الثلاثاء ٩ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم مختار لزعر

التجربة اللغوية في الفكر الصوفي

ابن عربي نموذجا

لماذا تجدنا نكتب؟ كي نحاول أن نشارك ولو من جانب معين في مبدأ التغيّر.ولماذا نريد هذا الجانب التغييري؟لأننا نشعر بانفصام وانفصال عن المجتمع الذي نعيش فيه.على أنّه قد يظن البعض أنّ مثل هذا الرأي الذي نقول به عن عملية الكتابة،إنما هو مجرد رأي فلسفي نظري قالت به المدرسة الوجودية السّارترية،لكنّه،في الحقيقة،رأي نحسبُه يصب في عمق الجانب العلمي.

نقول بهذه الحقائق المعرفية الكائنة في السرّ الوجودي الكوني في علاقته بواقع الذات الإنسانية لأننا على علم هو باليقين بأنّها ضاربة في تلكم الجذور التاريخية للبشر منذ حين من الزمن.لكن ليث شعري هل استطاعت الذات الإنسانية التوقف عند بُعدها الوجودي والمعرفي على حدّ سواء؟هل استطاعت الذات الإنسانية في يوم ما أن تدرك العلاقة الحميمة بين السر الوجودي مع السر الفطري المبثوث في ذاتيتها منذ أن أوجدها الخالق سبحانه وتعالى في هذا الوجود المطلق؟هل بمقدور الذات الإنسانية أن تتحلى بالسر الإطلاقي الذي يسير مع حركية الوجود المطلق؟ هلا توقفت الذات الإنسانية ولو مرة من عمرها في عالم الروح لكي تصبو عن طريقه إلى عالم يجعلها فعلا تحقق عملية انسجامية بينها وبين السرّ الوجودي والمعرفي؟ بل أبعد من ذلكم كله ما السر في أنّ غالبية الذوات على اختلاف نحلها ومذاهبها عندما تريد التحدث عن عالم الإطلاق تجدها تتراجع إلى الوراء سواء عن قصد أم غير قصد بحجة أنّ شيئا ما يجعلها تكتفي بالذي هو كائن وموجود بين يديها،دون مجاوزته بحال من الأحوال،وكأن بهذه الذوات ما وجدت في هذا الوجود المطلق إلا لأن تقتفي أثر من قبلها أو تقتدي بالذي هو معها دون أن تحيد عنه طرفة عين،ولعمري إنّ هذا لشيء عجاب؟ألم يأن للذات الإنسانية التي عرفت قدر وجودها المعرفي والخلقي على حدّ سواء أن تتحلى بلغة إطلاقية تستعين بها وهي تسير على درب واقع المعرفة من أجل سبر أغوار واقع الأشياء على اختلاف أنواعها وأشكالها الداخلية والخارجية على حدّ سواء؟ ما السرّ يا ترى في أنّ تراثنا العربي الزاخر بكل ملابساته الداخلية والخارجية راح يتعامل مع واقع اللغة تعاملا خارجيا بعيدا كل البُعد عمّا كان يشيج في واقع اللغة من تلكم الصفة الإطلاقية التي بثّها الخالق سبحانه وتعالى فيها ؟ثم هلا جاز لنا شرعا وعلما أن نتحدث في سياقنا هذا بحرقتنا هذه عن تجربة لغوية تكون مبدوءة بواقع اللغة وهي تنطلق من عمقها الإطلاقي عبر حقبها الزمكانية المتغيرة والمتجددة تبعا لحركية السياق الواقعي، وصولا في نهاية المطاف إلى أهم ميزة إنمازت بها التجربة اللغوية المتصوفة وهي تحتك بعالمها الإطلاقي،لنغوص في عمق الإشكالية بشيء من التحليل والبيان؟.

الجدير بالذكر أنّ قضية البحث في أصل الكلام ونشأته قضية خلافية حادة بين المعتزلة وخصومهم،وبخاصّة الأشاعرة،وعلى رأسهم الباقلاني.وعلى الرغم من توافق كل من الباقلاني والقاضي عبد الجبار(415 ه)في الدلالة الشرعية كونها تدل من جهة المواضعة مع إضافة شرط القصدية عند القاضي إلا أنهما لم يتفقا معا على تحديد مفهوم الكلام.والمتمعن في التراث الاعتزالي يجد أنّ قضية(أصل اللغة)إنّما كانت تتصل أساسا بأصلين من أصول المعتزلة: التوحيد،خلق القرآن الكريم؛ذلك أنّ هدفهم الوحيد من إثارة هذه المسألة هو نفي أيّ صفة قديمة خارجة عن ذاته الإلهية،وصفاته الفعلية سبحانه وتعالى.ولقد اقتصرت الصفات الذاتية عند المعتزلة بكل ما يتعلق به تعالى من علم وقدرة وحياة وقدم وغيرها من الصفات التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تنفصل عن ذاتيته القدسية،ومن ثمة فإنّ الله تعالى عالم بعلم يعلمه هو وحده، وقادر بقدرة يعلمها هو وحده على حد قول الهديل العلاف(ت 235ه )(1).

وصفة الكلام الإلهي-عند المعتزلة ـ هي صفة فعل وليست صفة ذات، وليس لصفة الفعل هذه علاقة بالجانب الأزلي، بل هي صفة حادثة مع وجود الحاجة للكلام، وعليه فإنّ مفهوم الكلام عند المعتزلة لا يمكن أن يكون قديما، بل هو محدث لارتباطه بمن يخاطبه، سواء من الملائكة المقربين أم البشر، ووجود هؤلاء محدث لا مراء، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ هذا الكلام عندهم ينبغي أن يكون مسبوقا بما اتفق عليه كل من الباقلاني والقاضي عبد الجبار بالمواضعة،والعلة في ذلك أنّ الكلام لا يمكن أن يحتوي على فائدة إلا وقد تقدمت المواضعة عليه،وإلا كان شأنه وشأن الحوادث لا تختلف أبدا(2).

وإذا كان الأشاعرة يتّفقون مع المعتزلة في كون المواضعة شرطا من شروط الدلالة اللغوية، فإنهم يختلفون معهم في قضية تحديد مفهوم الكلام الرباني على أساس أنّ كلامه جل وعلا عبارة عن صفة ذاتية لم يزل ولا يزال موصوفا به بالصفة التي لا يعلمها إلا هو، وأنه تعالى قائم به ومختص بذاته القدسية(3).وهذا الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في ماهية الكلام الرباني، كان من شأنه أن يثير إشكالا حول أصل اللغة ونشأتها من حيث هي إلهام وتوقيف من الله تعالى، أو تواضع واصطلاح بين الناس .

ولقد كان ابن فارس من أشهر العلماء الذين بحثوا في أصل اللغة ونشأتها، وكان قد تولى النظرية التوقيفية في القرن الرابع الهجري بعد أستاذه أبي الحسن الأشعري(330ه)، والذي يقرّ صراحة بأنّ اللغة توقيف مستدلا بقوله تعالى وعلّم آدم الأسماء كلّها(4) وكذا قول ابن عباس رضي الله عنه أنه علّمه الأسماء كلها، وهي هذه التي يتعارفها الناس،من داّبة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشباه ذلك من أمم وغيرها(5).

وابن فارس لا يقف عند هذا الحد، بل نجده يحتاط لمذهبه بأقوال المفسرين، حيث يقول في هذا الصدد:« إنّ الأسماء لأعيان بني آدم أو الملائكة مستدلا على ذلك بقوله تعالىثم عرضهم فقال: إنما قال ذلك لأنه جمع ما يعقل وما لا يعقل، وهي سنة من سنن العرب، وذلك كقوله جل شأنه والله خلق كل دابّة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين،ومنهم من يمشي على أربع فقال-منهم-تغليبا لمن يمشي على رجلين وهم بنو آدم»(6).

وإلى جانب ذلك يرى ابن فارس أنّ اللغة التوقيفية« لم تأت جملة واحدة، و لا في زمان واحد بل لأنّ الله تعالى وقّف توقيفا لهذا النبي ـ آدم ـ عليه السلام أن يُعلمه إيّّاه ممّا احتاج إلى علمه في زمانه وانتشر من ذلك ما شاء الله ...»(7)، بمعنى أنّ تعليم الخالق عز وجل إنّما حدث لكل نبي من أنبيائه، فعلم سبحانه ما شاء أن يُعلّم آدم ممّا هو في حاجة إلى علمه في زمانه، ثم راح الأمر إلى ما بعده حتى انتهى إلى محمد عليه السلام، إذ لا نعلم من بعد هذا النبي الكريم حدث على حد تعبير ابن فارس.

أما القاضي عبد الجبار؛ فكان يؤمن إيمانا جازما بأن اللغة اصطلاح لا توقيف؛ ذلك أنّ الله تعالى عنده لا يصح أن « يُعرّف المكلّف الأسماء كلّها، لأنه لابد من مواضعه متقدمة على لغة واحدة ليفهم بها سائر اللغات، فمتى لم تتقدم لم يصح أن يُعرّفه معنى التكليف، لأن تعريف الأسماء يقتضي تعريف المقاصد»(8)بمعنى أنّ تعليم الله تعالى لآدم كان في بداية الأصل أنه علّمه اللغة التي يتحدث بها الملائكة فيما بينهم ثم عن طريق هذه اللغة استطاع آدم أن يتعلم كل الأسماء في سائل اللغات بتلك اللغة التي وقع التواضع عليها.

ويتّضح هذا الخلاف الذي كان بين الأشاعرة والمعتزلة في قضية القصد، عندما نجد القاضي عبد الجبار يتحدث عن علاقة الاسم بالمسمى هذه القضية الخلافية التي شغلت الكثير من العلماء؛ ذلك أنّ الأشاعرة لم يفرّقوا بين الاسم و المسمى على مستوى الدلالة اللغوية على أساس أنّ « الاسم هو المسمى ـ عندهم ـ بعينه وذاته، و التسمية الدالة عليه تسمّى اسما على سبيل المجاز»(9).ولقد كانت التفرقة بين المعاني التي لها علاقة بالجانب النفسي والكلام الربّاني هو المقدمة الأساسية والجوهرية لتفرقة المعتزلة بين قضية الاسم والمسمى، واعتبار المعتزلة أنّ الاسم هو في حقيقة أمره إشارة إلى المسمى ليس غير .

ونأتي إلى الجاحظ حين ردّ على متأولي هذه الآية:وعلم آدم الأسماء كلها بقوله:« لا يجوز أن يُعلّمه ـ أي يعلم الله آدم ـ الاسم ويدع المعنى،ويُعلمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه، والاسم بلا معنى فهو كالظرف الخالي...ولو أعطاه الأسماء بلا معاني لكان كمن وهب شيئا جامدا لا حركة له،وشيئا لا حس فيه،وشيئا لا منفعة عنده...»(10)، بمعنى أنّ الاسم ينبغي أن يتضمنه معنى،وإلا صار كالجسد الذي لا حياة فيه.وبالتالي فالعلاقة بين الاسم والمعنى هي ما أطلق عليها الجاحظ بمصطلح ـ المعنىـ ثم إنه أقام التفرقة بين الاسم والمعنى،رغم ما اعتبره الجاحظ من أنّ اللفظ بمثابة الجسد،والمعنى بمثابة الروح،إلا أنه يفترض أنّ هناك معاني بلا أسماء، وهذا يؤكد إلى الفاصل الحاد بينهما في ذهنية الجاحظ .

وفي هذا الإطار نجد القاضي عبد الجبار يكاد يكرّر ما قاله الجاحظ في علاقة الاسم والمسمى بالمعنى،غير أنّ القاضي يستعيض بكلمة ـ القصد ـ عن كلمة ـ المعنى ـ التي استخدمها الجاحظ . يقول:« إنّ ظاهر الاسم إنما يسمى بذلك متى تقدمت فيه مواضعة،أو ما يجري مجراها، لأنه إنما يصير اسما للمسمى بالقصد»(11)، بمعنى أنّ الفكرة التي يرمي إليها القاضي هي نفسها التي طرحها وتوقف عندها الجاحظ على اعتبار أنّ الاسم لا يكون اسما إلا وهو مضمّن بمعنى .

ثم إنّ الخلاف يظل قائما في تفسير معنى الآية الكريمة:وعلم آدم الأسماء كلها ، وكذلك في تحديد علاقة الاسم بالمسمى، عند كثير من المفسرين على اختلاف نحلهم ومذاهبهم؛فصاحب الكشاف مثلا يرى أنّ معنى الآية الكريمة« هي أسماء المسمّّيات،فحذف المضاف إليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء، لأنّ الاسم لا بدّ له من مسمّى عوّض عنه بالآم»(12)، إلا أننا نجد من العلماء من يردّ هذا التفسير ولا يقبله، كابن المنير السنّي حين يهاجم الزّمخشري في هذا الرأي على أساس أنّ ذلك هو معتقد أهل السنة ، فيعمل الحيلة في إبعاده عن مقتضى الآية الكريمة.

إذا كان مفهوم(القصد)عند القاضي عبد الجبار هو نفسه عند الجاحظ ـ المعنى ـوهو العلاقة بين الاسم و المسمى على مستوى المفردات اللغوية، وهذا القصد في حقيقة أمره ليس من صنع الفرد بحد ذاته، بل هو من صنع الجماعة عن طريق المواضعة على مسمّيات الأشياء؛ فإنّ مفهوم القصد يتّسع أكثر عند الباقلاني ليصل إلى مستوى التركيب اللغوي، ليعبّر عن المعنى الكائن والقائم في كل نفس ؛ فالكلام لا يمكن أن يكون له معنى في هذا الوجود إلا إذا كان شرطا المواضعة والقصد يسيران معا جنبا إلى جنب؛ ذلك أنّ الكلام « قد يحصل من غير قصد فلا يدل، ومع قصد فيدل ويفيد، فكما أن المواضعة لابد منها، فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مطابقا المواضعة»(13)،بمعنى أنّ المواضعة لا تكفي بمفردها لأن يقع الكلام ـ من خلالها ـ يحمل دلالة وفائدة ما لم تنفصل هذه الفائدة عن قصد المتكلم الذي يقصد بالكلام هذا دلالة معينة.

إنّ الكلام عند المعتزلة هو الدلالة الشرعية عند الباقلاني، بمعنى أنّ الكلام عندهم هو كلام الله تعالى شريطة أن يكون مصحوبا بشرط القصد، إلى جانب المواضعة، وذلك لوقوع الكلام يحمل دلالة؛ فالمتكلم بالدلالة الشرعية هو الخالق عز وجل. وكما اشترط المعتزلة أن تكون المواضعة سابقة على كلام الرب جل وعل،اشترطوا أيضا معرفة قصد المتكلم أي الخالق. وهذه المعرفة ـ كما أسلفنا ـ كل ما له علاقة بصفاته الفعلية، ما يجوز عليه منها وما لا يجوز، وعليه فالمعرفة العقلية عندهم سابقة على المعرفة الشرعية ومترتبة عليها.

وعلى هذا الأساس، كان من الطبيعي أن يكتفي الأشاعرة بشرط المواضعة دون اللجوء إلى شرط القصد؛ لأن القصد عندهم لا يمكن معرفته إلا بدلالة الكلام ـ بمعنى المتكلم بحد ذاته ـ ولذلك نجد الأشاعرة قد وحّدوا بين الكلام والمعاني النفسية أي ـ الدلالة والمدلول ـ واعتبروهما شيئا واحدا، قديما أزليا قائما بالذات القدسية، التي لا يستطيع معرفة كنهها وجوهرها العميق إلا هو سبحانه وتعالى.

وهذا على خلاف المعتزلة الذين اشترطوا المواضعة في ماهية الكلام، زيادة على شرط القصد في ما يتعلق الجانب التركيبي اللغوي، وبالتالي لم يوحّدوا بين الدلالة والمدلول أي بين الكلام والمعاني النفسية، بل حتى على مستوى الكلام الربّاني امتنع المعتزلة عن استخدام عبارة ـ المعاني النفسية ـ التي استخدمها الأشاعرة وعلى رأسهم الباقلاني،وإنما راحوا يستخدمون في مكانها كلمة ـالقصد ـ،وبذلك انتهى المعتزلة إلى الفصل بين المعنى واللفظ على مستوى المفردات، وإلى الفصل بين العبارة والمعنى على مستوى التركيب اللغوي.وإنّ الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة من هذا الجانب هو خلاف ديني أو كلامي ليس غير…

نأتي إلى علماء الأصول الذين كان همّهم الوحيد هم استنباط الأحكام الشرعية عن طريق أدلتها التفصيلية الواردة في واقع الخطاب القرآني،ومن ثمة وجدنا كل أصولي يفرد في مصنفه مقدمة لغوية يجعلها بمثابة الحجر الأساس للدخول في عملية استنباطية بالنسبة للأحكام الشرعية عن طريق أدلتها القطعية أو التفصيلية على حدّ تعبيرهم(14).وهم إذ يجعلون اللغة تحتل الصدارة في مصنفاتهم إنّما ليقرّوا إقرارا جازما وقاطعا بأنّ الغاية المثلى لا تكمن أساسا في ذاتية اللغة،وإنّما كإجراء تطبيقي تقعيدي يحاولون عن طريقه عدم الخروج عليه طرفة عين،جاعلين تلكم المفاهيم الشرعية المتعلقة بواقع الخطاب القرآني وكذا السنة النبوية هي وحدها المسيطرة على كافة الأبحاث الشرعية التي تتماشى مع السياقات والمقامات التي يتوقفون عندها.

إنّ إلقاء أدنى التفاتة إلى المدونة الأصولية فيما يخص قضية أصل اللغة ونشأتها يهدي بالعاقل إلى أنّ الأدلة التي استخدمها الأصوليون تنقسم قسمين:نقلية وعقلية. فالمحتجون بالجانب النقلي ذهبوا إلى أنّ اللغة توقيف من الخالق سبحانه وتعالى وإليه ذهب كل من أبي الحسن الأشعري،وابن فارس وغيرهما(15).على هذه الشاكلة راح هذا الفريق يستدل بتوقيفية اللغة بالنقل والعقل.أما النقل فمن ثلاثة أوجه:الأول:قوله تعالىوعلّم آدم الأسماء كلها(16)؛على أساس أنّ النص يدل بصريح العبارة أنّ الأسماء توقيفية معلمة من قبل الله تعالى،بل حتى الأفعال والحروف كذلك؛إذ لا قائل بالفرق ومن ثمة فالاسم ما سمّي بهذا المعنى الأخير إلا لأنّه علامة على مسمّاه.ومثله الأفعال وكذا الحروف. الثاني: أنّ الخالق سبحانه وتعالى ذم في كثير من السياقات أقوانا على تسميتهم بعض الأشياء من دون توقيف،نحو قوله تعالى:إن هي إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان(17)وعليه لو لم تكن هذه اللغة توقيفية لما صحّ هذا الذم من قبل واقع الخطاب القرآني.الثالث يكمن في قوله تعالىومن آياته خلقُ السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم(18)على أساس أنّ معنى لفظة الاختلاف الواردة في قوله تعالى إنّما المقصود منها اللغات لا اختلاف الألسنة اللحمانية(19).

وأما العقل –على حدّ اعتقادهم- فإنّه ينطلق من دليلين اثنين:الأول:أنّ الاصطلاح إنّما يكون في الغالب الأعم بأن تعرف كل ذات إنسانية أختها في الوجود بما هو كائن وموجود في ضميرها،وذلك لا يخرج عن إطار الألفاظ والكتابة،وكيفما كان،فإنّ هذا الطريق إن كان الاصطلاح لزم عنه الدور أو التسلسل،وإذن فلا بدّ أن يندرج تحت واقع التوقيف دون الاصطلاح،وهو المطلوب.والثاني: أنّ اللغة لو كانت بالمواضعة أو المواطئة لجوز الجانب العقلي اختلافها،وأنّها على غير ما كانت عليه،على أساس أنّ اللغات قد تبدلت وحينئذ لا يوثق بها(20).

ولقد ذهب أبو منصور الثعالبي إلى أنّ التوقيف وقع في البدء على لغة واحدة،وما سواها من اللغات وقع التوقيف عليها وذلك بعد ذلكم الطوفان المعبّر عنه في واقع الخطاب القرآني الذي أرسله الخالق سبحانه وتعالى على أولاد نوح حين تفرّقوا في أقطار الأرض.بل يذهب الثعالبي إلى أبعد من ذلك حين يروي حديثا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ أول من تكلّم بالعربية المحض إسماعيل وأراد بها عربية قريش التي نزل بها القرآن الكريم،وأما عربية قحطان وحمير فكانت قبل إسماعيل عليه السلام.وقال في شرح الأسماء ما يلي: قال الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين:إنّها كلها توقيف من الله تعالى(21).

على أنّنا نلفي انتباها إلى أنّ المفسرين قد ذكروا في تفسير قوله تعالىوعلّم آدم الأسماء كلهاأقوالا كثيرة يمكن إجمالها في محطات أساسية من أهمها:

* لقد أورد أبو حيان التوحيدي في تفسيره أنّ أظهر الأقوال وأبينها في معنى الفعل (علّم)الوارد في الآية الكريمة إنّما مفاده أنّ الخالق سبحانه وتعالى هو المعلم لا بواسطة ولا بالإلهام.وأنّ المراد بالأسماء أسماء جميع المخلوقات،أو أسماء الملائكة أو أسماء ذرية آدم عليه السلام،أو أسماء الأجناس على نحو ما نجده مثلا في:هذا اسم فرس،وهذا اسم بعير،وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية، واختاره الزمخشري.أو علّمه كل شيء أو أسماء الله تعالى،أو التسميات،أي علّمه أن يسمّي الأشياء،وليس المعنى علّمه الأسماء لأنّ التسمية غير الاسم،كما اختاره الجمهور.
* وذهب الألوسي إلى أنّ المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها أو أسماء ما كان وما يكون إلى قيام الساعة،وعزاه إلى عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما.وقيل في موطن آخر:اللغات،وقيل:الملائكة،وقيل:أسماء النجوم،وقيل:أسماء الله تعالى.هذا فيما يخص قضية الأسماء وورودها في الآية الكريمة،أما التعليم فقد خلق سبحانه وتعالى في ذاتية آدم عليه السلام بموجب استعداده الفطري/الوجودي علما ضروريا تفصيليا بتلكم الأسماء ومدلولاتها.وقيل في سياق آخر:إنّه خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدّا لإدراك أنواع المدركات، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها.
* ويذكر الطبري أنّ بعضا من العلماء يرى أنّه تعالى علّم آدم عليه السلام الأسماء التي يتعارف عليها الناس من إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وغزال وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.ثم قال له تعالى معبّرا عن هذه الحقيقة الوجودية المعرفية بقوله تعالى:يا آدم أنبئهم بأسمائهم فأنبأ كل صنف من الناس باسمه وألجأه إلى جنسه، ثم بعدها عرض تلكم الأشياء على واقع الملائكة فقال لهم بإذن تعالىأنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين(22).وقال قوم:علّمه كل شيء، وقال آخرون:علّمه أسماء الملائكة أو أسماء ذريته.وأصح الأقوال عند الطبري أنّه سبحانه وتعالى علّم آدم عليه السلام أسماء الملائكة وأسماء ذريته،دون أسماء سائر أجناس الخلق مستدلا في هذا المقام بقوله تعالى:ثم عرضهميعني بذلك أعيان المسمين بالأسماء التي علّمها آدم عليه السلام وهم بنوه والملائكة(23).

وراح المذهب الثاني والقائل بمبدأ الاصطلاح يحتج أيضا بدليلي:النقل والعقل وهو يتعامل مع قوله تعالىوعلّم آدم الأسماء كلّها.ففي الجانب النقلي قوله تعالى:وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه(24)بمعنى بلغتهم،وعليه يقتضي المقام من هذا المعنى الأخير تقدّم اللغة على بعثة الرسل،إذ لو كانت اللغة توقيفية لم يتصور ذلك إلا بالإرسال فيلزم الدور؛على أساس أنّ الآية تدل دلالة واضحة-على حدّ اعتقادهم- على سبق اللغات للإرسال،والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها.وردّ عليهم القائلون بمبدأ التوقيف بأنّ كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال،إنّما يوجب سبق الإرسال على التوقيف،لا سبق الإرسال على اللغات،لأنّ الإرسال لتعليمها،إنّما يكون بعد وجودها معلومة للرسل عادة،لترتيب فائدة الإرسال عليه.على أنّ آدم عليه السلام علمها،كما دلت عليه الآية، وإذا كان هو الذي علمها لأقدم رسول اندفه الدور(25).

أما الجانب العقلي في قضية نشأة اللغة فهو لا يخرج-عند أنصار هذا الفريق الأخير- عن دليلين اثنين:الأول:أنّ اللغة لو كانت توقيفية لصح أن يقال في حقّ الذات القدسية أنّها تخلق العلم الضروري بوضعها لتلك المعاني والأبعاد،أو لا يكون كذلك. ثم إنّ العلم الضروري لا يخلو أن يقال إنّه تعالى خلقه في عاقل أو في غير عاقل؛وباطل أن يخلقه في ذاتية عاقلة؛والعلة في ذلك بأنّه سبحانه وتعالى وضع هذه اللفظة لهذا المعنى،إنّما يتضمن العلم به تعالى وحده،فلو كان ذلك العلم ضروريا لكان العلم به تعالى ضرورياّ،ولو كان العلم بذاته سبحانه وتعالى ضروريا لبطل الجانب التكليفي،لكان ذلك باطل،لما ثبت أنّ كل عاقل يجب أن يكون مكلفا،وباطل أن يخلقه تعالى في غير العاقل،والسبب أنّ من البعيد أن يصير الإنسان غير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة والتركيبات اللطيفة.ومن ثمة-والحال كذلك- لا يجوز –في اعتقاد هذا الفريق- أن يكون العلم بها غير ضروري لأنّه إن لم يكن ضروريا احتيج إلى توقيف آخر،ولزم التسلسل(26).والدليل الثاني يكمن في أنّ الصلة القائمة بين الألفاظ ومدلولاتها هي صلة عرفية لا تخضع لمنطق أو عقل،فما سمّى بالشجرة مثلا كان يمكن أن يسمى بأيّ لفظ آخر،ولا يصح لهذا أن ينسب مثل هذا العمل الناقص لله تعالى.من هذا المنطلق فإنّ المعاني المشتركة في كل العقول البشرية راحت اللغات بفضل سرّها الفطري والوجودي تتخذ لها-للعقول- ألفاظا متباينة مختلفة لا يكاد يمت بعضها إلى بعض بصلة لها علاقة بالجانب العقلي(27).

ممّا تقدم يظهر لنا أنّ غالبية علماء الأصول على اختلاف تخصصاتهم بدأوا يفكرون في قضية نشأة اللغة،منذ الحضارة الإنسانية القديمة،وقد أطالوا -من خلال ما أشرنا إليه سالف الذكر بشيء من الإيجاز-البحث في أصل الحدث الكلامي ونشأته أثناء القرون الغابرة،وهم يفترضون الفروض في كثير من السياقات محاولين الكثير من التجارب،لكنّهم مع ذلك كلّه لم يهتدوا السبيل بعد هذا الجهد الطويل والشاق إلى رأي يجمعون عليه أو يطمئنون إليه،بل كان تفكيرهم في الغالب الأعم بدائيّا،وآراؤهم لا تخلو من الحدس والتخمين،وتبدو مضطربة،لا يكاد المرء ينتهي من قراءتها حتى يصير مبلبل الفكر،حائرا من كثرة الآراء والتخريجات التي لربّما لا تسمن ولا تغني من جوع(28).

هذه بعض من الأبعاد المتعلقة بأصل ونشأة اللغة عند القدامى على اختلاف اتجاهاتهم وهم يتعاملون مع واقع الخطاب القرآني المطلق،وذلك بإجراءات معرفية تتماشى وما يقتضيه الأفق الواقعي الحالي الذي ظلت الذات العاملة لم تستطع الانسلاخ عنه طرفة عين؛الأمر الذي جعل من الرؤية العلمية تنصاع إلى حدّ بعيد مع ما يقتضيه هذا الواقع الأخير.وإنّ قولنا بهذه العلاقة الكائنة بين اللغة وحركية السياق الواقعي المعرفي إنّما ينم عن مدى استقلالية البحث العلمي الإطلاقي من أن يتقيّد بشروط لعلّه يبتعد عن الجادّة لاسيّما وأنّنا عندما نريد التحدث عن المدونة التراثية فإنّ أهم طابع معرفي يميّزها هو هذه العلاقة الثنائية التي أضحت تتنوع من سياق معرفي لآخر،كل والشاكلة التي يؤمن بها ويعمل وفقها،جاعلا ذلك بمثابة الخلفية والمشرب الذي يُعدّ بحق من أهم مسلّمة وجودية ومعرفية تسير في ذاتيته لحظة معرفة وجوده المعرفي؛أين جعل من المصنفات المعرفية تختلف من مقام لآخر،كل والتناول الإجرائي الذي يطبّقه في حقله المعرفي،وهو ما ولّد فيما بعد مجموعة من الأحكام تارة تكون متماشية مع لبّ الحقيقة العلمية،وتارة أخرى مع ما تقتضيه الذاتية المنافية للبحث العلمي.

نقول بهذه الحقيقة ونحن على علم هو باليقين بأنّ مثل هذه الأحكام التي نجدها في مدونتنا التراثية الأصيلة جعلت الكثير من الباحثين على اختلاف نحلهم ومذاهبهم يصدرون أحكاما في حقّه كانت ولا زالت في الغالب الأعم تحتاج إلى من يزيل عنها غطاء التهم والهمجية العمياء؛الأمر الذي جعل من تراثنا الزاخر يُنظر إليه بمنظار لا يليق بمقامه لاسيّما الذين راحوا يعطون الأهمية البالغة للجانب التفويضي التسليمي وهم يقفون عند حدود النص دون مجاوزة ذلك بحال،مهملين من حسبانهم المعرفي الجانب العقلي؛على أساس أنّ ما هو كائن وموجود في واقع الخطاب القرآني المطلق كفيل لأن ينصاع إليه الجانب العقلي دون أن يُعمل جانبه الإجرائي والنظري المبني على الرأي والتدبر،في تخريج وتأويل كثير من القضايا التي توقف عندها هذا الجانب النقلي المحدود عن طريق ما يسمى بالوقوف عند النصوص أو مبدأ التفويض(29).

إنّها بدون شك حقيقة علمية نؤمن بها ونحن نتتبع مثل هذه القضايا،وغيرها كثر في المدونة التراثية،المتعلقة بأصل اللغة ونشأتها والتي راحت تُشغل كثيرا من العلماء على اختلاف تخصصاتهم المعرفية وهم ينظرون إليها نظرة لا تخرج عن الإطار الداخلي الواقعة فيه(النص القرآني)؛على الرغم من أنّنا نلفي انتباها ملحوظا جليّا أنّ الخالق سبحانه وتعالى عندما يتحدث عن العلاقة الكائنة والموجودة بين الذات الإنسانية والحدث الكلامي الربّاني إنّما يتحدث عنها من منظور إطلاقي يتماشى مع هذا الواقع الداخلي الإطلاقي الذي وجد فيه النص القرآني؛على أساس أنّه خاطب الذات الإنسانية لوحدها وذلك بلغة إطلاقية تتماشى وما بثّه صاحب الرعاية المطلقة فيها من أسرار فطرية ووجودية تسير جنبا إلى جنب مع السرّ الوجودي الإطلاقي

إنّ الحديث عن اللغة لا يستقيم البتة إلا إذا كان المنطلق الأول والوحيد-فيما نعتقد- هو الذات القدسية يوم كانت تسير في ومع كينونتها الإطلاقية،وهي مستقلة استقلالا مطلقا عن زمكانية،بل كل شيء على الإطلاق قبل أن تخلق هذا الخلق الذي ما علمنا منه وما نعلمه،كانت اللغة(الوحي)في هذه الذات القدسية الجليلة حيث راحت تحقق عملية تواصلية إطلاقية،ومن ثمة كانت هي الباث والمتلقية في الآن نفسه مستخدمة شفرة إطلاقية تليق بمقامها الإطلاقي.هكذا ظلت الذات القدسية حينا من الدّهر تخاطب نفسها بنفسها وهي مكتفية بالسّر الإطلاقي الحقيقي لمبدأ الكينونة الإطلاقية؛أين كان الوحي يسري وفق هذه المعاني النفسية الجليلة لا يخرج عنها طرفة عين؛الأمر الذي جعل فيما بعد أن خلق الخالق سبحانه وتعالى ذاتا إنسانية بثّ فيها أسرارا إطلاقية في فطرتها الوجودية والمعرفية على حدّ سواء،وذلك لكي تكون مؤهلة سلفا لأن تستقبل حدثه الكلامي الإطلاقي استقبالا يتماشى مع هذا الضابط الأخير،على الرغم من أنّه صرّح سبحانه وتعالى في موطن واحد لا شريك له من أنّ مسؤولية النص القرآني المطلق قد عرضها سبحانه على الوجود بأكمله لكنّه لم يستطع تقبّلها وتحمّلها،وإنّ التي تحمّلتها هي الذات الإنسانية بالرغم من جهلها وظلمها الفطري الوجودي الذي يتماشى مع سرّ وجودها المعرفي بكل صبر وتحمّل،متصلة ومتحلية بلغة إطلاقية استطاعت ولا زالت إلى حدّ بعيد أن تُحدث انسجاما معيّنا مع واقع الخطاب القرآني المطلق في لفظه ومعناه. يقول الخالق سبحانه وتعالى مبيّنا هذه الحقيقة ما بيانُه:إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنّها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنّه كلت ظلوما جهولا(30).

لكن يا ترى كيف يُفسّر الظلم والجهل الواقعان في سياق الآية الكريمة؛هل بتلكم المعاني التي ألفتها ذوات البشر من أنّ التصرف في حق الغير بغير ضابط شرعي ومعرفي وعلقي يعدّ من الظلم بعينه؟أم هو الظلم والجهل الكائنان في لبّ الحق الوجودي والمعرفي على حدّ سواء؟ثم هل هناك علاقة حميمة تربط بين ذاتية الفطرة الكائنة في الذات الإنسانية مع ما هو كائن في واقع الخطاب القرآني؟ وهل تستطيع الذات الإنسانية أن تتحلى بهذه اللغة الإطلاقية الواقعة في الخطاب القرآني لكي يتسنى لها شرعا ومعرفيا وعقليا إدراك البُعد الحقيقي للأمانة التي كلفت بها من أجل سبر أغوار كثير من القضايا الموجودة في هذا الوجود المطلق؟بل هل بالإمكان أن تستطيع الذات الإنسانية التحلي بلغة إطلاقية تدخل بها إلى واقع الخطاب القرآني ثم تعود إليه مرة أخرى؟ بل أبعد من ذلك كله كيف يكون التعامل مع هذا الواقع الإطلاقي؛هل باللغة الحاصلة للذات الإنسانية عن طريق انتمائها لرصيد معرفي معين أم أنّ المقام يستوجب منها أن تدخل بلغة القرآن الكريم حتى تكون عملية انسجامية بين لغة الوحي الإطلاقي مع لغة الفطرة السليمة؟

لعلها تساؤلات وجيهة نراها قد أغفلت من واقع تراثنا العربي الزاخر اللهم إلا على النزر القليل التي توقف عندها بعض من القدامى على نحو ما أشار إليه كل من: الزركشي في برهانه،والسيوطي في إتقانه،وابن خلدون في مقدمته وغيرهم كثر؛ هذه الإشارات التي استطاعت إلى حدّ بعيد سواء أقصد أصحابها أم لم يقصدوا،أن يعطوا إشارات إلى ذلكم العالم الإطلاقي الذي كانت تتحلى به اللغة وهي تتوسط بين الذات القدسية الجليلة والذات الإنسانية.ونحن إذ تجدنا نقول بمثل هذه الحقائق،إنّما لعلمنا بأنّه آن الأوان أن نقتحم مفهوم اللغة اقتحاما لا ينطلق من الجانب التقييدي المعياري الذي لا يسمن ولا يغني من جوع،وإنّما أن ننطلق ولو من بعض الجوانب من ذلكم السرّ الإطلاقي الذي جعله الخالق سبحانه وتعالى في هذا الوجود المطلق تلتجئ إليه الذات الإنسانية وهي تغترف منه كثيرا من الأبعاد والمعاني المعرفية قصد إدراك كنهها ووجودها الذي خلقت من أجله.ولكي نكون على بيّنة من أمرنا ممّا نصرّح به بصريح العبارة في شأن هذه العلاقة الكائنة بين الذات القدسية والذات الإنسانية من منظور واقع الخطاب القرآني المجسّد في بعد واقع اللغة الإطلاقية الواردة فيه،لا ضير من أن نسرد بعضا من النصوص الواردة في مدونتنا التراثية التي توقفت عند هذه الحقيقة دون أن نُدلي برأينا فذاك ممّا سنشير إليه في لبّ الإشكالية عند ندخل في غور التراث الصوفي.

* لقد ذهب الزركشي إلى أنّ أفهم كلامه جبريل عليه السلام وهو في السّماء،وهو عال من المكان،وعلمه قراءته،ثم جبريل أدّاه في الأرض وهو يهبط في المكان(31).
* ثم إنّ المنزّل كان من اللفظ والمعنى وأنّ جبريل عليه السلام حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به.وذكر بعضهم أنّ أحرف القرآن الكريم في اللوح المحفوظ كل حرف منها بقدر جبل قاف وأنّ تحت كل حرف معان لا يحيط بها إلا الله تعالى وهذا معنى قول الغزالي:إنّ هذه الأحرف ستر لمعانيه(32).
* وينسب إلى سهل بن عبد الله التستري قوله:«لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه،لأنّه كلام الله وكلامه صفته.وكما أنّه ليس لله نهاية،فكذلك لا نهاية لفهم كلامه،وإنّما يفهم كلّ بمقدار ما يفتح عليه»(33).
* بل نجد أبا بكر بن العربي يذهب إلى أنّ علوم القرآن لا تتناهى إذا ما أردنا أن نراعي تلكم الكلمات القرآنية التي هي-على حدّ اعتقاده-«خمسون علما وأربعمائة وسبعة آلف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن،مضروبة في أربعة.قال بعض السلف:إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحدّ ومطلع.وهذا مطلق دون اعتبار تراكيبه وما بينها من روابط. وهذا ما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله عزّ وجل»(34).

إنّها نصوص استطاعت أن تعكس إلى حدّ ما تلكم النظرة الموجهة أساسا إلى واقع الخطاب القرآني المطلق،وذلك بأدوات إجرائية علّها استطاعت إلى حدّ بعيد أن تتعامل مع اللغة الواردة في هذا الواقع الإطلاقي من بعض جوانبها الإطلاقية وإن كنّا سنتطرق إلى هذه المسألة في بعض فصول أبواب هذه الرسالة بشيء من البيان والتوضيح.

لا يمكن الحديث عن شيء يسمى لغة إطلاقية في حوالية تصوفية عرفت بذلكم المعنى الإطلاقي الذي ظل يصاحب واقع حركية اللغة منذ بزوغ هذه الذات التصوفية في هذا الوجود المطلق،إلا بالتطرق-ولو بإيجاز شديد-إلى ذلكم المعنى الذي له علاقة بالوجود لاسيّما وأنّنا نريد التوقف عند تلكم العمالية الانسجامية الواقعة بين ذاتي:اللغة والوجود.

يشير عثمان يحيي فيما يخص مراتب الوجود مبيّنا السياقات التي يرد فيها كل جانب وهو يختلف عن الآخر إلى أنّه ثمة:«وجود بشرط شيء،وهو الوجود الجزئي المقيّد بحدود الزمان والمكان والمادة.ووجود بشرط لا بشيء،وهو معارض للأول؛وهذا هو الوجود الكلي الذي هو مطلق بالقياس إلى الجزئي فقط. ووجود لا بشرط شيء،وهو المطلق الذي هو غير المقيّد بالإطلاق كالكلي،كما هو معلق عن التقييد وفي التقييد كالجزئي.وبديهي أنّ النمط الثالث من الوجود هو الذي يجب إسناده إلى ذات الحق-تعالى-ويُصحّ حملُه عليها.فوحدة الوجود في هذا الموطن،هي وحدة المطلق الذي هو وجود بذاته ومن ذاته ولذات.ولا يعقل تصور ثنائية أو كثرة في صعيد الوجود المطلق» (35).

إنّه الوجود المطلق وهو يتوسّط بأسراره المعرفية بين هذه السياقات المشار إليها في طيات النص؛الأمر الذي يجعل المتخصص في مثل هذا الحقل المعرفي التصوفي يدرك لا محالة بأنّ هناك علاقة حميمة بين السر الوجودي وما هو كائن ومبثوث في فطرة اللغة،وهو ما جعل اللغة عند المتصوفة تصطبغ بصبغة إطلاقية لأنّها استطاعت أن تقتحم عالم الوجود المطلق ومن ثمة عالم الخطاب القرآني بل عالم النصوص على الإطلاق.لكن يا ترى كيف كانت نظرة المتصوف إلى قضية اللغة:هل من داخلها أم من خارجها؟ ثم إذا كان الأمر من داخل اللغة هل بمقدور الذات المتصوفة إدراك السر الوجودي/الإطلاقي لها ومن ثم للوجود المعرفي الإطلاقي المبثوث من قبل الله تعالى في هذا الوجود المطلق؟ ثم ما هو الموطن أو السياق الذي راح المتصوف يغترف منه هذه الحقيقة المطلقة وهو يريد معرفة غور وسبر بُعد اللغة لكي يعيش في تجربة لغوية إطلاقية تؤهله سلفا لأن يقتحم عالم النصوص بشيء من التحليل والبيان؟بل هل نستطيع التحدث عن إطلاقية اللغة التصوفية بمعزل أو في غياب الحديث عن العقل المطلق الذي خرجت منه اللغة وترعرعت في أحضانه؟.ثم هل هذه المعاني والأبعاد التي نراها تصب في عمق الجانب اللغوي نجد ما يبرّرها معرفيا وإجرائيا في واقع تراثي حدّد في ظل طبيعة الموضوع وهو الواقع الجزائري المحدد عند تلكم الشخصية الملقبة بـ:الشيخ عدّة بن تونس العارف بالله تعالى؟هل ما خلفته هذه الشخصية العارفة من زاد معرفي،وبخاصّة الجانب اللغوي-النحو/الصرف،والدلالة-يؤهلها فعلا لأن يقام في حقها مثل هذه الدراسات الأكاديمية أم لا؟

نسلسل القول في ذاتية اللغة التصوفية الإطلاقية لنقول بأنّه لا يُعقل الحديث عن واقع إطلاقي يلامس اللغة وهي تتوسط بين عالمين اثنين:التقييد والإطلاق،دون أن نتحدث عن الجانب العقلي الإطلاقي الذي لربّما مرت وفقه الذاتية اللغوية وهي تريد فرض وجودها المعرفي من أجل سبر غور الذات الإنسانية التي ستتلقى الحدث الكلامي بكل ملابساته الداخلية والخارجية على حدّ سواء.من هذا المنطلق راح مفهوم العقل يساوي مفهوم الوجود المطلق الذي جعله الخالق سبحانه وتعالى سرّا من أسراره تتوسط من خلاله الذات الإنسانية من أجل معرفة السرّ الجوهري لعالم الإطلاق سواء ما تعلق الأمر بالعقل كعقل،أم باللغة التي سيتخذها المتصوف فيما بعد أداة وإجراءا وهو يتعامل مع عالم الوقائع والمستجدات التي تسير جنبا إلى جنب مع حركية الوجود المطلق تبعا للذات العارفة والعاقلة على حدّ تعبير أهل التصوف. وعليه فهذا العقل-بكل ملابساته الداخلية والخارجية-«وجوده لا بذاته بل بإبداع المتعالي سبحانه إيّاه...فيكون ذلك الواحد المتقدم الرتبة وجوده لا بذاته،بل هو في ذاته فعلُُ عمّن لا يستحق أن يُقال إنّه فاعل،وهو مفعول لا من مادة،وهو فاعل لا في مادة هي غيره»(36).إنّه الوجود العقلي المطلق الذي يسير مع عالم الذات الألوهية المطلقة فيما أوجبت عليه التحلي بالسرّ الإطلاقي في ذاته وماهيته من أجل أن يدرك غور الأشياء والأبعاد.

في هذا الصدد أو السياق يذهب ابن عربي(ت 638ه)كغيره من المتصوفة إلى أنّ هناك علاقة حميمة بين العقل الأول والنفس الكلية؛على أساس أنّه يجعل العقل الأول يرتبط أساسا بالقلم،في حين يربط النفس الكلية باللوح المحفوظ،وهي حقائق صوفية جعلت من الكرماني يعبّر عن ماهية العقل الأول بأنّه هو«الحق والحقيقة،وهو الوجود الأول،وهو الموجود الأول، وهو الوحدة، وهو الواحد،وهو الأزل،وهو القدرة،وهو القادر الأول، وهو الحياة، وهو الحيّ الأول،ذات واحدة تلحقه هذه الصفات يستحق بعضها لذاته،وبعضها إلى غيره من غير أن تكون هناك كثرة بالذات»(37).

إنّها تخريجات تصوفية يغلب عليها الطابع الروحي الباطني الإطلاقي الذي يتماشى وما تربت الذات المتلقية في أحضانه منذ زمن؛الأمر الذي جعل منها أن تنماز برصيد معرفي أهلها سلفا لأن تقتحم هذا النوع من الإجراء النظري والتطبيقي الذي كتب لها الزمن الاستمرارية والبقاء.وفق هذا المعطى لمفهوم العقل-وهناك الكثير من التعريفات لا داعي لذكرها والتوقف عندها فهي موجود في المدونة التصوفية- راح ابن عربي يقيم علاقته التخريجية لمفهوم اللغة ابتداء من تلكم الحروف التي وجد سرّها الوجودي والمعرفي يتماشى إلى حدّ بعيد مع عالم الإطلاق،بل أبعد من ذلك حين نجده يقيم عملية ربطية بين حروف اللغة وتلكم الأسماء المتعلقة بالذات القدسية الجليلة.

يشير ابن عربي الصوفي في تلكم الموازنة القائمة بين مراتب الوجود وحروف اللغة إلى ما بيانُه:«فأوجد العالم على عدد الحروف من أجل النفس في ثمانية وعشرين لا تزيد ولا تنقص.فأوّل ذلك العقل وهو القلم...ثم النّفس وهو اللوح المحفوظ،ثم الطبيعة،ثم الهباء،ثم الجسم،ثم الشكل،ثم العرش،ثم الكرسي،ثم الأطلس،ثم فلك الكواكب الثابتة،ثم السماء الأولى،ثم الثانية،ثم الثالثة،ثم الرابعة،ثم الخامسة،ثم السادسة،ثم السّابعة،ثم كرّة النار،ثم كرّة الهواء،ثم كرّة الماء،ثم كرّة التراب،ثم المعدن،ثم النبات،ثم الحيوان،ثم الملك،ثم الجن،ثم البشر،ثم المرتبة،والمرتبة هي الغاية في كل موجود،كما أنّ الواو غاية حروف النّفس»(38). لعل أغلى ميزة ينماز بها هذا النص المستشهد به فيما يتعلق بالعلاقة القائمة بين حروف اللغة وحركية الوجود المطلق ذلكم السرّ الربّاني الإطلاقي الكائن بين كل من:أسمائه القدسية سبحانه وتعالى وما له علاقة بكل حرف استطاع إلى حدّ ما أن يعبّر عن هذه الأسماء القدسية تعبيرا إطلاقيا يتماشى وما تقتضيه الذات القدسية.ولعمري إنّها بدون شك الحروف اللغوية الإلهية التي لا يحوي بعدها الوجودي والمعرفي إلا خالقها سبحانه وتعالى.

وفق هذه الشاكلة الفطرية والوجودية الكائنة بين الذات القدسية وعالم الذات الإنسانية راحت تلكم الحروف الإطلاقية تنماز بشيئين اثنتين:أحدهما باطني روحي يتماشى وما يليق بأرواح الأسماء الإلهية،والثاني ظاهري والمتمركز في الغالب الأعم إماّ في شكل عملية نطقية (الصوت)،أو في شكل عملية خطية(الكتابة)وهما مع ذلك كله لا يخرجان عن السرّ الإطلاقي. يقول ابن عربي ما نصّه:«وجميع الأسماء الإلهية المختصة بهذا الإنسان معلومة محصاة،وهي الرفيع الدرجات،الجامع،اللطيف، القوي،المذل،رازق،عزيز،مميت،محيي،حي،قابض،متين،محصي،مصور،نور، قاهر، عليم،ربّ،مقدّر،غني،شكور، محيط ،حكيم،طاهر،آخر،باطن،باعث، بديع، ولكل اسم، من هذه الأسماء روحانية ملك تحفظه وتقوم به وتحفظها،لها صورة في النّفس الإنساني تسمى حروفا في المخارج عند النطق، وفي الخطّ عند الرقم،فتختلف صورها في الكتابة ولا تختلف في الرقم»(39).

بل أبعد من ذلك حين يرى ابن عربي بأنّ واقع الخطاب القرآني إنّما هو عبارة عن مصحف صغير بالنسبة للمصحف الكبير الذي هو العالم أو الوجود المطلق«الذي تلاه الحقّ علينا تلاوة حال كما أنّ القرآن تلاوة قول عندنا.فالعالم حروف مخطوطة مرقومة في رقّ الوجود المنشور،ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا تنتهي»(40).

واللافت للانتباه أنّ أمر الحروف اللغوية في علاقتها بحركية الوجود المطلق لا يقف عند ذلكم الجانب الإطلاقي البعيد عن تأثيره الفعّال وهو يريد استقبال عالم الذات الإنسانية من أجل سبر غور الأشياء التي بثّها صاحب الرعاية المطلقة في هذا الوجود المطلق، وإنّما يبتعد الأمر ليصل إلى إدراك هذه العلاقة الكائنة بين الحروف والعالم الإطلاقي إلى ما أسماه الخالق في محكم تنزيله بـ:الكلمة؛هذه اللفظة المحدودة من حيث الجانب التركيبي وكذا الصوتي،المطلقة من حيث الدلالة الوجودية والتي جعلها الخالق مجسّدة في الفعل الكينوني الإطلاقي كن.هذا الفعل الذي عن طريقه ظهرت غالبية الموجودات ما علمت منها النفس البشرية وما لم تعلمه،وذلك في صورة هذه الكلمة الإلهية. يقول ابن عربي في هذا المقام ما بيانُه:«اعلم أنّ الممكنات هي كلمات الله التي لا تنفد وبها يظهر سلطانها الذي لا يبعد،وهي مركبات لأنّها أتت للإفادة فصدرت عن تركيب يعبّر عنه باللسان العربي بلفظة-كن- فلا يتكون منها إلا مركب من روح وصورة،فتلتحم الصور بعضها ببعض لما بينها من المناسبات...والمادة التي ظهرت فيها الكلمات هي نفس الرحمن ولهذا عبّر عنه بالكلمات»(41).

على هذا الأساس راحت الذات التصوفية تقترب من صفة الإطلاق لكي تتحلى بهذه الكلمات الإلهية الإطلاقية وهي تتعامل مع واقع الأحداث والوقائع المستجدة والمتغيرة تبعا لحركية السياق الواقعي؛الأمر الذي اكتسبها في ما بعد لغة إطلاقية أهلتها سلفا أن تدرك الفهم المطلق لأنّها تتمتع بصفة الكمال أو الذات العارفة الكاملة التي يمكن لها أن تنوب عن الله تعالى في إيجاد ما يتكلم به سبحانه وتعالى تبعا لمقتضى عالمه الإطلاقي،ومن ثم فإنّ«...العالم كلّه لا يعرف من الموجودات التي هي كلمات الله إلا وجود أعيانها خاصّة.ولا يعلم ما أريدت له هذه الموجودات سوى أهل الفهم عن الله تعالى. والفهم أمر زائد على كونه مسموعا،فكما ينوب العبد الكامل الناطق عن الله تعالى في إيجاد ما يتكلم به بالفصل بين كلماته-إذ لولا وجوده هناك لم يصح وجود عين الكلمة-كذلك ينوب في الفهم مناب الحق»(42).

إنّها العلاقة الحميمة الجامعة بين لغة الفطرة الإنسانية بكل ما هو مبثوث فيها من أسرار ونواميس،وما هو كائن في لغة الذات القدسية الجليلة؛الأمر الذي يجعل من الذات الإنسانية عند تحلّلها في معراجها إلى ربّها وبارئها،آخذة تلكم المواصفات التي لها علاقة بلغة الإطلاق؛فإنّها لا محالة تستطيع أن تدرك تلكم العلاقة الكائنة والموجودة بين اللغة كإطلاق وما هو في الوجود المطلق من أبعاد معرفية هي في أمس الحاجة إليها وإن كنّا نرى أنّ المتصوفة عند حديثهم عن هذا الجانب إنّما يربطونه بالتجلي اللغوي الوجودي المتجسّد في بعد الكلمات في علاقتها بحروف اللغة(43).

لعلها نظرة-على ما نعتقد-تقترب اقترابا جليا وبوضوح مع تلكم النظرة الاعتزالية التي أشار إليها الحارث المحاسبي(ت 243ه) حين كان يشرح معنى الدليل وهو يتوسط بفطرته الوجودية والمعرفية على حدّ سواء بين العيان الظاهر والمتمثل في العالم كله الذي هو الشاهد يدل على الغائب،والخبر القاهر والمتمثل في الشرع سواء في القرآن الكريم أم السنة النبوية؛على أساس أنّ الخبر يدل دائما وأبدا على صدق ليس إلا. يقول الحارث المحاسبي في هذا الصدد ما نصّه:«إنّ الأدلة نوعان:عيان ظاهر،أو خبر قاهر. والعقل مضمّن بالدليل،والدليل مضمّن بالعقل .والعقل هو المستدل.والعيان والخبر علة الاستدلال وأصله.ومحال كون الفرع مع عدم الأصل،وكون الاستدلال مع عدم الدليل.فالعيان شاهد يدل على الغيب.والخبر يدل على صدق،فمن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سفّه»(44).

نعود لنقول تبعا لهذه العملية الربطية المختصرة القائمة بين اللغة والوجود المطلق والتي تنم-في اعتقادنا-عن مدى مساهمة الذات المتصوفة في ربط الحدث اللغوي بعالمه الإطلاقي في جل السياقات المعرفية،وهو أمر يجعلنا نقترب من تلكم الحقيقة التي ظلت الذات الإنسانية تسمعها أو تنقلها سلفا عن خلف دون أن تدرك بُعدها في الحوالية الواردة في مدونتنا التراثية العظيمة وذلك على اختلاف اتجاهات أصحابها إذ الأشياء بضدّها تتبيّن .قلت نقول إذا كان مفهوم الحدث الكلامي يختلف عند كل من:النحاة،وعلماء الأصول، والفلسفة،والمفسرين؛إذ كل واحد راح ينظر إليه من زاوية تقعيدية معيارية لا تتجاوز حدود الحوالية اللغوية التي دأب عليها،كل والشاكلة التي ينتمي إليها دون أن يسمح لنفسه بالخروج عنها طرفة عين. إذا كان الأمر كذلك؛فإنّ المتصوفة-على حدّ اعتقاد ابن عربي ومن تبعه من المتصوفة-يذهبون إلى أنّه إذا كان الكلام العربي يقوم أساسا على علاقة المسند بالمسند إليه؛فإنّه عند المتصوفة لا يخرج عن تلكم العلاقة الثلاثية الذي لا يستطيع الحدث الكلامي الانسلاخ عنها البتة،وهي:الذات والحدث والرابطة،أو بتعبير لغة التصوف :الذات القدسية الغنية بذاتها عمّن سواها،والحدث والمتمثل في العالم بكل مراتبه الداخلية والخارجية،ثم الرابطة بين الذات القدسية والحدث والمعبّر عنها بمبدأ الألوهة.على هذه الشاكلة راح مفهوم جوامع الكلم المنسوبة إلى النبي عليه السلام يأخذ طابعه الوجودي والإيبستمولوجي من منظور تصوفي محض؛على أساس لم يلغ المعنى الإطلاقي للحدث اللغوي المبني أساسا على الحدث الكلامي المتلفظ من قبل الذات الإنسانية

يقول ابن عربي مبيّنا تلكم الحقيقة الوجودية والمعرفية التي أوتي بها النبي عليه السلام-جوامع الكلم- ما بيانُه:«إنّ جوامع الكلم من عالم الحروف ثلاثة:ذات قائمة بذاتها، وذات فقيرة إلى هذه الغنية غير قائمة بنفسها،ولكن يرجع منها إلى الذات الغنية وصف تتصف به يطلبها بذاته،فإنّه ليس من ذاتها إلا بمصاحبة هذه الذات لها،فقد صحّ أيضا الفقر للذات الغنية القائمة بنفسها كما صحّ للأخرى. وذات ثالثة رابطة بين ذاتين غنيتين،أو ذاتين فقيرتين،أو ذات فقيرة وذات غنية.وهذه الذات الرابطة فقيرة لوجود هاتين الذاتين ولا بد،فقد قام الفقر بجميع الذوات من حيث افتقار بعضها إلى بعض-وإن اختلفت الوجوه -حتى لا يصح الغني على الإطلاق إلا لله تعالى الغني الحميد من حيث ذاته.فلنسمّ الغنية ذاتا،والذات الفقيرة حدثا،والذات الثالثة رابط،فنقول الكلم محصور في ثلاث حقائق ذات وحدث ورابطة.وهذه الثلاثة جوامع الكلم فيدخل تحت جنس الذات أنواع كثيرة من الذوات،وكذلك جنس كلمة الحدث والروابط»(45).

على هذه الشاكلة المعرفية والوجودية راح غالبية المتصوفة يقتحمون عالم النصوص لاسيّما النص القرآني الذي لربّما توقفت عنده الذوات على اختلاف نحلها ومذاهبها منذ نزوله إلى يومنا هذا ولكنّها لم تستطع لجهلها أو تجاهلها للسرّ الإطلاقي الذي يسير أولا مع ذاتية اللغة الإطلاقية الفطرية،وثانيا مع تلكم العلاقة الحميمة الكائنة بين لغة الخطاب القرآني وما هو مبثوث في هذه الذاتية الأخيرة؛الأمر الذي راح يسبّب الكثير من الملابسات على واقع الألفاظ التي جعلها الخالق سبحانه وتعالى في هذا الواقع الإطلاقي تسير في حوالية إطلاقية لا يدركها إلا من كان يملك هذا الضابط الأخير.يقول ابن عربي وهو يبيّن هذه الحقيقة ما نصّه:«إنّ الإنسان ينطلق بالكلام يريد به معنى واحدا مثلا من المعاني التي يتضمنها ذلك الكلام.فإذا فُسّر بغير مقصود المتكلم من تلك المعاني فإنّما فسّر المفسّر بعض ما تعطيه قوة اللفظ،وإن كان لم يُصب مقصود المتكلم،ألا ترى الصحابة عليهم الرضوان كيف شقّ عليهم قوله تعالىالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم»فأتى به نكرة فقالوا: وأيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟، فهؤلاء الصحابة وهو العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ما عرفوا مقصود الحق من الآية والذي نظروه سائغ في الكلمة غير منكور،فقال لهم النبي عليه السلام،ليس الأمر كما ظننتم وإنّما أراد الله بالظلم هنا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه:يا بني لا تشرك بالله شيئا إنّ الشرك لظلم عظيمفقوة الكلمة تعمّ كل ظلم،وقصد المتكلم إنّما هو ظلم مخصوص...ولذلك تتقوى التفاسير في الكلام بقرائن الأحوال، فإنّها المميزة للمعاني المقصودة للمتكلم»(46).

وفق هذا المعطى الأنطلوجي/الإيبستمولوجي لواقع اللغة راح ابن عربي كغيره من المتصوفة ينظر إلى واقع الخطاب القرآني على أنّه لا يقف مفهومه الدلالي على نية المنقول دون أن يتعدّاه بحال،وإنّما يبتعد الأمر ليصل إلى معناه الحقيقي الذي يصب في على معنى الجمع والتركيب والشمولية المطلقة التي تسير جنبا إلى جنب مع إطلاقية الخطاب القرآني؛على أساس أنّه يحوي في باطنه على الحقيقة المطلقة أو ما يسمّيها المتصوفة بحقيقة الحقائق.يقول ابن عربي:«فمن وقف مع القرآن من حيث هو قرآن كان ذا عين واحدة هي أحادية الجمع»(47).

في هذا الإطار غذى المتصوفة يفكرون في شيء يسمى كتابة أو(تجربة)علّهم ينمازون عن غيرهم من الفرق الإسلامية الأخرى بشيء عساه يكون ذا بال في المدونة التراثية التي تحيا في ظلّها الذات الإنسانية فتغترف منها ما يؤهلها لإدراك عمق المعرفة. لكن هل هناك علاقة حميمة بين الحدث الكلامي وما تقوم عليه التجربة اللغوية؟ هل بالإمكان عندما نريد التحدث عن واقع الكتابة التحدث عن كينونة هذه الكتابة من زاوية وجودية ومعرفية؟هل نستطيع أن نجعل علاقة حميمة بين الكتابة وما هو سائر في الواقع الاجتماعي على أساس أنّ الكتابة هي من هذا الواقع لا تستطيع أن تتجاوزه بحال من الأحوال؟ ثم ما هو المنبع الوحيد الذي كانت تستقي منه الذات المتصوفة تجربتها اللغوية أهو الإطلاق اللامحدود أم هو التقييد المحدود؟بل أبعد من ذلك كله ما السرّ الذي ميّز التجربة اللغوية عند المتصوفة عن باقي التجارب اللغوية الأخرى الموجودة في المدونة التراثية؟ وهل نستطيع أن نفكر في لغة التجربة اللغوية من داخل تلك اللغة ذاتها لكي نطل عن السّر الإطلاقي الذي راح يميّزها في كثير من السياقات المعرفية؟وهل وُفّقت هذه التجربة التصوفية في أن تعطي لنفسها رصيدا معرفيا لا يستهان به البتة ومن ثمة فرض وجودها المعرفي عبر تتابع الأزمان تماشيا مع ما يقتضيه السياق الواقعي المتغير والمتجدد؟.

هي إذن رؤية نحسبها علمية راحت تعطي بعضا من الأبعاد للإطار العام الذي تسبح فيه اللغة في مستواها الإطلاقي،محاولة التقيد بتلكم التجربة التصوفية الإطلاقية التي جعلت الكتابة التصوفية تستطيع إلى حدّ بعيد أن تعيش في أغوار مبدأ الإطلاق الكائن في ذاتية اللغة؛الأمر الذي جعل من هذه الرؤية أن حققت تقاطعا معرفيا لا يستهان به بينها وبين ما أشار إليه كل من هايدجر وجادمر الألمانيين في بحثهما عن الإطار التأويلي في علاقته بذاتية اللغة، وهو ما سنكتب فيه إن شاء الله في العدد القادم.

  1. الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين.تحقيق:محمد محيي الدين عبد الحميد.مكتبة النّهضة المصريّة. 1970. 1/ 245 .
    -# القاضي :المغني في أبواب العدل والتوحيد. تحقيق تحت إشراف طه حسين وإبراهيم مدكور. وزارة الثقافة والإرشاد القومي. مصر. 19601965.. 7/ 492 .
  2. الباقلاني:الأنصاف في ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به. تحقيق: السيد عزات عطار الحسيني. تعليق وتقديم: محمد زاهر الكوثري: مكتب نشر الثقافة الحديثة، مصر، سنة 1950م، ص23 .
  3. البقرة:الآية 31
  4. ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها. عنيت بتصحيحه ونشره المكتبة السلفية، مطبعة المؤيد، القاهرة ،1910م، ص5 .
  5. ابن فارس: الصاحبي.المصدر نفسه.
  6. المصدر نفسه. ص:6
    القاضي عبد الجبار: متشابه القرآن.تحقيق عدنان محمد زر زور. دار التراث. القاهرة 1966م. ص: 83ثـ84.
  7. الباقلاني: الإنصاف. ص:53 ،وانظر أيضا في هذا الصدد البغدادي: أصول الدين، ص:114ـ115 وهو أيضا يوحد بين الاسم والصفة .
  8. الجاحظ: البيان والتبيين. تحقيق: عبد السلام هارون. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. ط1 ، القاهرة 1943م، ص245
  9. القاضي: المغني . المصدر السابق.. 5/ 169.
    الزمخشري:الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. القاهرة.1966م. 1 / 272
  10. القاضي: المغني . 15/ 165.
  11. هذه أهم ميزة يمتاز بها التراث الأصولي في مصنفاته الأصولية وهم يتعاملون مع النصوص التشريعية قصد استنباط الأحكام الشرعية عن طريق أدلتها التفصيلية؛الأمر الذي جعل من غالبية الأصوليين يتعاملون مع اللغة كوسيلة ليس إلا على أساس أنّها تابعة للخطاب القرآني وليست مستقلة عنه،فهي منه وهو منها.غير أنّ ما يلفت الانتباه القارئ المتخصص في مثل هذا النوع من المعرفة يدرك التناقض بعينه في تعريفات علماء الأصول الذين اهتموا بدراسة الحدث اللغوي بمنظار عقلي كلامي إذ راحوا يجعلون من اللغة أداة تستطيع الذات الإنسانية أن تعبّر عن طريقها على المعنى الحقيقي لوجودها المعرفي والخلقي على حدّ سواء.ولعله السبب الرئيس الذي جعل من التراث الأًصولي ينقسم قسمين في تعامله مع اللغة:قسم راح لا يخرج عن الجانب التقعيدي المعياري وهو يتناول الأحكام الشرعية من نصوصها القرآنية وكذا النبوية،وقسم آخر حاول أن يضفي علبها اللغة صبغتها الوجودية الإطلاقية لأنّه تعامل معها على أساس نية الإطلاق الكائن في ذاتيتها فهي شاملة وإطلاقية تستطيع أن تفي بكل ما تحتاجه الذات الإنسانية لحظة قربها من واقع المعرفة التي كلّفت بها. عن هذه الحقيقة يمكن الرجوع إلى بعض من المؤلفات لعل من أهمها ما يلي:
     نصر حامد أبو زيد:
    الاتجاه العقلي في التفسير،دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة. دار التنوير للطباعة والنشر،بيروت ط2/ 1983.
     الخطاب والتأويل. المركز الثقافي العربي. ط1/ 2000م.
     إحسان عباس:تاريخ النقد الأدبي عند العرب. بيروت. لبنان. 1971م.
     ابن رشد: فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق: عبد الكريم المرّاق.تونس. ط1/ 1991م. وغيرها كثر.....
  12. ينظر في هذا المقام وفيات الأعيان. 3/403. طبعة القاهرة 1948م.
  13. من سورة البقرة الآية 31.
  14. من سورة النجم الآية 23.
  15. من سورة الروم الآية 22.
  16. ينظر السيوطي: المزهر في علوم اللغة وأنواعها. منشورات المكتبة العصرية. بيروت. 1987م. 1/1719.
  17. المصدر نفسه.
  18. المصدر نفسه. 1/17.
  19. من سورة البقرة الآية :3233.
  20. عن هذه النقاط الثلاث يمكن الرجوع إلى ما يلي:
    أبو حيان التوحيدي: البحر المحيط
    الطبري: جامع البيان في تأويل آي القرآن
  21. سورة إبراهيم الآية 4.
  22. إنّ مقصود وجه الاندفاع الكائن مع وجود ذاتية آدم عليه السلام فيما يخص قضية نشأة اللغة،إنّما يكمن أنّ لآدم حالتين في التعامل مع واقع اللغة: حالة تصب في عمق النبوة وهي الأولى وفيها يتجسّد واقع الوحي الذي من جملته تعليم اللغات، وعلمها الخلق إذ ذاك، ثم بعث بعد أن علمها قومه، فلم يكن مبعوثا لهم إلا بعد علمهم اللغات،فبعث بلسانهم،وبهذا تكون نبوته متقدمة على رسالته والتعليم متوسط،وهذا وجه اندفاع الدور. عن هذه المعاني والأبعاد يمكن العودة إلى السيوطي: المزهر. المصدر السابق. 1/16 وما بعدها بشيء من التصرف قصد البيان والإيضاح ليس إلا.
  23. ينظر السيوطي. المزهر. 1/1112. وكذلك الشوكاني :إرشاد الفحول.ص:1213.
  24. ينظر في هذا المقام. إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ. مكتبة أنجلو المصرية. ط2، 1972م. . ص:14 وما بعدها بشيء من التصرف.
  25. ينظر إبراهيم أنيس. دلالة الألفاظ. المرجع السابق. ص: 11.
  26. عن هذه الحقيقة المعيارية التي تصب في عمق المعنى الذي له علاقة بمبدأ التفويض والتسليم يمكن الرجوع يمكن الرجوع إلى أهم من يمثّله وهو شيخ الإسلام ابن تيمية: شرح العقيدة الوسطية. تأليف محمد خليل هراريس. مكتبة الزهراء. الجزائر. 1990م. ص: 16. ومن أراد المزيد فليرجع إلى: كتاب الصواعق المرسلة لبن القيم الجوزية ص ص: 5،6، 13،17، 21،60، 83، 85.من المجلد الأول على سبيل المثال لا الحصر. وكذا د/ محمد الذهبي: التفسير والمفسرون ج1 ص ص: 284،285.
  27. من سورة
  28. الزركشي: البرهان في علوم القرآن.ط3، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت،لبنان،1977م. 1/229.
  29. المصدر نفسه.
  30. المصدر نفسه. 1/9.
  31. المصدر نفسه. 1/17. ولمن أراد التفصيل في هذه الحقيقة فليرجع إلى كل من:
    ابن خلدون: المقدمة. ص ص: 95،96، 98، 100، 101، 108، ...
    السيوطي: الإتقان في علوم القرآن. 1/208، 1/50، 1/1011.....
  32. عثمان يحيي: نصوص تاريخية خاصّة بنظرية التوحيد في التفكير الإسلامي. نقلا عن نصر حامد أبو زيد: فلسفة التأويل(دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي).ط4، المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. 1998م. ص: 32.
  33. الداعي حميد الدين الكرماني: راحة العقل.تحقيق: كامل حسين ومحمد مصطفى حلمي. دار الفكر العربي. 1952م. ص: 60.
  34. المصدر نفسه. ص: 82.
  35. ابن عربي: الفتوحات المكية.دار صادر. بيروت. بدون تاريخ. 2/395، 421،469 وغيرها كثر.
  36. ابن عربي. المصدر نفسه. 2/487488.
    المصدر نفسه. 1/101.
  37. المصدر نفسه. 4/65.
  38. المصدر نفسه. 3/284.
  39. المصدر نفسه. 1/168.
  40. الحارث المحاسبي: العقل،وفهم القرآن.تحقيق: حسين القوتلي.دار الفكر،بيروت،1971م.ص:232.
  41. ابن عربي . الفتوحات. المصدر السابق. 1/86.
  42. ابن عربي. المصدر نفسه. 1/135136.
  43. المصدر نفسه. 3/94. وينظر كذلك كتابه فصوص الحكم. تحقيق: أبو العلاء عفيفي. دار الكتاب العربي. بيروت. ط2، 1980.
ابن عربي نموذجا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى