الثلاثاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم ناهض زقوت

الأدب والنكبة ـ قراءة في النص السردي

ناهـض زقـوت

تمهيد :

استشرف الأدب الفلسطيني النكبة وحذر من ويلاتها قبل سنوات من وقوعها، ورصد خيوط المؤامرة التي تحاك ضد الشعب الفلسطيني، منذ صدور وعد بلفور، وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين، والدعم البريطاني لليهود في التمهيد لإقامة الكيان الصهيوني، وكذلك تعرية الزعامات العربية والفلسطينية المتحالفة مع الانجليز، ومناصرة الزعامات الوطنية المحاربة للانجليز واليهود، كما شحذ الأدب الهمم وبث العزيمة في النفوس للثورة والمقاومة.

كان الأدب مرآة صادقة لواقع تمور فيه أحداث تنذر بخطب عظيم. فهذا الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود يقف مخاطبا الملك "سعود بن عبد العزيز" حينما زار فلسطين والمسجد الأقصى, قائلا:

المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودعه

كأنه كان يقرأ من خلف ستار الغيب عام 1935 لما سوف تؤول إليه الأوضاع السياسية في فلسطين.

ولم يكن الشعر وحده في ميدان الاستشراف والتنبؤ، إذ قدمت الرواية الفلسطينية رؤيتها الاستشرافية للنكبة، بالتحذير من الأدوات التي سوف تساهم في حدوثها، وخصوصا اليهود، فيقدم خليل بيدس في رواية (الوارث)، شخصيات يهودية تتصف بالاحتيال والنصب والكذب والتدليس، ولا تتورع عن استخدام أي أسلوب بهدف تحقيق مأربها. وكانت هذه الرواية التي صدرت عام 1920 بمثابة صرخة للعربي بصورة عامة وللفلسطيني بصورة خاصة بأن يحذر من أساليب اليهود ومكرهم.

وهكذا نرى أن الكاتب الفلسطيني أدرك منذ البواكير الأولى للإنتاج الأدبي الجدلية القائمة بين الأدب والواقع , فكتب عن واقعه وما يعتمل داخله من وقائع وأحداث، واستشرف ما يمكن أن تؤول إليه هذه الوقائع بناء على رؤيته الصادقة وقراءته العميقة لواقعه.

في هذا العام (2010)، يتواصل مشهد المأساة / النكبة، ومازالت فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني، ومازال اللاجئون في المنافي والشتات يلوكون مرارة الهجرة وفقدان الوطن، ويحلمون بالعودة. وقد تأثرت الكتابة الأدبية الفلسطينية بهذا الوضع المأساوي، فأخذ المبدع الفلسطيني يربط بين المسألة الاجتماعية والمسألة السياسية في عمله الإبداعي، لذا غيّبت الروايات التي تناولت النكبة الرمز، فالمعطى الواقعي لا يتقبل الرمزية في الإبداع، حيث كان المبدع مشحوناً بالصور والدلالات والتفاصيل والمآسي والمذابح، فكان لابد من إفراغ تلك الشحونات فنياً وإبداعياً، وحلّ محل غياب الرمز تعبير قوي ومباشر عن النكبة وتداعياتها. وبذلك استطاع الروائي الفلسطيني أن يخلق لغة ووسائل للتعبير، تحمل بصمته أو رؤيته الفردية والجماعية في آن، فهو لم يكتب الرواية من الخارج تصويراً أو تعبيراً أو تخيلاً، إنما كتب من الداخل من قلب المعاناة ومن العيش على أرض الواقع أو من خلال الاكتواء بنارها.

كتب الروائي الفلسطيني منذ النكبة وحتى عام 2010 ما يزيد عن (600) رواية, تناول في نحو 80% منها النكبة وتداعياتها. وتهدف دراستنا إلى إبراز بنية النكبة وتداعياتها في الخطاب الروائي الفلسطيني, من خلال رصد وتحليل مكونات النكبة، في بعض النماذج الروائية.

تفرد النكبة:

يذكر التاريخ أن الاستعمار يعتمد على احتلال قطعة من أرض وطن لأهداف عسكرية أو اقتصادية، ويكون ذلك لأمد قصير أو طويل، وينتهي بخروج هذه القوة العسكرية من الأرض المحتلة، بعدة عوامل منها: استنفاذ غرض الاستعمار، أو تحت ضغوط قوى المقاومة المحلية، أو تحت ضغوط عالمية ترتبط بسياسات الدول الكبرى. أما الاستعمار الصهيوني فهو استعمار متفرد يقوم على الاستيطان وجلب المستوطنين من بلاد أوروبية ليتخذوا من فلسطين وطنا لهم تحت دعاوي توراتية أسطورية، على حساب شعبها الآمن المستقر في هذا المكان منذ آلاف السنين. وهذا ما يمنح نكبة الشعب الفلسطيني خصوصيتها وتفردها عن غيرها من النكبات التي بُليت بها الأمة العربية في فترات الاستعمار أوائل القرن العشرين، أن جوهرها كان قائما على ترحيل شعب وجلب شعب آخر ليحل محله.

وهذه المسألة ـ المأساة - تناولها الروائيون الفلسطينيون كتعبير عن قسوة وظلم ما جرى، وانعكاس لواقع عاشوه أو سمعوا عنه من الآباء والأجداد. فقد جاء على لسان "أحمد" في رواية (الزورق) السؤال الجوهري حول مدى الظلم والاضطهاد الذي حل بالشعب الفلسطيني، فيقول: "... وفي الجغرافيا أيضا، شئ لم يقع من قبل ولا يبدو أنه واقع من بعد، متى وأين حدث أن تم إجلاء شعب من أرضه بقوة السلاح من أجل أن يقيم في تلك الأرض شعب آخر جاءوا به من مشرق الأرض ومغربها". وهذا التفرد جعل النكبة تشكل علامة فارقة وذاكرة لا تمحى في حياة الإنسان الفلسطيني، فأصبح "متشائل" أميل حبيبي يؤرخ بهذا العام لحياته، كيف كانت؟ وكيف أصبحت؟.

الإرهاب والمذابح:

استخدمت المنظمات الصهيونية المسلحة كافة أنواع الوسائل الإرهابية الإجرامية لدفع الفلسطيني إلى الهجرة، من إطلاق النار على السكان، إلى ارتكاب المذابح، إلى التمثيل بالجثث، إلى إحراق الجثث. وخرج الفلسطيني باحثاً عن السلامة والأمان وهرباً من الموت المحقق، وهذا الرعب والخوف جعل الكثير من الناس ينسون حتى أبناءهم، ويحملون بدلا منهم الوسائد. وصور هذا الجانب بكل معانيه الإنسانية وتداعياته غسان كنفاني في روايته (عائد إلى حيفا).

ارتكبت المنظمات الصهيونية المسلحة أكثر من خمسين مذبحة في حرب عام 1948 ضد الشعب الفلسطيني. وتعد مذبحة دير ياسين أعمق المذابح وأشدها خطورة على العرب الفلسطينيين، بل كانت أحد أسباب النكبة المباشرة، إذ قال "مناحيم بيغن" تعليقا على مذبحة دير ياسين: "إنه لولاها لما قامت دولة إسرائيل". ويأتي وصف أحداث وملابسات مذبحة دير ياسين، في العديد من الروايات الفلسطينية فهي كانت الأبرز والمثال لدى الروائي على عنصرية الصهيونية ودمويتها الإرهابية. ترصد رواية (الفلسطيني) ملابسات المذبحة وشهادات حولها، يقول "عيسى" في مذكراته على لسان الراوي: "في خريف عام 1956(هذا التاريخ يعطي دلالة على مذبحة كفر قاسم) دخلت مدرسة فلسطينية كان اسمها "الأليانس" ثم غيروا الاسم إلى "دير ياسين" نسبة إلى القرية الفلسطينية الشهيرة التي ارتكبت فيها المذبحة البشعة .. والتي قال الكاتب اليهودي "ويليام زيكرمان" بخصوصها (أن سرد الأحداث على لسان يهودي تمثل شهادة من أهلها) أن أعضاء "الأرغون" مستعملين السلاح الأبيض والقنابل اليدوية، قتلوا من دون أي سبب (254) فلسطينياً من سكان قرية دير ياسين، ومعظم تلك الضحايا كان من النساء والأطفال، أما الباقون فقد تم نقلهم إلى القدس حيث عرضوا في الشوارع ليبصق عليهم اليهود ... وفي رواية ثانية أن رجال "الأرغون" كانوا يتسلون ببقر بطون الحوامل من النساء ليتراهنوا على جنس الجنين، وأن أحد أولئك الرجال ربح مبالغ كبيرة من رفاقه، لأنه دائما كان يقول "ذكر" وحين يبقرون البطن، ويستخرجون الجنين من الرحم يتبين انه ذكر بالفعل".

هل ثمة بشاعة أفظع من هذا الفعل النازي العنصري؟، وهذه المذابح والجرائم الوحشية هي التي دفعت الشعب الفلسطيني إلى الهروب ناجياً بروحه.

الهجرة والتشرد:

تعد الهجرة ووصف أحوال الناس فيها من أكثر ما تناولت الرواية الفلسطينية التي تطرقت لتصوير النكبة وأحداثها. إن مشاعر الخوف والذعر التي انتشرت في نفوس أهالي القرى بفعل الأعمال الإرهابية والمذابح التي مارستها المنظمات الصهيونية المسلحة هي التي دفعت أهالي "وادي السلامة" للخروج من أرضهم، بالإضافة إلى أهالي القري المجاورة، وهذا ما وثقته رواية (الخروج من وادي السلامة) للروائي زيد أبو العلا. وفي رواية (بيت للرجم بيت للصلاة) للروائي احمد عمر شاهين، وصف لأحداث الهجرة وتشرد الناس: "قصف مدفعي متواصل أيام الاثنين والثلاثاء وليلة الأربعاء، قصف مروع رهيب بكل أنواع الأسلحة، قنابل مختلفة الأحجام، والأصوات تنفجر فوق حي النزهة في مدينة يافا، فتفجر مواسير المياه في الشوارع وتقطع أسلاك الكهرباء والتليفون، وتهدم وتصدع بيوتاً ومحالا تجارية كثيرة، ويخيم الهدوء صباح الأربعاء .. ويهرع الجميع إلى كافة أنواع المركبات، يعتلونها ويسوقونها خارج المدينة على أمل العودة بعدما تهدأ الأحوال، ومن لم يجد عربة اندفع إلى شاطئ البحر ليركب مركب صيد، أو سفينة صغيرة ليبتعد عن هذا الجحيم الذي حاصره. هربوا بأولادهم وبناتهم ونسائهم خوفاً من قصف المدافع ورشق الرصاص والمذابح التي سمعوا عنها، وهتك الأعراض وقتل النساء والأطفال". لا يوجد وصف لتلك الأشباح الهائمة أبلغ من هذا الوصف المأساوي: شعب يشرد ويذبح ويهيم على وجهه، لا يعرف أين المصير؟.

هدم وتدمير القرى:

لم تكتف السلطات الصهيونية بتشريد أبناء الشعب الفلسطيني، بل قامت بهدم قراهم ومدنهم ، لطمس الأثر الوجودي للفلسطينيين، وحتى تقطع عليهم أي أمل بالعودة. وبلغ مجموع القرى التي دمرتها إسرائيل في عام 1948 وبعده حوالي (418) قرية عربية. وقد أخذ الروائيون الفلسطينيون يعكفون على رسم خريطة أرضهم بالأحداث والرجال، وملامح الطبيعة الثابتة حتى الشجرة والتل والنبع والتربة الحمراء والنباتات الحراجية، ما بين أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وما حولهما، ولم تهمل الروايات بقعة واحدة أو مدينة مهما كان حجمها أو أهميتها، وذلك في محاولة منهم للوقوف في وجه الممارسات الإسرائيلية التي تسعى لفرض سياسة التجهيل، وقطع جذور الإنسان الفلسطيني بأرضه، والعمل على تثبيت ملامح الأرض والمكان حتى تبقى حية في الذاكرة.

ومن أكثر الروائيين الذين تتميز رواياتهم بالتركيز على المكان، الروائي "أميل حبيبي"، حيث نجد أن المكان لديه ممتد ومرسومة ملامحه، ليستوعب كل أرض فلسطين: مدنها وقراها وعيونها وطرقها وجبالها وسهولها، وكل ما تحوي تلك الأماكن من بشر وشجر وماء وقنن وخمائل وبيارات، حتى يمكننا اعتمادا على رواية (المتشائل) أكثر من غيرها أن نستخلص تقويما جغرافياً ـ تاريخياً لفلسطين. ففي هذه الرواية يورد عدداً من أسماء القرى التي هدمها الاحتلال وشرد أهلها بكل وحشية وقسوة، وذلك حين التقى الراوي بالأشباح الهائمة في فناء مسجد الجزار بعكا، انهالت عليه الأسئلة المتشابهة، "نحن من الكويكات التي هدموها وشردوا أهلها ...، أنا من المنشية، لم يبق فيها حجر على حجر، سوى القبور، نحن هنا من عمقا، ولقد حرثوها ودلقوا زيتها .. نحن هنا من البروة، لقد طردونا وهدموها".

إن الاستيلاء على الأرض كان هو الطموح الأساسي الذي قامت عليه سياسة الاستيطان الصهيوني قبل وبعد عام 1948، لذلك ركزت سلطات الاحتلال على مصادرة أراضي عرب 48 بعد فشلها في ترحيل أصحابها، وهي إحدى وسائلها الضاغطة والقسرية على ما تبقى من عرب فلسطين بهدف ترحيلهم. ويقدم سميح القاسم في (الصورة الأخيرة في الألبوم) إحصائيات عما كان لليهود من أرض، وما صار لهم من نهب لأراضي العرب ، وهو يحاول أن يقدم الصورة الحقيقية للاحتلال أمام حبيبته اليهودية "روتي" الصورة التي تناقض وتخالف ما لقنوه لها في المدارس والصحف الإسرائيلية.

الدور البريطاني:

إن تهجير الفلسطينيين من أراضيهم وممتلكاتهم بدأ عمليا منذ الإعلان عن قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين في 29 نوفمبر / تشرين الثاني 1947، إحداهما عربية والأخرى يهودية. ومنذ صدور هذا القرار، أخذت المنظمات الصهيونية المسلحة وبالتنسيق مع القوات البريطانية باتخاذ إجراءات ميدانية لتفريغ المناطق المخصصة لليهود من العرب، كمرحلة أولى، عبر عمليات إرهابية وإجرامية متنوعة، ترتّب عليها هجرة بعض الفلسطينيين إلى خارج ديارهم، قبل الإعلان عن نهاية الانتداب.

وقد أشارت رواية (عائد إلى حيفا) للروائي غسان كنفاني إلى تلك الحقيقة ، كما جاءت على لسان الراوي الذي اعتقد أن الإنجليز ما زالوا يسيطرون على المدينة، وأن الأحداث في شكلها النهائي كان مقدّراً لها أن تقع بعد ثلاثة أسابيع تقريباً، حين يشرع البريطانيون في الانسحاب حسب الموعد الذي حددوه. إلا أنه اكتشف مدى التعاون البريطاني ـ الصهيوني في ترحيل العرب، فبعد اشتداد القصف، استطاع أن يميز جنوداً بريطانيين يسدون بعض المنافذ ويفتحون منافذ أخرى. وكانت كل المنافذ المفتوحة تؤدي إلى الميناء ـ البحر".

المسؤولية الدولية ووكالة الغوث:

لقد خرج الفلسطيني هائماً باحثاً عن المأوى، يعاني ذل التشرد والضياع، فقد ضاعت فلسطين واحتلها الصهاينة، "وأعطوا الفلسطينيين بدلا منها خيشاً ومخيمات وإسطبلات". وكونت الأمم المتحدة وكالة غوث اللاجئين لتقديم المساعدات للشعب الفلسطيني، "فالأمم المتحدة وافقت على تشريد الفلسطينيين، ووافقت بالمقابل على تعويضهم عن الوطن والأرض والعلم والهوية، ببعض الطحين وزيت السمك وبعض الهدايا". إن الأمم المتحدة ومن قبلها عصبة الأمم، والهيئات الدولية الأخرى، ليست بريئة مما حدث للشعب الفلسطيني عام 1948، فهي التي شرعت وقننت الانتداب البريطاني وأقرته على أفعاله ومساهماته في تثبيت أقدام الحركة الصهيونية في فلسطين، على حساب شعب آخر عاش منذ فجر التاريخ فوق أرضه.

تأثيرات الهجرة:

إن ما فعلته الهجمة الصهيونية الإرهابية ضد شعبنا أنها غيرت حياة الهدوء والاستقرار لديه إلى حياة التشرد والإهانة ، فيصف أميل حبيبي ما حدث للفلسطيني قائلاً: "بعد النحس الأول في سنة 1948، تبعثر أولاد عائلتنا أيدي عرب، واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لم يجر احتلالها، فلي ذوو قربى يعملون في بلاط آل رابع في ديوان الترجمة من الفارسية وإليها، وواحد تخصص بإشعال السجائر لعامل آخر، وكان منا نقيب في سوريا، ومهيب في العراق، وعماد في لبنان" (34). لقد توزع الفلسطينيون وتشتتوا في كافة الأصقاع ، وكانت جموع اللاجئين مثل القطار، كما شبه "حسن يوسف" في رواية (الفلسطيني) رحلتهم المأساوية، فيقول: ".. بعد الرعب كان قطار، وكان لاجئون، أما اللاجئون فلاشك في أنهم أبناء فلسطين، وأما القطار فلا أعرف هويته، ولا أعرف في أية أرض كان يتدحرج: في لبنان، في سورية، في الأردن؟ لا أعرف". ومع قطار الفاجعة بدأ الحد الفاصل بين الزمنين الفلسطينيين، زمن الوطن وزمن الشتات.

وأخذ عمق المأساة يتضح من خلال التفريق الذي أحدثته النكبة بين الأهل: الأخ وأخيه، والزوج وزوجته، والابن وعائلته. فيذكر أميل حبيبي في (السداسية)، كيف أن أولاد الحارة كانوا لا يعرفون لـ "مسعود" أعماماً وأخوالاً ويتصورون أنه مقطوع من شجرة، هي عائلة طالعة من الحيط لا خال ولا عم ، لان عائلته مهاجرة وتعيش بين عائلات من حمولة واحدة، لهذا كانت الدهشة والاستغراب حين عرف الأولاد أن لمسعود أقارب يسكنون الضفة الغربية". وفي (طبرصف والزينبية) للروائي عدنان عمامة، يشير إلى افتراق الزوجة عن زوجها، يقول على لسان إحدى الشخصيات عندما عادت من الناصرة إلى طبرصف لأخذ بعض الأغراض: "لا أنسى حبوبة عام 48 عام الخروج إلى بلاد الله الواسعة، هرعت إلي وصاحت، أين .. أين حمودة (زوجها)؟ .. ظلت حبوبة تسأل كل واحد تراه من أهل طبرصف وهو مغادرها، أين حمودة .. أين حمودة .. لا أحد يعرف أين حمودة".

الأحوال بعد التشرد (الخيام والمخيمات):

تغيرت أحوال الفلسطينيين بعد التشرد من ديارهم، فقد أصبحوا لاجئين يسكنون الخيام والمخيمات التي أقامتها لهم وكالة الغوث (الاونروا) في أماكن لجوئهم، بعد أن كانوا أصحاب بيوت وأراضي، وتميزت حياتهم بالقسوة والبؤس الذي لا مثيل لهما إطلاقا. وكان من الطبيعي أن تنعكس هذه الحياة القاسية للاجئين على الكتاب الفلسطينيين وخصوصا أن أغلبهم عاش في المخيمات واكتوى ببؤس الخيام، فنجد صدى واسعا لها في الرواية، سواء بصورة مباشرة تصف حياة البؤس والشقاء وما يعانيه اللاجئون في حياتهم، أو معالجة بعض المشاكل والقضايا الاجتماعية التي ترتبط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية للاجئين سواء في المخيمات أو خارجها.

ترصد رواية (بيت للرجم بيت للصلاة) للروائي احمد عمر شاهين، أحوال اللاجئين بعد لجوئهم إلى الخيام، قائلة: "كان الجامع الوحيد في خان يونس ممتلئاً بالعائلات فذهبنا إلى مدرسة في شمال البلدة، وجدنا في كل غرفة خمس عائلات أو أكثر يفصل بين كل عائلة وأخرى كيس من الخيش، فرد على شكل ملاءة ومعلق على حبل، وحول المدرسة وفي حوشها تكدست خيام صغيرة كأخمام الدجاج فأكبر خيمة كانت في اتساع كيسين من الخيش وفي علو متر، أحد أطرافها مربوط بمسمار مدقوق بحائط المدرسة الخارجي أو دورة المياه، والطرف الأخر مربوط بوتد مدقوق في الأرض، يدخلها الناس زحفاً كالحيوانات .. خرجت أتفقد المكان وأبحث عن طعام، عائلات بأكملها تقيم تحت الشجر، وكثيرون يتسولون، كانوا يوزعون عليهم بمعدل رغيف واحد للفرد كل أربع وعشرين ساعة، رأيت مناظر أبكتني وأوجعت قلبي، صغار وكبار يأكلون قشر البطيخ، كقوتهم الوحيد، وينامون في العراء دون غطاء .. قرب المدرسة كان هناك معسكراً آخر من الخيش، تصليه الشمس ناراً حامية، يعجنون بعض الطحين ويخبزونه على نار الحطب التي يتصاعد دخانها إلى عنان السماء يعمي البصر ويزيد من حرارة الجو .. حتى الخيش الذي أعطوه لهم ليجعلوه ستاراً لدورات المياه وجدوا أن دفع غائلة الموت عنهم أولى من ستر العورة، فصنعوا من الخيش فراشاً وأغطية لأطفالهم ونسائهم ويقضون حاجتهم في العراء".

هذا ما آلت إليه أحوال الفلسطينيين بعد تشردهم من أرضهم، يعيشون في الخيام والإسطبلات والكراجات والطرقات والمدارس والمساجد ينتظرون المعونة، والطائرات الصهيونية تلاحقهم أينما كانوا لتقضي على من تبقى منهم. ومن أثار الظلم والعدوان الذي حل بالفلسطيني خلال تلك المرحلة أنه: "لم يحدث (كما يقول حسن يوسف في رواية الزورق)، أن وضعت امرأة فلسطينية مولوداً في مستشفى، لقد جاءوا أطفال تلك المرحلة في الخيام والإسطبلات والمستودعات والأقبية، جاءوا حتى في الطرقات العامة وخلف الأشجار وتحت القناطر في الحقول، أما أولئك الذين ولدوا في مسجد أو كنيسة فقد كانوا من المحظوظين".

وفي أوائل الخمسينيات قامت وكالة الغوث بتحويل الخيام إلى مخيمات دائمة لإيواء اللاجئين، وهي عبارة عن بيوت مربعة أو مستطيلة تتكون من غرفتين أو ثلاثة وذات سقف من القرميد، والبيوت متلاصقة تتخللها شوارع ضيقة لا تتجاوز المترين. وترصد رواية (الطوق) للروائي غريب عسقلاني الصورة الواقعية لمخيمات اللاجئين من خلال نموذج مخيم الشاطئ في قطاع غزة: "... وبيوت المخيم المتراصة كعلب الكبريت غيبت الآدميين في جوفها حتى الانتفاخ، فيما راحت رياح تشرين تصفر جدران الأزقة الضيقة، تصفر ... تتلوى أصوات شيطانية حول السقوف الواطئة، تغربلها شبابيك الزينكو وفرجات القرميد فحيحا جليديا، يجثم على الأجساد المحشورة في الغرف، تتلوى الأجساد وتتقلص على ذاتها .. تقنع الرب الذي في السماء .. بإمكانية تحولها إلى ديدان تجيد الاختفاء في عروق الأرض".

هذه الأوضاع البائسة والمزرية من الطبيعي أن تخلق مشاكل وقضايا اجتماعية عديدة سببها الفقر والأوضاع المعيشية الصعبة في المخيمات. فإذا كان "الغاوي" في (الطوق) طلب من زوجته "إلقاء الأولاد في الشارع نتيجة ضيق المكان وإحساسه بأنه يعيش في سجن لا بيت". إلا انه شعر بمرارة الواقع الذي يحياه، حين أراد أن يعزل ابنته سعدية عن أخواتها فلم يجد لها مكانا إلا غرفة المطبخ"، فالبيت ضيق ولا يمكن توفير غرفة جديدة. وثمة قضايا اجتماعية أخطر تتعلق بالتغيرات التي أحدثتها النكبة وسكنى المخيمات وممارسات الاحتلال على نفسية الإنسان الفلسطيني . فثمة من يتغلب على قسوة الواقع الاجتماعي ويحاول أن يحقق وجوده الإنساني بطرق ايجابية كالمقاومة أو التعليم أو العمل الشريف ، وثمة من ينهزم أمام هذا الواقع القاسي ويلجأ إلى أساليب غير شريفة ليحقق وجوده كالعمالة أو السرقة أو الخيانة. وهذا ما استعرضته رواية (الذين يبحثون عن الشمس) للروائي عبد الله تايه. إن المداد لا ينفذ إذا أردنا أن نتناول أوضاع اللاجئين في المخيمات، والمشاكل والقضايا الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية التي يعانون منها، وهي من أكثر الموضوعات التي تناولتها الرواية.

تهويد المكان الفلسطيني:

تحاول سلطات الاحتلال الصهيوني بأي شكل من الأشكال استفزاز العربي في كل خطوة يخطوها، من خلال ما يلاحظه من تغيير في الأسماء التي تعودها. فقد أخذت إسرائيل منذ أيامها الأولى في تغيير أسماء المدن والشوارع والساحات بأسماء عبرية وأجنبية، بهدف إضفاء الطابع اليهودي ـ التوراتي على المكان. لهذا أصرّ الروائي الفلسطيني على تحدي الإجراءات الصهيونية، التي تسعى بكل جهدها إلى تهويد المكان وتغييب الهوية الوطنية والحضارية للشعب الفلسطيني، إلى تسجيل التغيرات التي أحدثتها الصهيونية على المكان الفلسطيني وإبراز الاسم العربي الفلسطيني للمكان ليبقى خالدا في الذاكرة. فيعيد "أميل حبيبي" في (المتشائل) للمكان هويته الفلسطينية. ويصر في رواية (أخطية) على استعادة كل ما يتعلق بحيفا قبل عام 1948، وينطلق في هذه الاستعادة من حنين كبير إلى حيفا أيام العرب، بسبب إحساسه بالفارق الكبير بينها وبين حيفا اليوم، والتي يغير فيها الاحتلال كل شيء: من الشكل حتى الأسماء، وحتى المعالم التاريخية والدينية والطقوس الاجتماعية". وكذلك قرية "أم العين" الواقعة على الحدود، والتي احتلها الإسرائيليون عام 1948 وأخرجوا سكانها منها أبدلوا اسمها، فأصبح رامات يوسيف" هذا ما يشير إليه جبرا إبراهيم جبرا في (البحث عن وليد مسعود).

حنين العودة:

يبقى حنين الفلسطيني إلى العودة لأرضه متواصلاً لم ينقطع حتى وقت الهجرة والفعل القسري، لذلك يحاول دائماً العودة، إذا ما سنحت له فرصة، وكانت سلطات الاحتلال تقتل كل من يحاول العودة، أو تعيده ثانية خارج الحدود. يذكر أميل حبيبي على لسان (المتشائل) عندما خرج مع الحاكم العسكري إلى عكا في سيارة الجيب، ما وجدوه في الطريق الترابي بين أعواد السمسم، يقول: "وما إن مرت بضع دقائق حتى أوقف الجيب فجأة، وانطلق منه كالسهم، وقد أشرع مسدسه ثم اخترق أعواد السمسم وكشفها ببطنه، فإذا بامرأة قروية مقرفصة ووليدها في حجرها وقد رأرأت عيناه، فصاح: من أية قرية؟ فظلت الأم مقرفصة تطل عليه بنظرات شاخصة مع أنه كان واقفاً فوقها كالطود، فصاح: من البروة ؟ فلم تجبه بعينيها الشاخصتين، فصوب مسدسه نحو صدغ الولد، وصاح: أجيبي أو أفرغه فيه ..، وأما المرأة فقد أجابته هذه المرة: نعم من البروة، فصرخ: أعائدة أنت إليها؟ فأجابته: نعم عائدة، فصرخ: ألم أنذركم أن من يعود إليها يقتل؟ ألا تفهمون النظام؟ أتحسبونها فوضى قومي أجري أمامي عائدة أي مكان شرقاً، وإذا رأيتك مرة ثانية على هذا الدرب، لن أوفرك". وإذا لم تستطع ابنة البروة العودة إليها، فهذا العجوز ابن قرية دير سنيد يوصي حين موته أن يدفن في تراب قريته، كما جاء في (الآخرون) لأحمد عمر شاهين، فالحنين إلى الأرض يبقى مشتعلاً، ولعل الدفن تحت رمالها يطفئ لهيب الحرقة والألم.

الصمود والمقاومة:

إن البقاء والصمود في الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال هو قمة المقاومة، فالاحتلال الصهيوني سعى بكل أساليب القمع والإرهاب إلى دفع ما تبقى من الفلسطينيين إلى الهروب خارج الأراضي المحتلة، ولكن الفلسطيني في المقابل تحدى القمع بالمواجهة والصدام مع المحتل بكل الطرق والوسائل المتاحة، من الصحيفة إلى المنشور إلى القلم إلى الكتابة على الجدران إلى امتشاق السلاح. وعندما سعى الفلسطيني إلى قتل اليهودي يفعل ذلك من مستوى العقوبة أو الثأر ـ الفعل من جزاء العمل ـ ممن اغتصب الأرض وصنع المذابح ونشر الدمار، وليس من مستوى عداء الدم أو الكراهية الفطرية. فهذه "هناء الغزاوي" في (حفنة رمال) لناصر الدين النشاشيبي، تجيب الضابط المصري عن سبب وجودها في السجن، تقول: "أنا هنا لأن بلدي لم يعد هنا .. إن جريمتي تمشي مع جريمة غيري، عندما حاول أن يغتصب مني أرضي، قتلته، أجل قتلته .. بعد أن قتل هو أيضاً ولدي الوحيد الذي رفض أن يبيع لهم الأرض التي استولوا عليها بالقوة، إن ضحيتي هو مغتصب وطني .. هو قاتلي". وفي الرواية (الآخرون) يتضح من خلال الحوار الذي دار بين "ناتالي" الفرنسية، والمثقف الفلسطيني رجل الإعلام في باريس، مدى التضليل الذي تمارسه الدعاية الصهيونية في المجتمع الأوروبي وانعكاسه على أفراد هذا المجتمع، وتأثيره في سلوكهم، ولكن حينما تتواجه مع الفلسطيني في حوار صريح، وتكتشف "ناتالي" أبعاد المؤامرة توافق الفلسطيني على أفعاله تجاه من سلبوه أرضه ووطنه.

إن المقاومة لدى الفلسطيني ليس من أجل القتل، وإشاعة جو من الفوضى والإرهاب كما فعلت المنظمات الصهيونية المسلحة، إنما دفاعاً عن الحق والأرض، ودفاعاً عن الحياة التي تحاول الصهيونية سلبها من الإنسان.

بعد هذه البانوراما التراجيدية لنكبة الشعب الفلسطيني، لا ندعي أننا قدمنا كل النكبة وتداعياتها كما رصدتها الرواية الفلسطينية، إنما بعض ملامح ما فعلته الهجمة الصهيونية الشرسة والوحشية ضد شعبنا، بهدف التأكيد على أن الرواية الفلسطينية لم تكن بمنأى عن الواقع الفلسطيني وعن قضية اللاجئين وحق العودة.

ناهـض زقـوت

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى