الأربعاء ٤ تموز (يوليو) ٢٠١٨
بقلم فاروق مواسي

الإيلاف

سألني سائل: ما هو الإيلاف؟

ورد ذكر "الإيلاف" في سورة قريش:

لإيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)

الحديث عن اللام في بداية السورة كثير وطويل وفيه اجتهادات نحوية، اخترت منها ما ارتبط بسورة سابقة هي (الفيل) والتي ختمت بنهاية أبرهة وجيشه- فجعلهم كعصف مأكول، وهذه النهاية لجيش الأحباش هي انتصار لمكانة الكعبة، وأن للبيت ربًا يحميه.

وردت سورة "الإيلاف" لطمأنة قريش على أمانها وتجارتها، فليعبدوا الله الذي أطعمهم بعد جوع، وأمّنهم بعد خوف، فاللام تفيد معنى لأجله.

كان بعض المفسرين يكتفي بشرح "الإيلاف"- أن قريشًا كانوا يترحلون للتجارة في الشتاء إلى الشام، وفي الصيف إلى اليمن.

لكن ثمة دراسات ومعلومات مختلفة حول مصطلح "الإيلاف" وددت أن أضيفها.

يقول الثعالبي:

كانت قريش لا تتاجر إلا مع من ورد عليها مكة في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ، وكانت في الأشهر الحرم لا تبرح دارها، ولا تجاوز حرمها للتحمس (التدين- ف) في دينهم، والحب لحرمهم، والإلف لبيتهم، ولقيامهم لجميع من دخل مكة بما يصلحهم.
(ثمار القلوب- ص 115- مادة 165)

أقامت قريش بواد غير ذي زرع [......] فكان هاشم بن عبد مناف – جد الرسول أولَ من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك وأبعد في السفر ومر بالأعداء.

عقد هاشم معهم "الإيلاف"، وهو اتفاقية أوعهد بينهم، حيث كان هاشم يقدم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعًا مع متاعه، ويسوق إليهم إبلا مع إبله ليكفيهم مئونة الأسفار، ويكفي قريشا مئونة الأعداء. فكان أن أخصبت قريش وأتاها خير الشام واليمن والحبشة، وحسنت حالها وطاب عيشها الذى ذكره الله.

وكانت لقريش رحلتان: رحلة في الشتاء نحو العباهلة من ملوك اليمن ونحو اليكسوم من ملوك الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم.

قام هاشم بهذا الإيلاف (مصدر آلف- أي جمع بينهم) مع رؤساء القبائل وسادات العشائر لسببين:

أن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمَّنون على أهل الحرَم ولا غيرهم.

والسبب الآخر أن أناسًا من العرب كانوا لا يرون للحرَم حُرمة ولا للشهر الحرام قدرًا كبني طيِّئ وخَثْعم وقُضاعة، بينما كان سائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له.

يقول الثعالبي (م. س):

لما مات هاشم قام بذلك المُطَّلِب، فلما مات المطلب قام بذلك عبدُ شمس، فلما مات عبد شمس قام به نَوفل وكان أصغرهم.

قال الشاعر:

يا أيها الرجل المحوّل رحله
هلا حللت بآل عبد مناف
الآخذين العهد في إيلافهم
والراحلين برحلة الإيلاف

اتفاقية التجارة هذه كانت حكيمة، فقد تغير أسلوب تجارة مكة، بأن جعل لها قوافل ضخمة تمر بأمن وبسلام في مختلف أنحاء الجزيرة، فدرّت عليها نتيجة لذلك أرباحًا كبيرة- أرباحًا ما كان في إمكانها الحصول عليها قبلاً، فقد كانت قريش ترسل قوافل صغيرة للمتاجرة مع مختلف الأسواق، وكثيرًا ما يكون نصيبها النهب والسلب.

أما بعد "الإيلاف" فكبرت القافلة (نحو ألف بعير)، إذ فتحت المجال لمن أراد أن يشارك في القافلة- كل وطاقته، وبذلك توسع الربح، وعمت فائدته عددًا كبيرًا من أهل مكة، فرفع بذلك من مستواها الاجتماعي، كما ضمن لقوافلها الأمن والسلامة، وصيَّر مكة مكانا مقصودًا للعرب.

ثمة رواية أخرى:

لم يكن هاشم وحده هو صاحب الرأي، بل هو وأخوته- أي أبناء عبد مناف:

شرح عبد السلام هارون محقق (رسائل الجاحظ، ج3، ص 47) أن "الإيلاف" هو العهد والذمام والإجارة، وكان الأخوة الأربعة هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل هم بنو عبد مناف، يجيرون قريشًا بمَيرهم، وكانوا يسمون "المجيرين". فأما هاشم فقد أخذ حبلاً من ملك الروم (عهدًا)، وأخذ المطلب حبلاً من ملوك حِميَر، وأخذ نوفل حبلاً من كسرى، وأخذ عبد شمس حبلاً من النجاشي، فكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هؤلاء الأخوة، فلا يُتعرض لهم.

أما الجاحظ فيرى في رسائله أن "الإيلاف" جُعْلٌ فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة من الصعاليك ومن المتطاولين، إذ قال: "وقد فسره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشمًا جعل على رءوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة، فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمَنون على الحرم، لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرا مثل طيِّئ وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب".

فيفهم من ذلك إذن أن الإيلاف، هو نوع من تأليف قلوب سادات القبائل؛ لصدهم عن التحرش بأهل مكة ومن التعرض بقوافلهم، فألفهم هاشم وجمع بينهم، فالمبالغ يدفعها رؤساء القبائل لتعاد لهم بعد البيع مع حصتهم من الربح.

في "الإيلاف" وبين تأليف القبائل صلة تامة، فتفسير"الإيلاف" على أنه عهود ومواثيق مع سادات القبائل في مقابل إسهامهم بأموالهم وبحمايتهم لقوافل قريش، في مقابل ضرائب معينة تدفع لهم، وسهام من الأرباح تؤدى لهم، مع إعطائهم رءوس أموالهم وما ربحته في الأسواق.

بذلك كسبت قريش حياد هذه القبائل ودفاعها عن مصالحها- هذه المصالح التي لم تستطع الدول كفارس والروم أن تحميها.

قلنا إن "الإيلاف"= العهد والذمام، من ألف بين فريقين تأليفًا، أوقع الألفة وجمع بينهما بعد تفرق ووصلهما، ومن ذلك المؤلفة قلوبهم، أمر النبي بتألفهم، أي بمقاربتهم وإعطائهم من الصدقات ليرغبوا من وراءهم في الإسلام، ولكيلا يكونوا مع الكفار على المسلمين.

صار أهل مكة، بفضل "الإيلاف"، آمنين امتيارهم وتنقلاتهم شتاء وصيفًا، فالإيلاف- العهود التي أخذتها قريش من سادات القبائل إذا خرجت في التجارات فتأمن بها.
وبفضل اتباع سياسة تأليف قلوب القبائل، باشراك ساداتها في تجارة قريش، أو اعطاء سادتها جعالة مرور، أو هدايا، أو بالتصاهر معها، أو بإكراء إبلها لنقل تجارة قريش، تمكنت قريش من تأليف قلوب سادات القبائل، فأمنت على نفسها، وصارت قوافلها تخرج في أي وقت شاءت من أوقات السنة في الشهور الحِلّ أو في الشهور الحُرُم.

(للتوسع: جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج7، ص 285- 306)

فوائد لغوية:

إيلاف (الثانية)- بدل من لإيلاف، وقيّد البدل برحلتي الشتاء والصيف تفخيمًا لأمر الإيلاف، وتذكيرًا بسوابغ النِّعم، وتعرب "رحلة" مفعولاً به للمصدر الذي يعمل عمل فعله.

فليعبدوا: الفاء الفصيحة، لأنها وقعت في جواب شرط مقدر، واللام لام الأمر.

من تفسير تسمية (قريش) بهذا الاسم أن معنى (القرش) هو الكسب، لأنهم كانوا يكتسبون بتجارتهم، وضربهم في البلاد، وقد صُرفت هنا = قريشٍ، ولم تُمنع لأنه أريد بها الحيّ (وليس القبيلة).


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى