السبت ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم ليلى بن عائشة

الاتجاه الإنساني في مسرح السيد حافظ

إن ظهور سمتي التمرد والثورة في مسرح "السيد حافظ" بشكل بارز وبكثرة ، لا يعني انحسار كتاباته المسرحية ضمن هذا اللون فقط ، لأنه كاتب مسرحي ملتزم بموقفه اتجاه جيله وواقعه ومجتمعه العربي، إذ نجده من ناحية كاتب يعبر عن الواقع بمرارة وحسرة ينشد الأفضل للإنسان والمواطن ، ومن ناحية أخرى يستلهم من التراث الكثير، ويوظفه مسقطا إياه على واقع حضاري معيش. وتتسم أعماله بالتنوع في الأشكال والمضامين، فهمومه إما اجتماعية مباشرة أو حضارية، وقد يغلب الطابع الحضاري أو السياسي على معظمها، إلا أن الانطلاقة تكون دائما من أرضية اجتماعية مباشرة ، ثم يتم وفقها توسيع النظرة حتى تشمل معان عامة وتصورات كلية.

ومما لاشك فيه أن المطّلع على مسرحيات "السيد حافظ" سيلاحظ غلبة الطابع الإنساني عليها أو يكشف بالأحرى وضوح النزعة الإنسانية وتجليها بشكل ملفت للانتباه، )وهي إحدى الهموم التي يضطلع بها المسرح التجريبي( وهذا يؤكد لنا -بالطبع- شيئا مهما، هو أن "السيد حافظ" يسعى إلى الكتابة للإنسان، لأجل الإنسان بصفة عامة، والإنسان العربي بصفة خاصة، ورؤاه التي يجسدها من خلال أعماله تتسع دائما لتشمل انشغالات الإنسان وهمومه أينما كان، بعيدا عن الاختلافات الموجودة، الدين والعرق والجنس... لأن ما يهمه في النهاية هو الإنسان وما تنطوي عليه نفسه من مشاعر وأحاسيس، ولا أدل على ذلك من تأكيده على أنه يصدر في أعماله عن رؤية خاصة، ولكن هذه الرؤية ليست من مستنقع ذاتي محدود منفصل يلهث خلف سراب أو اغتراب بلا معنى هذه الرؤية –كما يقول عنها- « مغروسة في صدر مصر نابعة من منابع تفجر الأشياء العصرية، تحلق في آفاق واعية لمنح الإنسان شيئا جديدا... » [1].

ومن هنا فإن الإنسان يشكل بؤرة اهتمام واسعة لديه. وينطلق من هموم الإنسان العربي والمصري بصفة خاصة، ليصل في النهاية إلى معاني تمس الإنسان عامة. فبالرغم من أنه يطرح قضايا كلية ويهتم بالنموذج البشري، إلا أنه في الوقت نفسه يمتلك خصوصية البيئة العربية والمصرية في همومها اليومية وانعكاساتها على نموذجه البشري بكل تنويعاته، إنه كاتب يؤمن أولا وأخيرا بقيمة الإنسان العربي ومستقبله، منطلقا من خصوصية الإنسان المصري ابن الحضارة الفرعونية والمسيحية والإسلامية والعربية على مر العصور.

والمؤكد أن "السيد حافظ" من كتاب المسرح الإنساني ،لأنه يسعى جاهدا إلى تحقيق ذات الإنسان وقيمته، انطلاقا من بيئته متوسعا في مفاهيمه ورؤاه إلى دوائر أوسع ليجعلها أكثر شمولية وفائدة. وإذا كان الصدق من أهم سمات المسرح التجريبي فإننا نجد "السيد حافظ" من أصدق الكتاب المسرحيين الذين عبروا عما يدور في أعماق الإنسان، إذ لا يهمه أبدا أن يلتزم بالتقاليد المسرحية الموروثة بقدر ما يهمه أن يقدم رؤاه أو فلسفته التي يريد أن يعبر عنها بحرية كاملة، وهو، في سبيل ذلك، على استعداد لأن يضحي بالعناصر الدرامية المعروفة - وهذا ما سنلاحظه من خلال التحليل في الفصل الثالث - إذ أنه يغوص من خلال كتاباته في أعماق النفس الإنسانية ليقدم لنا التجربة الإنسانية بعمقها وأدق تفاصيلها. لذا يسميه البعض رائد المسرح الإنساني في الساحة الأدبية العربية ، ذلك لأنه يتحدث في مسرحياته عن كل الأزمات الإنسانية؛ فقد تحدث في أعماله المسرحية عن النازية وأدلى بموقفه منها، كما تحدث عن المقاومة في كل البلاد التي تعاني من الإضطهاد، تكلم في مسرحه عن المشكلة الفلسطينية، وعن أزمة الشرق الأوسط ،كما تكلم عن فيتنام وعن جنوب إفريقيا، تكلم عن التخلف والتراجع العربي.تكلم عن الحرية والديمقراطية المفقودة، تحدث عن الحياة المادية وتأثيرها على إنسان هذا العصر.

لقد كان المسرح يمثل بالنسبة إليه ذلك المركب الذي يجوب أرجاء الأرض الفسيحة، ومن ثمة يكون هو السفير المتجول الذي يعبر كل البلدان ويخترق كل الحدود ويسافر دون جواز، إلى كل الأقطار لأن المسرح بالنسبة إليه هو« الهوية.. الجيثار.. القصيدة.. الباخرة. كأن المسرح هو (الأجراس التي أدق بها في أذن البلاد الغارقة في الغيبوبة )»(2)، وهو ما لاحظناه من خلال تصفحنا لأعماله المسرحية، إذ يتضح لنا في كل مرة أنها لا تعالج قضية تخص الشعب المصري -باعتباره ينتمي إليه- فحسب بل تتجاوز المحدودية الزمكانية لتعبر عن الإنسان المقهور أينما كان، وهذا ما يكتب لأعماله الخلود والأبدية، لأنها تعنى بقضايا إنسانية محضة ، ولعل هذا ما جعل "إسماعيل الأمبابي" يقول : « والذي لاشك فيه أن السيد حافظ يسعى جاهدا إلى خلق أعمال باقية على مدى الزمن مما دفعه غير ما مرة إلى الخروج صراحة عن الأشكال الفنية المألوفة وإلى توسيع أبعاد فنه إلى مستوى التنبؤ العام الشامل بالإضافة إلى الإهتمام بموضوعات الساعة والقضايا المباشرة ... فهو يتكلم في مسرحه عن قضايا الإنسانية المتعددة ... إذن هذا الكاتب لم يحمل جواز سفر مصري فقط، بل في الحقيقة حمل : جواز سفر عربي إفريقي عالمي : فكل قلوب الناس جنسيته » [2].

لقد جاءت كتابات "السيد حافظ" المسرحية لتخرج لنا مسرحا مليئا بلغه التعبير، مسرحا يتحدث بلسان الحياة ضد الموت. وقد قام مسرحه ليتضمن في ثناياه القيم الإجتماعية والثورية الحضارية والإنسانية ليخرجها في شكل جديد. ونظرا لتداخل القيم المختلفة والنزعات التي يحملها مسرحه -كما أشرنا سابقا- نجد أنفسنا في عالم مسرحي خاص يقحمنا -من خلاله صاحبه- ضمن عوالم كثيرة ويمس أدق المفاهيم في ذواتنا، بما فيها الفنية والإجتماعية والفكرية والسياسية، ويضعنا وجها لوجه مع القضايا المصيرية،ويتغلغل إلى عوالم شتى بما يجعل جهده يتسم بالكثير من العمق الفني والأصالة والحضارة، لذلك حق للكثير من النقاد أن يقولوا عن مسرحه « هذا هو المسرح الحقيقي لأنه يعبر عن المشاكل والهموم التي تثقل كاهل الإنسان و"السيد حـافظ" [يضيف هؤلاء] تجده مخلصا لبيئته يتأملها ويتعمقها إلى أبعد الحدود، وهذا الإخلاص للبيئة هو الذي يقدم للفنان تجربة حقيقية حية يمكن أن يصورها ويعبر عنها ويؤثر من خلالها على الآخرين حتى ولو كانوا غرباء عن هذه البيئة» [3]، ذلك لأنها تطرق المواضيع الإنسانية عموما حتى وإن انطلق صاحبها من المحلية أو الإقليمية.


[1(حوار مع):محمد جبريل. جريدة المساء.1 أبريل 1981. ضمن مسرحية حدث كما حدث ولكن لم يحدث أي حدث. أوزوريس .ص.70.

[2القصص الشعبي في ألف ليلة وليلة في مسرح الطفل بالكويت: فاطمة حاجي. ص.63.

[3الفلاح المصري في مسرح السيد حافظ.خديجة فلاح.ص.40. 3-دراسات في مسرح السيد حافظ.ج.1.ص.128.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى