الأحد ١٤ تموز (يوليو) ٢٠٢٤
بقلم صالح سليمان عبد العظيم

الاحتكار الأكاديمي والهيمنة الخانقة

"الأقلام مطايا الأذهان" كلثوم العتابي

نتناول في المقالة الراهنة الآثار السلبية الناجمة عن الاحتكار الأكاديمي للطلبة والهيمنة عليهم فكريًا، واضعين في الاعتبار أن كل هذه الملاحظات والتوصيفات تمت عبر سنوات خبرة أكاديمية طويلة، داخل مصر وخارجها. استطعنا من خلالها عبر مشاهداتنا العيانية من جانب، وعبر الحديث مع الكثير من الطلبة من جانب آخر، سواء ممن سجلوا أطروحاتهم معي أو من العاملين مع غيري من الأساتذة، سواء في جامعة عين شمس أو غيرها من الجامعات المصرية المركزية والإقليمية، رصد العديد من السمات المرتبطة ببنية وخصائص أساتذة الجامعة. ويجب الإشارة هنا إلى أن المعلومات المتحصل عليها من قبل الطلبة المسجلين مع أساتذة آخرين، سواء في جامعة عين شمس أو غيرها من الجامعات المصرية الأخري، مثلت مادة علمية هامة ومؤثرة في جملة ملاحظاتي بدرجة كبيرة تفوق في أهميتها الطلبة الذين سجلوا معي لاعتبارات عديدة.

أولا، أضافت هذه النوعية من الطلبة تنوعاً كبيراً في عينة المشاهدات والمتابعات العمدية، مما يضفي على الملاحظات قدراً كبيراً من الموضوعية والقبول العلمي. وهذا التنوع اشتمل على الإناث والذكور، وإن كان الإناث أكثر تمثيلاً في هذه العينة العمدية بحكم الهيمنة النسوية، عددياً على الأقل، على علم الاجتماع بخاصة والعلوم الاجتماعية بعامة سواء بين قطاع الأساتذة، أو بين قطاع الطلبة. وثانياً، فإن هذا التنوع لم يقف فقط عند النوع، لكنه اشتمل تنوعًا جغرافيًا جمع بين الجامعات المركزية والجامعات الإقليمية في آن واحد، مما أضاف ثراءً يتجاوز شعبية الجامعات المركزية وهيمنتها الدعائية على قطاع التعيلم في مصر.

وأخيراً، فإن بعض هؤلاء الطلبة كانوا تقريبا منفلتين من براثن البنية التي ينتمون إليها، ومن ضَيْم الأساتذة الذين تعاملوا معهم، مما جعلهم يقدمون تفاصيل هامة جداً وأحداث كثيرة يصعب على القلم أن يسطر الكثير منها هنا بسبب مساسها بشكل كبير بهيبة وسمعة الأستاذ الجامعي، وهو أمر جعلني أقفز فوق هذه الأحداث والتفاصيل الدقيقة، وأصنفها تحت عناصر عامة لبنية الأستاذ الجامعي، وأحواله الراهنة. وهذا لا يمنع أنني استفدت بشكل كبير من مثل هذه الحكايات والسرديات المثيرة للشجون والممتعة في آن واحد.

نقطة أخيرة أحب أن أشير لها، قبل أن أتناول تأثير الاحتكار الأكاديمي على ما أسميته بالهمينة الخانقة، تتعلق بأن ما تعرضت له هنا، وما سوف أتعرض له لاحقاً من سمات وخصائص تتعلق بالأستاذ الجامعي، لا يعبر عن سلوك فردي بعينه، بقدر ما يتجاوز ذلك للرصد العام المرتبط بالبنية التعليمية الجامعية ككل. صحيح أنه يحضرني حالات بعينها أستقي منها تحليلاتي، لكن الموضوع أوسع من ذلك بكثير، ويشتمل على عموم البنية التعليمية الجامعية بدرجات متفاوتة. وهو أمر لا ينفي ولا يتعارض، رغم ذلك، مع وجود عناصر كثيرة جداً من أساتذة الجامعات المصرية على مستوى علمي وأخلاقي وأكاديمي رفيع المستوى. لكن رغم وجود هذه النوعية من الأساتذة، فإن مقدرات الأوضاع والسياقات المحيطة، تشير إلى تحولات كبيرة قد تُميل الكفة لصالح طغيان الأنماط الأخرى المضادة والمعاكسة!!

الهيمنة الخانقة

السلوك الضار الأول الناجم عن الاحتكار الأكاديمي والذي يمثل خصيصة بالغة السوء في تعامل بعض الأساتذة مع الطلبة تتمثل فيما نطلق عليه "الهيمنة الخانقة". تشير "الهيمنة الخانقة" إلى السيطرة السلطوية والقمعية التي يمارسها بعض الأساتذة على طلابهم، مما يعيق بشكل كبير تطورهم الفكري والشخصي. وهذا النوع من الهيمنة من أخطر أنواع الهيمنة لأنه يتعلق بتقييد العقل، ولجم انفلاتاته، وإخصاء توتراته.

وتنبع خطورة هذا النوع من براءة ادعاءاته، فنحن هنا لسنا أمام سجان وسجين، أو قائد وجندي، نحن أمام علاقة علمية بقدر ما فيها من التراتبية، فيها أيضا الكثير من الندية، وربما في بعض الأحيان، أسبقية الموجه بفتح الجيم وتشديدها على الموجه بكسرها وتشديدها. لذلك، فإنها علاقة تسمح بالجدل والحوار والمعارضة والرفض وحرية الاختيار. من هنا، فإن وأد هذه الجوانب من طرف الأستاذ الجامعي، بسبب إحساسه بخطأه أو ضعفه أو هشاشته النفسية أو تواضعه العلمي أمام تلامذته يهدر طاقات كثيرة، ولا يؤدي سوى إلى خنق العملية التعليمية تمهيدا لمواتها!! فالكثير من الأساتذة ينسون أن الموضوع البحثي موضوع الطالب/الطالبة، حيث يتحمل مسئولية الاختيار، ومسئولية العمل العلمي، وأن دور الأستاذ الجامعي أن يوجهه فيما غمض عليه، أو غفل عنه؛ بمعنى آخر يتمثل الدور الغالب للأستاذ الجامعي في أن يضمن أن الطالب/الطالبة يسير ويتحرك في مسار علمي متوازن.

وتتجلى الهيمنة الخانقة في شكل حضور طاغٍ في التفاعلات الأكاديمية، حيث يطغى صوت الأستاذ ومنظوره على كل الآخرين، مما يخلق بيئة يتم فيها التقليل من قيمة أفكار الطلبة ومساهماتهم أو تجاهلها بشكل منهجي. في مثل هذه الوضعية الخانقة لا يتحدث الأستاذ مع الطالب/الطالبة بقدر ما يتحدث مع نفسه؛ هو يريد تمثال أو مجموعة تماثيل، تُشعره بوجوده، وبأهميته، وبحيثيته، وبسلطاته، وقدراته العديدة التي من خلالها يحرك الطلبة بها كيفما شاء، وكيفما قادته أهواؤه.

هذا النوع من الهيمنة يخنق الإبداع من خلال تثبيط الطلبة عن التفكير بشكل مستقل أو تحدي الأعراف الراسخة، لأنهم يخشون الانتقام أو الرفض. إنه يؤدي إلى جو تعليمي أحادي البعد حيث تتم مكافأة المطابقة وخنق الابتكار. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يتحكم هؤلاء الأساتذة في الوصول إلى الموارد والفرص والاعتراف، مما يزيد من ترسيخ هيمنتهم ويجعل الطلبة يشعرون بالعجز والاعتماد. وهو أمر سوف نفصله بدقة فيما يتعلق بعملية الإيهام التي يقوم بها المشرف حول قدراته الهرقلية فيما يتعلق بالتلويح الدائم بسياسات العصا والجزرة أو الثواب والعقاب.

إن الطبيعة القمعية للهيمنة الخانقة يمكن أن تؤدي إلى تآكل احترام الطلبة لذاتهم، وتقليل دوافعهم، وفي نهاية المطاف قمع قدرتهم على المساهمة برؤى أصيلة وإبداعية في مجالات دراستهم. إن هذا السلوك لا يقوض المهمة التعليمية المتمثلة في تعزيز التفكير النقدي والنمو الفكري فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى إدامة ثقافة الرداءة حيث لا يمكن للتميز الأكاديمي الحقيقي أن يزدهر.

وتمثل الهيمنة الخانقة من قبل الأساتذة الأكاديميين عائقًا كبيرًا أمام النمو الفكري للطلبة داخل البيئات الأكاديمية. فعندما يتدخل الأساتذة بشكل مفرط ويتحكمون في كل جانب من جوانب بحث الطالب/الطالبة وعمله الأكاديمي، فإن ذلك يحد من مساحة التفكير المستقل والمبادرة البناءة. ويقلل هذا الإشراف المستمر من فرصة الطلبة في المشاركة بشكل نقدي في موضوعاتهم وتطوير وجهات نظرهم الفريدة. فبدلاً من تعزيز الاستقلالية والإبداع، تعمل الهيمنة الخانقة على تعزيز الاعتماد على المشرف للحصول على التوجيه والموافقة. وبالتالي، قد يشعر الطلبة بالتردد في التعرف على أفكار أو منهجيات جديدة، خوفًا من أن يؤدي الانحراف عن المسارات المقررة إلى الرفض أو النقد. هذا الخوف من الرفض يمكن أن يخنق الفضول الفكري ويعيق إنتاج طرق بحث مبتكرة.

علاوة على ذلك، فإن الافتقار إلى الاستقلالية في ظل الهيمنة الخانقة يمنع الطلبة من تعزيز الثقة والمهارات اللازمة لمتابعة اهتماماتهم الأكاديمية وتطويرها بشكل مستقل. وفي نهاية المطاف، لا تؤدي الهيمنة الخانقة إلى تقويض قدرة الطلبة على التفكير النقدي والإبداعي فحسب، بل تحد أيضًا من إمكانات النمو الفكري والإنجاز العلمي في الأوساط الأكاديمية. وتتطلب معالجة هذه المشكلة تحولًا نحو تعزيز بيئة أكثر دعمًا وتمكينًا تُقدر استقلالية الطلبة، وتشجع التفكير المستقل، وتعزز الإبداع الأكاديمي دون قيود أو سيطرة لا داعي لها.

وفي الختام، هناك أمثلة عديدة يمكن الاستشهاد بها هنا، فقد أكد الكثيرون من الطلبة لنا، أن بعض المشرفين هم الذين اختاروا موضوع الأطروحة لهم، وهو ما سبب لهم الكثير من الضيق والتأزم، خصوصا أن الكثير منهم كانوا يريدون العمل في موضوع آخر بعيد تماماً عما اختاره المشرف. فجأة يجد الطالب/الطالبة ورقة من المشرف في يده، كأنها "بخته" الذي حصل عليه نظير لعبة في سيرك ما، يفتحها ليجد نفسه مُطالبا بموضوع يسمع عنه لأول مرة في حياته، وما عليه سوى القبول. فأى معارضة مصيرها النقد والتهكم، خصوصا في ظل وجود طلبة سابقين له قبلوا بمثل هذا الوضع.

فالنقد والتهكم لن ينتقل فقط من المشرف لطالبه/لطالبته بقدر ما سوف ينتقل أيضا من بطانته الجاهزة لأية تعلميات يُصدرها لهم هذه الأستاذ. في بعض الأحيان، ينبري الطلبة أنفسهم الذين يشعرون فقط بتغير خاطر أستاذهم على الطالب/الطالبة لتوجيه النصائح له وتوجيهه الوجهة العلمية الصحيحة، طبعا وجهة التبعية والخنوع للأستاذ!! من هنا، دائما ما تحدث مقارنات داخل الجيتو التابع للأستاذ الجامعي، فهذا/هذه مطيع! وهذا/هذه مارق! وهذا/هذه يسمع الكلام! وهذا/هذه يعارضه! وهذا/هذه يظل جالسا طوال النهار في حضرة طلعة الأستاذ البهية، ولا يغادر المكان إلا عند مغادرة سعادته، وهذا/هذه يختفي بعيداً ولا يجلس سوى دقائق معدودات، وهى أمور كثيرة ومهمة وخطيرة سوف نُفرد لها مقالة تفصيلية لاحقا.

وفيما بعد التسجيل، حيث مرحلة الزواج الكاثوليكي، لن يستطيع الطالب/الطالبة المجادلة في أي شيء، تحت وطأة فهم المشرف للموضوع أكثر من الطالب/الطالبة، لتبدأ عملية الخنوع وواجبات الطاعة، وفروض المصلحة والولاء، وتروس التدجين الهوجاء. هنا ينصاع الطالب/الطالبة لعمليات تطويع مطلقة ومتواصلة ومستمرة ذاتية وموضوعية!! فالأستاذ هو الذي يحدد العنوان، والنظرية، والمنهج، وطرق التحليل الكمي والكيفي!! وعبر كل ذلك، لا ينجح معه، ويتفوق، ويحوز التمجيد سوى الطلبة الخانعين.

نحن أمام ظاهرة مخيفة ومرعبة في نتائجها ينتجها هذا النوع من الإشراف، يمكن تسميتها بظاهرة "الإستنساخ الأكاديمي" Academic Cloning، وهى تتعلق بأن هذه النوعية من الأساتذة، لا ينتجون طلبة سوى على شاكلتهم؛ فكل منهم يريد لطلابه أن يتبعوا خطواته النظرية والمنهجية، وخطواته السلوكية؛ فهم يلوكون ما يلوكه، ويعيدون أسماء العلماء والنظريات الأجنبية التي يتفوه بها، ويتحدثون فيما يتحدث عنه، ويتفاخرون بما يفاخر به. وحينما يجلسون معه أو بجواره سواء في جلسة عادية أو محاضرة أو مناقشة علمية، لا يقومون سوى بإطرائه. وهى مسألة مخيفة ومحزنة، لا تؤدي إلى التمايز، والارتقاء، والتجديد. ومن أسف أن هذه الظاهرة لا تحدث فقط عند مستوى الإشراف العلمي فقط، لكنها تتجاوز ذلك فيمن حصلوا على الدكتوراة ويسعون للترقية والبحث العلمي المتواصل والبدء في كتابة البحوث العلمية. وهو أمر مهين جدا من حيث استمرار التبعية وسياسات الاستنساخ بمثل هذا المستوى الكربوني العقيم!!

لا تقف أمور التدخل والهيمنة على شؤون الرسالة والكتابة العلمية، فمن أكثر الأمثلة المضحكة والمبكية في آن، والتي حكاها لي بعض الطلبة، في الإشراف العلمي، تدخل بعض الأساتذة في طريقة كتابة الإهداء في الرسالة العملية، والطلب المباشر من الطالب/الطالبة بحذف هذا وإضافة ذلك..إلخ من أشكال الاحتكار المؤثرة والتافهة في آن. هنا تتدخل الأهواء الضالة التي تتدخل في أخص شؤون الطالب/الطالبة وجوانبه الشخصية وهو ما يتعلق باهدائه أو شكره لهذا أو ذاك.

ومن الأمور المضحكة الأخرى أيضا في هذا السياق، جلوس المشرف مع الطلبة لساعات طويلة جداً قد تتجاوز سبع أو ثماني ساعات أو أكثر من ذلك في أحيان كثيرة، بغرض مراجعة عمله، وتوجيه الملاحظات له. هنا تنتقل الهيمنة الجسدية للمشرف، للهيمنة الزمنية؛ فهو صاحب الزمان والمكان! فهو الذي يحدد ساعات ووقت الكلام ووقت التجمع مع تلامذته، ويحدد وقت الإنصراف الذي غالبا ما يرتبط بانصرافه هو. وهو أمر غريب جدا فمن هذا الطالب/الطالبة الذي يستطيع التركيز هذه المدد الطويلة، على فرض أن المشرف نفسه يظل على مستوى تركيزه الفائق للقدرات البشرية!! لكن الأمر هنا يستحيل من توجيه للملاحظات، إلى تقييد الطالب/الطالبة حسب هوى المشرف وجلوسه بجواره فترات طويلة مما يمنحه الإحساس بالأهمية والجدية والإنتاج والإشباع النفسي الذي يعوضه عن ضعف وهشاشة وانهيار مؤسسات أخرى يجب أن تكون حاضنة له بعيدا عن حالة التخبط هذه. وفي النهاية فإن ما يتم إنتاجه عبر حالات الضياع الزمني هذه إنتاج وهمي يخدم هُراءات المشرف أكثر مما يصب في مصلحة الطلبة!

ولأن الشيئ بالشيئ يُذكر، ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال يتم تحديد الساعات المكتبية لكل دكتور، والتي غالبا لا تزيد عن أربع ساعات في الأسبوع. ومن الصعوبة بمكان أن يجلس طالب مع المشرف أكثر من ساعة، ليعود بعد أسابيع ليعيد الكرة مرة أخرى. فمن الصعب أن يتسكع الأستاذ اليوم بطوله في الجامعة، ومن الصعب أيضا أن يتسكع الطلبة بجوار مشرفهم اليوم بطوله. هنا حالة تسكع أكاديمي متخاذلة، وهناك حالة التزام أكاديمي مثابرة!! وفي كلمة، فالأمر عندنا أقرب لتحويل اللقاءات بالطلبة لنوع من المباهاة والتفاخر وتصدير صورة مُبجلة عن المشرف الذي يلتف حوله الطلبة. وسوف نشير فيما بعد لأنماط الجلوس الطويلة مع المشرفين، وطبيعتها، واتجاهاتها، وطابعها الاحتفالي الغذائي!!
وفي النهاية نؤكد على الأثر الضار للاحتكار الأكاديمي والهيمنة الخانقة من قبل بعض أساتذة الجامعات على الحرية الفكرية والإبداعية لدى الطلبة. كا نؤكد على ضرورة وأهمية التحول نحو بيئة أكاديمية أكثر دعمًا وتمكينًا تقدر استقلالية الطالب، وتشجع التفكير المستقل، وتعزز الإبداع دون سيطرة وهيمنة عبثية. وإلي مقالة قادمة إن شاء الرحمن الرحيم!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى