الأطفال والإسطوانة
الطفولة في نظر علماء التربية مرحلة هامة في تاريخ البشرية، لان قابلية الطفل واستعداده لقبول الأفكار، أو رفض ما يحيط به من معتقدات، وطبائع، وعادات شديدة التأثير. لذلك فإن ما يقدم للأطفال الصغار من غذاء فكري، وزاد ثقافي يشكل الأساس الذي يحدد شخصية الأمة وتكوينها فيما بعد. وهذا ما حدا بأحد المفكرين إلى القول: (كيفما يكن الأطفال تكن الأمم وترتسم).
من هنا تبرز أهمية الأمة الرشيدة والشعوب الواعية التي تنظر إلى أطفالهانظرة ملؤها الرجاء والتمني من أجيالها القادمة، وتسعى إلى الاهتمام بثقافتهم، وتسعى أيضاً لتوجيههم التوجيه الحسن حتى تضمن لنفسها حياة حرة كريمة ومستقبلاً سعيداً، لأنهم سيحملون راياتها، ويرفعون بيرقها عالياً علماً وعملاً.
فالمستقبل قد يكون سيئاً وسلبياً ومدمراً أو قد يكون وردياً على الأمة. فإذا تركت البراعم دون توجيه، واهتمام كبيرين. فتنبت الزهور الناضجة والمعطاءة، والبراعم المتفتحة أشواكا جارحة قاتلة ومخربة . بدلاً من أن تكون مشرقة وموردة في دوحة الوطن الممتد تاريخاً عريقاً.
من هنا تبرز أهمية اعتبار الطفولة بكل أعمارها، هي المرحلة الأساسية التي تسبق في عملية بناء الأوطان، لان الأطفال هم عماد الأمة، وأمل الدول النامية، وغد الإنسانية المشرق.
فمن الأطفال من يصبح معلماً يبني الأجيال ويغذي العقول، أو مهندساً يعمر الأوطان والبلدان، أو طبيباً يحافظ على صحة العاملين ويداوي المواطنين، أو محامياً يدافع عن حق وطنه وأبناء شعبه في المحافل الدولية، أو غير ذلك ممن يعملون على حمل أمانة شعوبهم، وقضايا أمتهم.
ولهذا فإن ثقافة الطفل تمثل جانباً هاما وحيوياً من مجالات العناية بالبراعم الصغيرة التي تكوّن مستقبل الأوطان في الدول. والاهتمام بالفراشات الملونة التي تشكل أمل الإنسانية في العالم. لان أهم أمثولة يتعلمها الطفل خلال عمره هي كيف يسلك سلوكاً سليماً في مجتمعه، وبين أترابه. إذ ليست مراحل التعليم والتدريس والثقافة إلا مجرد وسيلة تؤدي إلى هذه الغاية. إذ ما الفائدة من كلّ ذلك إذا كان الطفل يمج مجتمعه، ويكره الناس، ويجد صعوبة في السلوك بين المواطنين، وفي ممارسة العمل الذي يناط به.
من هذا المنطلق بحث التربويون عن وسيلة يتقربون بها نحو الطفل، صانع المستقبل , وتجيز لهم الدخول إلى عالمه بغية تهذيبه، ونقل المعارف إليه، وزرع الأفكار في أذهانه، وتخلقه بأخلاق مجتمعه. ثم الأخذ بيده نحو الطريق السليم بعيداً عن الجنوح، أو الوقوع في مستنقع الجريمة.
فالتركيز على مشاعر سمو الأمة في وجه أعدائها الطامعين بها، والرقي النفسي والأدبي للأطفال يغني ويعلي المجتمع بكل شرائحه المتعددة.
فإغناء ثقافة الأطفال هو في حقيقته الأمر أغناء للأمة العربية بكاملها قوة ونضوجاً، حاضراً واستمرارا لمستقبلها. لأن الطفل الابن الشرعي لأمته حيث أن المستقبل يرتكز على الحاضر القائم، الذي ولد من رحم الماضي القديم. فبذلك تضمن الأمة وجودها على أصالتها الحقيقية دونما تغريب بين الأمم الأجنبية، أو الهبوط في مستنقع الانهيار والتشرذم والموت. وهذا ما يريده أعداء أمتنا العربية لنا. ولهذا فإنهم يحاولون دفع الأطفال للتبرؤ من ماضي أمتهم، والتعلق بالثقافات الوافدة حتى تتم عملية التغريب الفكري، ويسقط الخندق الأهم ويضمحل ويتبعثر. وعندها تذوب الشخصية الذاتية للأمة العربية. وهذا ما نراه من محاولات الأعداء والطامعين بنا.
فكان الوسيط الذي يقوم بالدور الرئيسي في نقل مغزى القصة الهادف، وهدفها المتميز، والفكرة الناضجة، والقيمة السامية، العليا، والمعتقد الذي نحمله من تاريخنا التليد. فالوسيط يحمل الرسالة أياً كانت، ويضفي عليها ألواناً من الأحاسيس , والتشويق الذي يجعلها أكثر قرباً من الأطفال، كما يجعلها أعمق أثراً وأبقى تأثيراً في نفوسهم.
كما أن القصة الناجحة تنشئ الصغار وتربيهم على حب المعرفة الغنية، وعشق العلم المتجدد، وتمثل الثقافة الأصيلة. فتتحول أهداف الكتابة من إطار نظري بحت إلى سلوك واقعي وحقيقي، وتتحول المعرفة الحية إلى تطبيق يمارس، وتتحول الثقافة العربية إلى حياة حقيقية في المجتمعات. وتجعل الأطفال يرتبطون بالفكر العربي وثقافته ارتباطاً ذاتياً. وعندها ستجد الأمة نفسها ؛ أمة متعلمة وعالمة وقادرة على بناء مستقبلها الجديد الذي ترنو إليه بشغف، وتتطلع إليه بأمل كبير. وبصفاء عال، وشفافية صادقة، واستقامة دون اعوجاج، واستمرار لماضيها .
فالجدة كانت الوسيط الأقدم من خلال صوتها الدافئ، وحضورها الجميل، وهي تروي الحكايات، غير أن هذا النوع من الوسائط بات محدود الإمكانية، وبات ضعيف التأثير لأننا أصبحنا في عالم واسع لا يحده حدّ، ولا يقف بوجهه حاجز.
فولد الكتاب وكان أكبر عدداً، وأكثر انتشاراً. ثم جاءت المجلة التي أصبحت صديقة الأطفال، وحديقتهم بكل ما فيها من ألوان خلابة , وقصص جميلة. ثم جاء التلفاز وما يتميز به من جمال أخاذ، وسحر كبير يؤثر الألباب.
وأخيراً جاءت الأسطوانة بكل ما فيها من قوة، ورباطة جأش، فلم تعد كما كانت سابقاً قطعة جامدة لا تفاعل فيها، إنما تزاوجت مع بقية الوسائط الفنية والثقافية والإعلامية وأخذت بل سرقت منها كل المميزات الجذابة، وجل الخصائص الفنية، والمؤثرات الصوتية والموسيقية.
وباتت اليوم بعد انتشار الكمبيوتر والحواسب وسيلة هامة، بل من أهم الوسائط لأنها أصبحت كتاباً ناطقاً تسمعه أينما تشاء، ومجلة ملونة تقلبها حيث تشاء، وصحيفة تقرأها في كل الأوقات. وإذاعة تسمعها وتطرب لها، ومسرحاً تختار الذهاب إليه في أي وقت، وشاشة مرئية ملونة بالكلام، ومحلاة بالموسيقى، وساحرة بما تضم من باقات وأضواء. فهي قد استحوذت على كل الوسائط، واستفادت منها كلها إلى أبعد الحدود ووضعتها في جعبتها الممتلئة.
فالطفل لم يعد كما كان سابقاً يجلس في موقف سلبي مما يشاهده، أو يسمعه، أو يقرأه. فقد بات اليوم فاعلاً وفعالاً، ومؤثراً ومتفاعلاً فيما تحويه الاسطوانة التي يستخدمها مع مساعدة شريكها الكمبيوتر. فهو يقلبها كيفما يشاء, وفي أي وقت يشاء من خلال أنامله الغضة. لأنها باتت تحمل برنامجاً معداً إعداداً مركزاً يعتمد تطوير المهارات الذاتية لفئة الأطفال, لتزويدهم بالثقافة العامة الأدبية والعلمية، والمعلومة الجديدة عن العالم الجديد، والواسعة ببعد المشرق وعن المغرب، وذلك بأسلوب رشيق وجذاب وحوار تفاعلي، وضمن برامج متعددة ومتنوعة بدءاً من الألعاب وحتى أعلى المستويات العلمية الطبية والهندسية.
لقد سرقت الاسطوانات كل المميزات من أخواتها الوسائط ( التقليدية ) إن جاز التعبير، وتطورت إلى أشكال غاية في السمو، وتوسعت بمساحات لم تكن في الحسبان. وأصبحت ملكة أجهزة الكمبيوتر ولا يمكن الاستغناء عنها أبداً، وحتى أنها مايسترو وسائط الاتصال الحديثة وشاشاته وبرامجه وتسلياته وعلومه، وحتى أوراقه التي يحفظ بها جلّ المعلومات بدءاً من جدول الضرب والقسمة والجمع والطرح والحروف الأبجدية، وحتى آخر الأسرار العسكرية.
فهل فكرنا في توفيرها مع الكتاب المدرسي و الكتاب الثقافي باعتبارها أصبحت مرافقة لما وجد حديثاً في العالم و يدعى ( التعليم المبرمج )، كوسيلة تنشيطية ومساعدة في التعلم والقراءة، خاصة وأن وزارات التربية والثقافة والإعلام في كل الدول العربية باتت تخصص كل عام شهراً للكتاب، وأسبوعاً له، وأياماً للثقافة العامة، ولمجلات الأطفال، وتطرح شعارات القراءة للجميع، والكتاب الرخيص في متناول اليد وغير ذلك من الشعارات الرنانة التي تساهم في إعادة نهج القراءة لما كان سابقاً.
لكن ينبغي الانتباه إلى أن هذا الأمر قد تغير وتبدل. فالقراءة لم تعد كما كانت قديماً، فقد تطورت وأخذت سبلاً جديدة، وطرقاً عديدة تتماشى والحياة الجديدة التي دخل عليها تغييرات كثيرة أيضاً ساهمت بشكل أو بآخر في تغيير عملية القراءة أيضاً.
فالكتاب لم يعد ورقياً مطبوعاً بأحبار سوداء من الداخل، وبغلاف ملون، ولم يعد يأتي من المطابع ذات الأصوات الهادرة، وعبر رفوف المكتبة العالية، إنما هو فوق هذا بات كتاباً على رقائق الكترونية ضوئية شفافة بشفافية الحروف والأحبار الضوئية.
و هل فكرنا في لحظة واحدة فقط (وأقول لحظة) أن نفتح مكتبة (في أحد النوادي الرياضية أو المدارس أو المراكز الثقافية أو ما شابه ذلك) مجهزة بكل ما تحتاجه من أسطوانات وكمبيوترات تكون مساعدة للأطفال بدءاً من التسلية مروراً بالعلم والمسابقات والسينما والمسرح؟.
وبكلمة أخرى طالما أن الأسطوانة أصبحت تضم في جعبتها كل شيء ورخيصة كل الشيء أيضاً. هل نوفرها في مكان ما من هذا الوطن لأطفالنا؟. خاصة وأننا أصبحنا نقطن في قرية صغيرة ونعيش في عالم تحكمه الأزرار. ويريد المتحكمون فيه أن يطيحوا بكل شيء. ويستهدفون الأمم التي تملك مخزوناً ثقافياً ثراً، وتراثاً أدبياً غنياً فهل نفعل ذلك؟. وأمتنا العربية واحدة منها، بل هي المستهدفة الأولى من بين تلك الأمم !.
أم نبقى خارج أسوار العالم، ونذهب بأقدامنا ودونما مساعدة إلى متاحف التاريخ لنقبع هناك إلى غير رجعة؟.