيته من استمرارية الحياة فوق أرض الوطن، أما أرض فلسطين المحتلة ففيها أيضا استمرارية الحياة التي تطل علينا من خلال الذكريات الحية والتي ستظل كذلك مادامت الحياة مستمرة ومادامت هذه الأجيال تتوارث التاريخ جيلا عن آخر"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى