الأرض
تنتفض عندما تسمع الخبر، تتشنج كلّ أجزائها، ترتمي على الأرض، الدموع تنهمر سواقي غزيرة، الذاكرة المطفأة تتقد، والحلم القديم يتحقق تنفجر الينابيع ويذوب الثلج عن القلب المجمد.
لا تزال في غرة الشباب.. رفيقات العمر، الدبكة، ليلة الحناء، الهوارة.
كل هذه الأنغام تمر مثل نسمة ناعمة، تداعب أيام الصبا و (ذيب المكسور) يصدح بصوته الشجي:
( شوفن الـعرج يوجـن وج وع الصوابر شكنا
والبزاز أحجار ألماز أنا المعتاز إن صار لنا )
ومجوز ( عبد الرحمن الوني ) يذبح قلوب العذارى.
أضطرب قلبها وتلجلج في الصدر.
منذ أن عرفته أصابتها حُمْى الحب، ( اصفرار وحرارة وفقدت شهيتها لتناول الطعام، وشرودٌ في الذهن...)
هي تصنع مع فارسها قصراً أكبر من قصر بلقيس َ، والغجريات والجواري يرقصْن
بينما الخصيان ينحنون إجلالاً للملكة التي تربعت على العرش.
مع أنني رأيتها مراتٍ، غير أنّ صورتها تلك انحفرت في مخيلتي منذ اللقاء الأول
ولم تبرحها قط، ويخيل إلي أن إطلالتها البهية لن تبهت حتى لو كان ذلك اللقاء الوحيد.
تختلف عن كل نساء الدنيا بأن حضورها طاغٍ.
وجه فيه سمنةٌ لا تؤثر على تقاطيعه الناعمة ولا تحرمها جمالها، ويتميز الوجه الذي احتفظ بشيءٍ من بياض البشرة – رغم لسعات شمس الغور – التي جعلت منه مائلاً إلى السمرة. يمتاز بكرسيي الخدين البارزتين و( غمازةٍ ) تحت الذقن مزينةٍ بوشمٍ على شكل سيالةِ، ويتلألأ سن الذهب في فمها. وعينان عسليتان تفضحان شخصيتها القوية المعتزة بنفسها.
عندما تتحدث تأسر سامعيها.
الملكة بلقيس وقوتها وقسوتها، لكن أية ملكة هذه الني تخرج من الطين ؟!
وجهٌ شاحبٌ مصفرٌ، أرديةٌ مغبرةٌ، وقدمان تحملان ما علقَ من تراب الأرض
امرأة مختلفةٌ تماماً، لكن ملامح الوجه هو.. هو لم تتبدل، مازالت عيناها تجهشان بالبكاء والنفس تنوء بأحمال تقصم الظهر.
تنهض،رغم أن الخبر لم يتأكد بعدْ. تنهض ، تصرخ بأعلى ( حسها :(
( يا ويلي من بعدك يا بعد عيني، مين بعد يكفكف دموعي )
ترمي العصبة على الأرض ونثر شعرها الأسود الطويل.
من السهل على من يراها في هذه الصورة أن يكتشف أنها كانت فيما مضى امرأة مليئة بالفرح والرقة لكن القدر بدد فرحتها وغدت البهجة البريئة عذاباً .
– لا يستطيع أحد أن يحزر كم أحببته ، ولا يمكن لأي مخلوق على وجه الأرض أن يتصور الدفء الذي ملأتني به لذة العناق " هل تستطيع امرأة أن تترك شفتها في فم رجلها أكثر من ساعة ؟! .. أنا فعلت ذلك غنيت له :
جفرا وهيا لربع وتصيح يا محمود
أربع جدايل شكر وأربع جدايل سود
ورقصت له على ضوء القمر في ليالي الحصاد ، كنت رفيقته الوحيدة ، اصطدنا السمك من طبرية .
منذ ثلاثين سنة ، ليلة ذهبت معه ، أتذكرها الآن وكأنها اليوم ، مشينا من ( الطواحين ) حتى
( المسعدية )
كانت رائحة عرقه تغريني ، وضعت يدي على صدره تحت القميص – تلمست الشعرات – غنينا ، ضحكنا وعندما تعبنا جلسنا تحت السدرة الكبيرة ، داعبت يداه شعري أسندني إلى جذع شجرة تين ، هائلة الحجم ، ضمني إلى صدره ، وانصهرنا في جسد واحد ، ثم قبلني من جبيني ، خجلت ، وقمت راكضة ، بقيت أركض وهو يتبعني حتى وصلنا إلى ( المسعدية ) .
رجل وامرأة وضوء القمر ... وعلى طول الطريق وأن أغني .
في الطريق أوقفنا أحد الدرك ، كذبت عليه قلت (هذا زوجي ) وأعطى الدركي خمس ليرات ولف له سيجارة وفل .
يرتجف جسدها وهي تسمع الخبر الأكيد " إذاً صحيح ما سمعناه "
لغو وهمسات ، وضرب الكف بالكف ، ثم تحمل ذاكرتها المتقدة ، تحلم من ليلتين بأنها تغرف الماء من ( الشريعة ) بيديها دون أن ترتوي .
– لأدري كم من الوقت مرَّ ، ومع ذلك تأججت نار الشوق في قلبي ، حين قلت لها : " لابد من ذهابي إلى الشام ،أُحضر لك ثوباً جديداً من دكان ( يوسف جراد) .. غرقت عيناها بالدموع ، وفردت ذراعيها واحتضنتني : " اشتاق لك إن غبت لحظة عن عيني ، لا تتأخر يا بعد قلبي "
قالتها وهي تحيطني بمودتها ودفئها ، ثمّ تأملتني وهي تتحسس شعري ، جبيني ، شفتي ، قبلتها ومضيت دون كلام .
كنت كلما أغمضت عيني في شاحنة " فوزي " تراءت لي في ثوبها الشفاف المشجر بنمنمات بديعة ، بفراشات وورد ، ترقص وتغني .
لم أشعر بالمسافة التي قطعتها الشاحنة حتى وصلت إلى الشام .
نزلت في الحلبوني راحت عيوني تمسح الشوارع ، الحوانيت تضج بالزبائن والملابس والأحذية .
الأضواء تزين واجهات ( المحال ) ... الشام حلم حياتي اشتريت الثوب من سوق الحميدية و ( تفتلت) في شوارعها النظيفة ، وعندما عدت إلى الكراج ، ينقطع الطريق ، جنود يركضون ، طائرات تحلق في السماء وشوارع الشام تخلى من أهلها إلاّ بعض أشخاص تجمعوا في مقهى الحجاز حول مذياع .
وتدوي في أذني صدى صوت المذيع .. يصطدم في جدران قلعة دمشق ويعود : "... جنودنا البواسل يستبسلون في تل الفخار ويتصدون لهجوم العدو المكثف الذي شنته طائراته ظهر اليوم على مواقع في الجولان " .
ورحت كالمجنون أركض والشام تركض خلفي ووشاح الحزن يلفها ، والعيون شاخصة . حاولت بلع ريقي فلم أستطيع . الحزن يقلعني من جذوري ، وتباريح الشوق تبكيني ... أرفرف كالدوري ، لكني أعجز عن الطيران ، مضيت أجر الخيبة خلفي وصورتاه تطبق عليّ ، رأيت نساء كثيرات لكني لم أرَ واحدةً تشبهها .
امرأة بكامل أنوثتها ، جسدها المرن الذي يهتز كلّ جزء بحركات خصبة والصوت الدافئ الذي يبعث في النفس الهدوء والطمأنينة .
أذبل أهدابي فأجد دماء وأشلاء وصوتها وسط الركام ينبعث ، ينادي ، امضي ، أقطع كلّ الفضاء
أبحث في شراييني عن الصوت فأجد السراب يطاردني .
المشهد ذاته عندما أغار الصهاينة ذات مرة على ( الزويّة ) قتلوا الصيادين في البحيرة ومن يومها منعنا من الصيد .
الشام بأسرها لا تستوعب غيضي الدم يغلي في رأسي .
عندما وصلت مخفر ( أم الشرايط ) أقلتني سيارة عسكرية متوجهة إلى القنيطرة . لكنها توقفت عند مفرق ( أم العظام ) . بحثت بين الوجوه عن واحد أعرفه ، فلم أجد ، إلاّ الجنود بأسلحتهم المتنبهه وخطواتهم المحاذرة .
هذه المرة ليست مثل كلّ مرة !!
بدأت أثار المعارك التي وقعت قبل قليل .. شظايا مبعثرة .. نثار الزجاج المكسر .. دوائر حمراء لا يزال فيها دفء .. فراغ وصمت يسكن القنيطرة . وأشجار البلوط تنكس رؤوسها كان كلّ هذا إشهارا بأن القنيطرة (سـ .. قـ .. طـ .. ت) وبأن الأمر مختلف عما كان يحدث فيما مضى .
في العمق كانت عصابات الخنازير الصهاينة قد نصبت الحواجز على طريق ( التابلين ) و(الجوخدار)
و( جسر بنات يعقوب ) وهم يفتشون الخارجين واحداً.. واحداً . ولم تسلم السلال والصرر وقد بعثرت محتوياتها على الطريق في فوضى .
أطفال يصرخون ، ونساء ترفع أياديها إلى السماء تدعوا وعيون متوسلة ، فلا يتلقون إلاّ الزجر والشتائم الوقحة .
سألت عنها فأخبروني أنها رفضت المغادرة .. أسرع بالدخول خلسةًً أصل قرية ( الدردارة )
جنود العدو ، جمعوا أهل القرية .... " كنت مختبئا على بعد أمتار أراقب "
خاطبهم أحد الملاعين ( بلسانه الثقيل) :" أحضروا أسلحتكم وعليكم الأمان "
راح ( حسن الذياب ونايف المقبل ) وآخرون وأحضروا أسلحتهم .
وجد الضابط طلقة في إحدى البندقيات ، طلب منهم أن ينضموا إلى البقية ، ثم أطلق النار على جميع أهل القرية من فوهة رشاشه .
قُتل كل أهل القرية ومن بينهم ( أمونة ) .
ركض مثل البرق على الضابط الإسرائيلي خطف رشاشه وبطريقة عشوائية بدأ يطلق النار في كلّ الاتجاهات أصاب ما أصاب وقتل ما قتل لكن طلق جاءت من اتجاه البحيرة لتمزق قلب ( محمود اللافي)
لتمتزج مزركشات الثوب الأبيض الجديد بقطرات دمه المتوهجة .
بينما سالت بقعة أخذت تكبر وتكبر وامتدت حتى أغرقت ( أمونة)