التراث فی شعر أحمد شوقي
– أستاذ فی جامعة آزاد الاسلامیة - فرع آبادان
– وطالب فی مرحلة الدکتوراه في جامعة آزاد الاسلامیة،
فرع علوم وتحقیقات-طهران
کان شوقي من بین الذین قاموا بزعامة ادبیة لمصر، فجاء بعطاءٍ ادبي عظیم ، فبعث روح الصمود والحرکة والقوة والعزوالشموخ في جسد شعبه لینال سیادته والحفاظ علیها في وجه الاعداء، فکان قسما عظیما من هذا العطاء الادبي یعکس تراثا قیما افاد به الشعب المصري والامة العربیة ادبیا وتاریخیا واستندت الامة علیه لتواجه کل المخاطر التي ظهرت بسبب المحتل لتنال من کرامة هذه الامة.
فظهر شوقي کمورخ یتحدث عن اللغة العربیة وتطورها وما صارعته به لتجاري الحضارات المختلفة.
کما یتحدث عن مصر وامجادها ویشید بفراعنتها واهراماتها ونِیلها لیتخذ من هذه الامور مثلا حیا لکل مصري ومثلا حیا للشعور القومي لصیانة الکرامة والسیادة امام الغاصبین .
ویتحدث عن ولادة الاسلام وظهور نبي الرحمة وما حفلت به حیاته الکریمة من جهاد وکفاح فِي سبیل الدعوة لتثبیت ارکان هذا الدین.
وایضا یتناول الحدیث عن قیام الدولة الامویة والعباسیة والفاطمیة، کما ابدی رأیه الفلسفي في معارضة فلسفة علماء کبار ظهروا فی العصور القدیمة، کافلاطون وابن سینا.
کما یبرز هذاالتراث القدیم في شعر شوقي من خلال مسرحیاته مثل (مصرع کلیوباترا) و(قمبیز) و(عنتره)، وکان التاریخ المصدر الاساسي لشوقي فی بناء مسرحیاته وکانت غایته ارضاء التاریخ وارضاء الشعور الوطني المصري ولذلک تراها تفیض بالحماسة الوطنیة.
التراث هوما یخلِّفه الاسلاف القدماء الی الاجیال الجدیدة. فهناک تراثا علمیا وادبیا وثقافیا واجتماعیا وسیاسیا و.... والذي یعنینا هنا هواالتراث القدیم الذي یبرز من خلال شعر الشاعر القدیر احمد شوقي.
من المؤکد أن التراث العربي القدیم یُعد تراثا واسعاوعظیما بسبب اتصاله بمجالات عدّة منها المجال الدیني والعلمي مما هیأ نشاطا مطردا في التفسیر والحدیث والفقه قام به ائمة افذاذ. وکذالك التراث اللغوي والنحوي والبلاغي والتراث الذي یتعلق بعلوم الاوائل والتاریخ، وکانت تسود کل هذه المجالات التراثیة وحدة فکریة وعلمیة دقیقة. وهناک تراثا قیما جاء به شوقي من خلال شعره مما قاده مع شعراء آخرین الی أن یکون زعیما ادبیا في مصر (ضیف،شوقی، 1987م، ص3) . كان شوقي يستمد من القديم والقدماءكل ما هومفيد ومؤثر. يقول مارون عبودفي نقده لاحمدشوقي: فلوقرأت احمد شوقي مثلا رأيت عنده تعابير جديدة ولكن اكث‘رها منبوش من اضرحة القدماء(عبود، مارون ، 1962، ص21). كما كان لبردة البوصيري الأثر الثقافي في بردة شوقي وان كان القبس الذي توهج في هاتين البردتين لم يكن من طبيعة واحدة وانه علی مجاورة الجووالنغم،اذ جعل شوقي منظومته تعبيرا عن عقيدة اعطيها جاهزة ولم يعشها تجربة دينية(غطاس، کرم، انطون، ص118).
لوامعنا النظرفي ما كتبه الاخرون في هذا المجال لوجدنا أنهم أشاروا الي التراث من خلال شرح اشعار الشعراء ومنهم احمد شوقي،خاصة في فترة الاحتلال وأشاروا بأن شعره استلهم من القديم في ما يتعلق بالعلم والحضارة والجهاد والكفاح. وعندما أشير الي ما كان يلتزم به شوقي من عمود الشعر،يسترد إشراق ديباجة البحتري،ينزل في قصائده المصطلحات الجاهزة التي حصدتها ذاكرته من مخزون القدامی الشعري(المصدر نفسه، ص295)، فهوبحد ذاته استلهام من القديم ومع ذلك لم يتحدثوا بصورة خاصة عن التراث كموضوع خاص استخدمه شوقي في شعره كوسيلة لتحريك الامة وبعث روح النضال فيها.
تهدف هذه المقالة الی توضیح الغایة من اهتمام شوقي بالتراث القدیم فی شعره. فعندما یتکلم شوقی فی شعره عن العرب منذ بدایة نشأتهم ویتکلم عن لغتهم وعندما یتحدث عن مصر وفراعنتها والحضارة التی بنوها وعندما یذکر الرسول الاکرم (ص) ومعجزاته وغزواته ویتناول الحدیث عن شخصیات کانوا یتّسمون بالعزّة والکرامة والإباء والبطولة فی مسرحیاته إنما یرید أن یشیر الی رمز القوّة ومقارعة الظلم واختیار العزّة بدل الذلّ حتی یبعث بروح الحمیّة والحماس في نفوس المصریین للوقوف امام الاحتلال الانجلیزي وظلمه وذلك بالاقتداء بأسلافهم والاستفادة من تراثهم.
لم یکن التراث الذي جاء به شوقي في اتجاه قضایا الشعب والأمة فی بدایة الأمر وذلك بسبب بیئته الأرستقراطیة وحیاة الترف في قصر الخدیوي عباس واختلاطه بحاشیته وبسبب تعلیمه الذي سار علیه وهوالتعلیم المدني الاوربي. حیث کان نوعان من التعلیم: التعلیم الدیني الشرقي في الازهر وکان خاصا بالتراث الإسلامي وکان یتاثر بالقرون الوسطی وکانت هذه العلوم تشمل اللغة والطب والفلسفة وغیر ذلك وهی صورة شاحبة ضئیلة، والتعلیم المدني الغربي في المدارس، وهوتعلیم یستمد من اروبا ومن کتب العلم والادب فیها، وقد بدأ في عصر محمد علي، ثم خمد في عصر سعید وعباس، ثم عاد الی النشاط والإزدهار في عهد اسماعیل. وفي هذاالإتجاه من التعلیم المدني الاوربي سار شوقي (ضیف، شوقی، 1987م، 3). وما إن اشتدت مأساة الشعب المصري بسبب الاحتلال ، حتی أحس شوقي بأن الأوان قد آن لإستخدام شعره في بعث الروح في جسد الإمة لتنهض وتستنیر دربها وتستمد قوتها للوقوف بوجه ریح الاستعمار العاتیة ، فدار وجهه صوب التراث القدیم واستلهم منه کل ما یمکن أن یفید الشعب بالنهوض بحیاة جدیدة کریمة بعیدة عن سیطرة الغرباء المستعمرین، فصب هذا التراث القدیم في قالب الشعر وقدّمَه لشعبه لینهض من جدید.
کانت امام شوقی مصادر عدیدة لهذا التراث القدیم ، منها اللغة العربیة والتاریخ وما خلّفه الاسلاف من آثار ومعالم تحکي قصة امجادهم وبطولاتهم ، کالاهرامات وما شیدوه من حضارات، وکذلک الاسلام السمح الذي لا یقبل الظلم والقهر ، وحیات الرسول الکریم(ص) وغزواته التی کانت دفاعا عن الحق وحریة الانسان وانقاذه من الضلال. کل هذا العطاء التراثي قدمه لنا شوقی من خلال شعره الجمیل.
یظهر شوقي في شعره من خلال التراث القدیم کمؤرّخ إضافة الی کونه شاعرا، وهذه هي أحد الجوانب الثقافیة التي کان یتمتع بها شوقي.
یتناول شوقي الحدیث عن عرب الجاهلیة وما لهم من جهود لإنعاش لغتهم وکأنّهم کانوا علی علم بما ستحظی بها تلک اللغة من حُظوة سماویة، فتکون لغة القرآن الکریم، وإذا هي قد فرضت وجودها شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، وإذا أهلها قد مجدوا بمجدها. وفي هذه یقول:
ُربَّ شعبٍ نال مجدا باللغةلم یبلغ الاقوامُ فیه مبلغهکانت له في ظلّها حضارةرَفَّت نعیما وجرت نضارة(الابیاری، ابراهیم، 1995م، 489).ویذکر شوقي تلک الاسواق والمواسم التي جعل منها العرب میادین للتباهي بالکلمة فیقول:علی عکاظ تتباري الجنّةوفوق ذي المجاز والمجنّةویخطب الکُهّان في المواسمسجعِ الحمام في الرُّبي النواسمفتأخذ القبائل البیاناأخذک من معدنهِ القیانا(المصدر نفسه، 1995م، 489).وینتهي شوقي الی ما حظیت به تلک اللغة حین غدت لغة السماء، فیقول:ولم یزل تاجهم الکلامُوالامراءالصاغة الاعلامحتی حیاه الله بالجزیلواختاره للوحي والتنزیل(المصدر نفسه، ص490).
وبعدها یمضي شوقي یذکر ما صارعت به هذه اللغة لتجاري الحضارات المختلفة التي لم یکن لها بها عهد، فیقول:
ظلّت تعین المصلحین الضادُوظلّ للعلم بها اعتضادُتعبرها فارس والیونانُکما تهادي الزّهر الجنانُما أخذت غیر صفيﱟ الروحکاللطف من روح سری لروحِ(المصدر نفسه، ص490).
کان من اهتمامات شوقي في التراث القدیم، تاریخ مصر. فمنذ عودته من الغرب أحس بان یکون شاعرا لمصر في محنتها أبان الاحتلال الانجلیزي ، فعکف علی تاریخ مصر منذ اقدم العصور، متخذا منها درعا لکی یتحدیّ الانجلیز ویناضلهم نضالا عنیفا علی ما جاء في ملحمته((کبار الحوادث في وادي النیل)). ویشید بفراعنتها وما شادوا فیها من العلوم والحضارة المدنیة. وینفي ما ادعاه مورخي أثینا وغیرهم من أن الاهرامات بنیت سخرة (ضیف، شوقی، 1987م، ص188). کما وصف مصر وحکوماتهاواهلهامنذ العهد القدیم في قصیدته الهمزیة، منها کلامه عما لحق مصرمن الذل بعد عهد فرعون:
إن ملکت النفوس فابغ رضاها فلها ثورة وفیها مضاءیسکن الوحوش للوثوب في الأسر فکیف الخلائق العقلاءیحسب الظالمون أن سیسودو ن وإن لن یؤید الضعفاءواللیالی جوائر مثلما جاروا وللدهرمثلهم أهواء(مبارک، زکی، 1996م ، ص266).
ویذکرهزیمة بسامتیک امام قمبیز وأنه ظلّ له إباؤه وکبریاؤه مما اوغرصدر قمبیزعلیه، فامر أن تَمُرّابنته وهي في زي الإماء تحمل جرّة لجلب الماء، ورأت أباها فلم تبک ولم تسقط لها دمعة، شعورا بإباء ما بعده إباء وعزّة لا تشبهها عزّة وکذلك بسامتیك حین رأی ابنته لم یتحرك له جفن ولم تدمع له عین، وکأنه صخرة صماء، حتی اذا رای صدیقا له أذله الفرس بکی له رحمة وشفقة وهذا یعني أن شوقي إتخذ من بسامتیك مثلا حیّا لکل مصري في الوفاء أمام الاصدقاءومثلا للشعور القومیالمفعم بالکرامه أمام الغاصبین للدیار(ضیف، شوقی، 1987م، ص189).
ویشیر شوقي الی الاسکندر وبناء الاسکندریة ویتطرق الی تاریخ البطالمة ، ثم یذکر تجلي رحمة الله بعباده وانقاذهم من ظلمات الوثنیة باضواء الرسالات السماویة ویذکر موسی علیه السلام ومنشئة بمصر ورسالته الی فرعون وعیسی علیه السلام ومولد الرفق معه ورسالته ، وینشد:
إنما ینکر الدیانات قوم
هم بما ینکرونه اشقیاءٌ(المصدر نفسه، ص189).
وتتعدد الحان الاشعار الوطنیة عند شوقي. فمنها هذا اللحن التاریخي الرائع ، ومن روائعه فیها قصیدته ((أنس الوجود))، وقد وضع بین یدیها مقدمة خطب فیها روزفلت الرئیس السابق للولایات المتحدة حین زار مصر سنة 1910 وألقی بالجامعة المصریة القدیمة خطابا أثنی فیه علی حکم انجلترا لمصر کما اثنی علی الدین المسیحی وهاجم الاسلام. وعاتبه شوقي في المقدمة، ثم اخذ یصف قصر أنس الوجود الماثلة أطلاله وهیاکله بجزیرة عند اسوان، ویستهل وصفه بقوله مخاطبا روزفلت:
اخلع النعل واخفض الطرف واخشع
لا تحاول من ایه الدهر غضاّ(المصدر نفسه، ص190).
وشوقي یطلب الی روزفلت حین یلّم بقصر أنس الوجود أن یقف أمامه وقوف العابد الخاشع في المحراب القدسي. إنه محراب من محاریب مصر وتاریخها القدیم بکل ما یحمل من عظمة وجلال،. وفی سنه 1915 یقدم فریدته الرائعة ((النیل)) الی مرجیلیوت المستشرق الانجلیزي بجامعة اکسفورد، مستهلا لها بقوله:
من أي عهد فی القری تتدفق
وبأي کفٍّ فی المدائن تُغدقُ(المصدر نفسه، ص190).
وقد مضی فیها یصور عبادة المصریین للنیل وتاریخ الفراعین ومجدهم العریق، الحضاري والحربي، وذکر تابوت موسی وقصة یوسف وإخوته ومریم وعیسی ونزول الاسلام في مصر واستضائتها بانواره. کل ذلك جسّمه في تلك القصیدة الفریدة، حتی یعطي النیل شخصیته المعنویة بجانب شخصیته الحسیة. وفي سنة 1920 ینظم فریدته((أبوالهول)) مستعرضا فیها مواکب التاریخ المصری التی مرت تحت بصر أبي الهول من ایام فرعون الی ایام أبي الهول، ویقف قلیلا عند الدین القدیم، دین إیزیس وآییس والدیانات السماویة، دین موسی وعیسی ومحمد(ص)، ثم یذکر نهضة مصر لعصره ویقول إن تباشیر الانبعاث أشرقت وأشرق معها صبح البعث الجدید. وینشق صدر أبي الهول عن فتی وفتاة ینشدان نشید نهضتنا:
الیوم نسود بوادینا
ونعید محاسن ماضینا(المصدر نفسه، ص191).
واکتشف قبر توت عنخ آمون سنة 1923وراع العالم بما فیه من کنوز وتحف طائلة ، تغنّی شوقي بهذا الاکتشاف في قصیدة نونیة فریدة استهلها بقوله:
قفی یا اخت یوشع خبّرینا
أحادیث القرون الغابرینا(المصدرنفسه، ص191).
ویتحدث عن الفراعنة ومجدهم الغابر محاولا أن یبث الحمیة في الشباب لیعیدوا ملك آبائهم، ثم وصف مقبرة توت عنخ آمون وکنوزها النفیسة وکانت مصر حینئذ تضع دستورها وتستعد لحکم شوری نیابي دیمقراطي ، ویهتف شوقي بتوت عنخ آمون:
زمان الفرد یا فرعون ولیودالت دولة المتجبریناوأصبحت الرعاة بکل ارضعلی حکم الرعیة نازلینا(المصدر نفسه، ص191).
کما یتحدث شوقي عن العرب في بدایة نشأتهم علی ارض الجزیرة العربیة، فیبدأ بالحدیث أولاّ عن البیت الحرام کیف کان، فیقول:
دارٌ علیها میسمٌ من القدمحُجّت علی اول خُفٍّ وقدملم تُبنَ بالصّفاح والصّوانِولا علت تعالیَ الإیوانبل صنع شیخ مقبل مُزولأعین بابن یافع مُناول(الابیاری، ابراهیم، 1995م، ص493).
کما یتحدث عن إنتصار أولاد إسماعیل، فیقول:
أبناء إسماعیل حول بکّةتضوَّعت منهم شعابَ مکّةإنتشروا قبائلا علی الزمنملء الحجاز والشام والیمن(المصدر نفسه، ص493)ثم یتحدث عن الأدیان التی إعتنقوها،فیقول:تنقّلت فیهم دیانات الاُوَلتنقُّلَ الأیام فیهم والدُّولنار المجوس وُجدَت محازاوابن سنان أنقذ الحجازاوبلبلت ألسُنُهم أسماءفکثرت في حبّها الأسماءکل فریقٍ حول ما أحبّهاو کل قوم یعبدون ربّا(المصدرنفسه، ص349-494).
وکان الجانب الاسلامي من الجوانب التي شملها التراث القدیم في شعر شوقي. حیث کان الاسلام یتعمق شوقي منذ نعومة أظفاره، وکان احد الالحان الاساسیة التي تغنّی بها شوقي في ملحمته ((کبار الحوادث في وادي النیل))، فقد مضی یفاخر فیها بنشأة موسی بمصر ونزول عیسی والمسیحیة بها ودخول الدین الحنیف وإضائته جنباتها، مما یملؤها زهواَ(ضیف، شوقی، 1987م، ص199).
ثم یتحدث شوقي عن میلاد الاسلام ومولد النبي (ص)، فیقول:
محمد سلالة النبوّة ابن الذبیح الطاهر الأبوةالعربي طینة نبیلة القرشي الباذخ القبیلة(ضیفف شوقی، 1993م، ص128).
ثم یمضی بالتحدث عن حیاة الرسول (ص) وما حفلت به من کفاح وجهاد في سبیل الدعوة الي أن ثبتت أرکان الاسلام، فهویقول:
حتی أظلّ العرب الاسلام وشمل الجزیرة السلاموبلغ الصُّمَّ بلاغ الواعي وأسمعتهم حجّة الوداعهناك حان أحلال طبیب وحکم المحبُّ في الحبیب
سبحان من له البقاء دون حدّ ولیس فوق الموت غیره أحد(الابیاری، ابراهیم، 1995م، ص494).
ثم ینتقل الی الإشادة بحدیث النبي(ص)، فیقول:
یا أفصح الناطقین الضاد قاطبةحدیثك الشهد عند الذائق الفهمحلیت من عطل جید البیان بهفي کل منتشر في حسن منتظم
بکل قول کریم أنت قائله تحیي القلوب وتحیي میت الهمم(مبارک، زکی، 1996م، ص204).
وکذلك وصف شوقي النبي(ص) في الحرب وصفا دقیقا، حیث صور عدم غلبة الغضب علیه ولم یکن عبوسا ، فهویقول:
البدر دونك في حسن وفي شرف والبحر دونك في خیر وفي کرمشمُّ الجبال اذا طاولتها انخفضت والأنجم الزهر ما اوسمتها تسمواللیث دونك بأسا عند وثبة إذا مشیت الی شاکي السلاحتهفو الیك و إن أدمیت حبتها في الحرب أفئدة الابطال والبهممحبة الله القاها و هیبته علی ابن آمنة في کل مصطدمکأن وجهك تحت النقع بدر دجی یضئ ملتئما أو غیر ملتئمبدر تطلع في بدر فغرته کغرة النصر تجلوداجي الظلم(المصدرنفسه، ص204).
وکذلك یؤکد شوقي علی فضیلة الجهاد، فیقول:
علّمتهم کل شئٍ یجهلون به حتی القتال وما فیه من الذّمملولاه لم تر للدولات في زمن ما طال من عمد أقر من دعمتلك الشواهد تتر کل آونة في الاعصر لا في الاعصر الدهمبالامس مالت عروش واعتلت سرر لولا القذائف لم تثلم ولم تصم(المصدر نفسه، ص210).
ثم یتناول شوقي الحدیث عن جلال المدنیة الاسلامیة وتقدیمها وتفضیلها علی مدنیة المصریین والیونان والرومان، وفي ذلك یقول:
دع عنك روما واثینا وما حوتا کل الیواقیت في بغداد والتوموخلّ کسری وایوانا یدل به هوی علی أثر النیران والایمواترك رعمسیس ان الملك مظهر في نهضة العدل لا في نهضة الهرمدار الشرائع روما کلما ذکرت دار السلام لها القت ید السلم(المصدر نفسه، ص210).
ومنذ سنة 1909م ارتفع صوت شوقي بمدیح الرسول(ص) فی تائیته التي هنأ بها الخدیوي عباس عندما حجّ الی بیت الله الحرام. وفیها تحدث عن مشاعر الحج وعظمة الاسلام وقبرالرسول(ص) الطاهر وما ینتشر حوله في المدینة من عطر ذکي ونور مضي، وینظم حینئذ مدحتة النبویة أویتیمته الفریدة((البردة)) سمّاها بهذا الاسم، لانه نظمها علی غرار بردة البوصیري، مفتتحا بقوله:
ریم علی القاع بین البان والعلم أحلّ سفك دمي في الاشهر الحرموفي سنة 1912م ینظم شوقي درّة بدیعة في ذکری المولد النبوي الشریف مفتتحا لها بقوله:وُلد الهدی فالکائنات ضیاء وفم الزمان تبسّمٌ وثناء
ویتحدث في فواتحها عن مولده وما حدث فیه من خوارق وهوفیها یعارض البوصیري في همزیته المشهورة، ویشید بالقران الکریم والحدیث النبوي الشریف إشادة رائعة یصور ببصیرته النافذة، الحکومة التي شرعها الرسول(ص) للمسلمین بعده،تصویرا محکما، فهویقول مخاطبا الرسول(ص):
ورسمت بعد للعباد حکومة لا سوقة فیها ولاأمراءالله فوق الخلق فیها وحده والناس تحت لوائها أکفاروالدین یُسرٌ والخلافة بیعة والامر شوری والحقوق قضاء(ضیف، شوقی، 1987م، ص202).
نری في هذه الحکومة والدولة الاسلامیة التي صورها شوقي من خلال هذه الابیات أن الامراء والاغنیاء والفقراء والبیض والسود کلهم متساون في جمیع الحقوق والواجبات، وهذه الدولة یعلوها واحدٌ أحد، والدین یسرٌ ولا عسر فیه،والخلافة بیعة للمسلمین عن تراضٍ منهم، والحکم شوری والقضاء عادل یرد لکل ذي حق حقّه دون ای تمایز اوتفاوت بین ای فرد وفرد في الامة الاسلامیة، وهویخاطب الرسول(ص) :
الاشتراکیون أنت إمامهم لولا دعاء القوم والغلواءُداویت متّئدا وداووا طفرة واخفُّ من بعض الدواء الداءأنصفت أهل الفقر من أهل الغنی فالکلّ في حق الحیاة سواءفلوأنّ إنسانا تخیّر ملّة ما اختار دینك إلا الفقراء(المصدر نفسه، ص202).
فشوقي یدعوالرسول( ص)إمام الاشتراکیین ویقول إنّ ملّته خیر ملّة للفقراء والمعوزین ویردد شوقي هذا المعنی في مدحته النبویة البدیعة التي نظمها سنة1914م في ذکری المولد النبوي الشریف، إذ یقول:
یرید الخالق الرزق اشتراکا وإن یك خصَّ أقواما وحابیفما حرم المُجدَّ جنی یدیه ولا نسی الشقي ولا المصاباألم تر للهواء جری فأفضی الی الاکواخ واخترق القبایاوأنَّ الشمس في الآفاق تغشی حمی کسری کما تغشی الیباباوأنَّ الماء تروي الاسد منه ویشفی مِن تَلعلُعِها الکلابا(ضیفف شوقی، 1987م، ص203).
أما فیما یتعلق بغزوات الرسول(ص) فقد دافع عنها شوقي في قصیدته البردة وأوضح أنه لم یغز إلا بعد الدعوة للحسنی وعرض القرآن الکریم علی الکفار، وأن الشر لا یُنفی إلا بالشر وقارن بین الاسلام والمسیحیة، فرآها لم تنتشر إلا عن طریق السیف والقوة علی نحوما هومعروف في عهد قسطنطین وخلفائه، وهنا یتضح الهدف من حکمة الجهاد الی المعاندین من المبشرین وغیرهم الذین اعتقدوا بانتشار الاسلام بالسیف،فهویقول:
قالوا غزوت ورسل الله ما بُعثوالقتل نفس ولا جاؤا لسفك دمجهل وتضلیل أحلام بالسیف بعد الفتح بالقلم سفسطه فتحتلمّا اتی لك عفوا کل ذي حسبتکفل السیف بالجهّال والعمموالشر إن تلقه بالخیر ضقت بهذرعا وإن تلقه بالشر ینحسم(مبارک، زکی، 1996م، ص209).
وقد رای شوقي لتایید حجته أن یضرب المثل بالمسیحیة فقد کانت دین سلام وإخاء ولکنها لم تقم إلا بالسیف، فهویقول:
سل المسیحیة الغراء کم شربت بالصاب من شهوات الظالم الغلمطریدة الشرك یؤذیها ویوسعها في کل حین قتالا ساطع الحدملولا حماة لها هبوا لنصرتها بالسیف ما انتفعت بالرفق والرحم(المصدر نفسه، ص210).
ویمتد التراث القدیم في شعر شوقي لیشمل جوانب اخری منها وصف القرآن الکریم. فهویصف القرآن بایجاز ویقول:
جاء النبیون بالأیات فانصرمت وجئتنا بحکیم غیر منصرمآیاته کلما طال المدی جدد یزیّنهن جلال العتق والقدمیکاد في لفظه منه مشرفه یوصیك بالحق والتقوی وبالرحم(المصدر نفسه، ص204).
نری أن شوقي یقارن ما جاء به النبیون بما جاء به رسولنا الکریم محمد(ص) من آیات.فالایات التی جاء بها النبیون قبل الرسول(ص) انتهی عهدها وانصرم، فحلت مکانها آیات القرآن الکریم التي لا ینتهي عهدهاوزمنها مهما طال فهي تبقی آیات جدیدة مواکبة لکل زمن وعصر ومهما مر علیها الدهر والقِدم فلا یزیدها الا جلالا وعظمة لیزینها فتکون جدیدة.
کما یصف الحروب عند العرب الاوائل ویشید بذکر الغزاة والتمدح بآثار المجاهدین، وکتاب(الحماسة) لابي تمام خیر شاهد علی تلك النزعة الحربیة التي سیطرت علی نفوس العرب زمنا طویلا، فهویتحدث عن ادب النفس ومکارم الاخلاق وفعل مثل ذلك في الفکاهات والملح والنسیب ثم یملا کتابه بالحماسة والهجاءوالمدیح وهي الفنون التي تترجم النفس العربیة وتکشف عما في داخلها من نوازع وما تکنُه من میول وکذلك مهدت السبیل لشعرائنا الذین ارادوا الاشارة الی المعارك التی خاضها النبی(ص) والحروب التي اقتحمها وإن اختلفت مناحي هؤلاء الشعراء في وصف هذه الحروب. فشرع يصف الغزاة بهذه الابيات:
مهما ىعيت الي الهيجاء قمت لهاترمي بأسد ویرمي الله بالرجمعلی لوائك منهم کل منتقملله مستقتل في الله معتزممسبح للقاء الله مضطرمشوقاعلی سابح کالبرق مضطرملوصادف الدهر یبغی نقلهبعزمه فی رحال الدهر لم یرمبیض فعالیل من فعل الحروب بهممن أسیُف الله لا الهندیة الخزمکم في التراب اذا فتشت عن رجلمن مات بالعهد اومن مات بالقسملولا مواهب في بعض الأنام لماتفاوت الناس في الاقدار والقیم(مبارک، زکی، 1996، ص209).
کما تضمّن التراث القدیم في شعر شوقي وصف المعجزات. والذي یقرأ القرآن بدقّة یراه یفیض بالتذمّر من الحاح العاندین ولجاجتهم في طلب المعجزات، إذ کان النبی(ص) یدعوالی تحکیم العقل وکان اولئك الکفّار يأبون إلاّ أن تکون مصحبة بألعاب بهلوانیة تنفر منها القلوب، وتأباها العقول، وتشمئز منها الأذواق، ویقول المولی عزّ وجل في شأن هؤلاء في سورة الإسراء(قل لئن إجتمعت الإنس والجن علی أن یأتوا بمثل هذا القرآن لایأتون بمثله ولوکان بعضهم لبعض ظهیرا ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من کل مثل فأبی أکثر الناس إلا کفورا. وقالوا لن نؤمن لك حتی تفجّر لنا من الأرض ینبوعا أوتکون لك جنّة من نخیل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجیرا أوتسقط السماء کما زعمت علینا کسفا أوتأتي بالله والملائکة قبیلا أویکون لك بیت من زخرف أوترقی في السماء ولن نؤمن لرقیك حتی تنزّل علینا کتابا نقرؤه قل سبحان ربّي هل کنت إلا بشرا رسولا). وفي سورة العنکبوت(وقالوا لولا أُنزل علیه آیات من ربّه قل إنّما الأیات عند الله وإنّما أنا نذیر مبین أوَلم یکفهم أنّا انزلنا علیك الکتاب یتلی علیهم إنّ في ذلك لرحمة وذکری لقوم یؤمنون). وهذه الأبیات تشیر الی أنّ معجزة النبي الباقیة هي القرآن، وشوقي یؤید ذلك بقوله:
آیاته کلما طال المدی جدد
یزینهن جلال العتق والقدم(المصدر نفسه، ص195).
ومن العجائب والخوارق التي حدثت عند میلاد الرسول(ص) کانصداع ایوان کسری وخمود نار الفرس، ونضوب بُحیرة ساوة وما الی ذلك من الخوارق والمعجزات، یقول شوقي في نهج البردة:
وخلّ کسری وایوانا یدل به هوی علی أثر النیران والأیم(المصدر نفسه، ص200).
ویقول فی الهمزیة:
ذعرت عروش الظالمین فزُلزلت وعلت علی تیجانهم أصداءوالنار خاویة الجوانب حولهم خمدت ذوائبها وغاض الماءوالآی تتری والخوارق جمّة جبریل رواح بها عدّاء(المصدر نفسه، ص200).
ویبدي شوقي رأیه في قیام الدولة الاُمویة، فیقول:
علمت أنُ السیف بنّاء الدول ورکنها في الآخرین والاُولما زال في الممالك الأساسا به بناها مِن بني وساسا(الابیاری، ابراهیم، 1995م، ص498).کما یعتقد شوقي أنّ الاُ مویین إغتصبوا الخلافه من الهاشمیین،فیقول:احتازها من الجرئ القلّبُ وغلب اللیث علیها الثعلب(المصدر نفسه، ص499).ویذکر شوقي سیئات بني امیة التي اقترفوها بحق آل البیت وهتك حرمة مقدّسات المسلمین، فیقول:منهم من استحسن قتل الآل ولم یخف مساوئ المآلومن رمی الکعبة بالحجارة وذعر البیت وراع جار(الابیاری، ابراهیم، 1995، ص499).
ثم ینتهي شوقي في الحدیث عن زوال الدولة الاُمویة فیقول:
رَمَت ید الدهر بني مروانا إنّ لکل مصرع أوانفذهبوا عن حسنات تُذکر وسیئات جمّة لا تُنکر(المصدر نفسه، ص499).ثم ینتقل شوقي الي الحدیث عن قیام الدوله العباسیة، فیقول:ودولة الحق بدت للناس بین رضا الخلق والاستئناس(المصدر نفسه، ص503).ویذکر خلفاء هذه الدولة بادئا بابي جعفر المنصور، فیقول:خیر بني العباس بحر العلم قطب رحی الحرب بدار السّلمِ(المصدر نفسه، ص503).
وبعد أن یستعرض شوقي الأحداث في عهد المنصور، یقوم بذکر من جاء بعده، فیقول:
عشرون في الملك رفقنَ أمنا
وفضن نعماء وسِلن يمنا(المصدر نفسه، ص503).
ثم یشیر الی النهضة العقلیة والفکریة في عهدهم،فیقول:
حك ولا تسل عن همّة العقول ونهضة المعقول والمنقولوکثرة الناقل والمعرّب عن مه الفرس وعلم المغربکانت لأیام البهالیل سِمة ومهرجان ملکهم وموسِمهینجم فیها النابغ السعید وینجب المقتبس البعید(المصدر نفسه، ص504).
کما تحدث شوقي عن قیام الدولة الفاطمیة وکانت میوله کلها علویة وکان یبرز هذه المیول العامة حین کان یکثر من التعریف بالفاطمیین وذِکر مآسیهم، لنری کیف یبدأ هذا التعریف، وکیف یمضي فیه وکیف ینهیه، فهویبدأ بقوله:
من جعل المغری مطلع الضحی وسخّ البربر جُندا للهدیوصرف الأیام حتی أحدثت ما کان في الاحلام أحلام الکریوأظفر الصبابر بالنجح فیا هزیمة الیأس ویا فوز الرّجاقام إمام من بني فاطمة خلیفة ثم تلاه من تکسّاما عجبي لملکهم کیف بُني بل عجبي کیف تأخّر البنا(المصدر نفسه، ص504).
ثم یذکر ما کان للعلویین من کفاح طویل واستشهادهم دفاعا عن العقیدة، فیقول:
فشهد الله لهم ما قصّرواالقتل صبرا تارة وفي اللّقاکم ثار منهم في القرون ثائربالامویین وبالآل الرّضا
هذا الحسین دمه بکربلا روی الثری لما جری علی ظما(الابیاری، ابراهیم، 1995م، ص504).
ثم یقول:
وما خلا خلیفة سُوّدمن طالبيٍّ یطلب الامر سُدییُقتل أویُزجُّ في السجن بهأویتواری أویببیده الفلاولم تزل تمضي القرون بالذيأمضی مصرِّم القرون ومضیحتی حیا الله بنی فاطمةما مات دونه الأبوّة العلاماطلهم دهرهم بحقّهمحتی ما قیل لمن یفي وفي(المصدر نفسه، ص505).
وینتهي شوقي الی ما آل الیه أمرهم من تسلیمهم الأمور الی وزرائهم مما أدّی الی زوال دولتهم،فیقول:
هم مزّقوا دروعهم براحهموکسروا بها الرّماح والظّبَیلا العُرب استبقوا وهم قومهمولا رعَوا للمغربیین الولاقد ملّکوا الأبعد أمر بینهموحکّموه في العشائر الدُنیوصیَّروا الملك الی صبیانهمفوجد له الفرصة من له صباإذا وبغی الوزراء بینهمواصبحوا هم الملوك في الملاخلیفة الرحمن في زاویةمن الخمول والوزیرابن جلا (المصدر نفسه، ص505).
أما الجانب الفلسفي الذي یعکسه التراث القدیم في شعر شوقي یؤکد لناأنّ شوقي کان ذا رؤیة فلسفیة شأن غیره من الشعراء الذین سبقوه، حیث یعبر عن رأیه تجاه فلاسفة في رفض أوقبول أقوالهم. فمثلا لشوقي قصیدة یعارض بها قصیدة ابن سینا في النفس، والتي یستهلها ابن سینا بقوله:
هبطت الیك من المحل الارفع
ورقاء ذات تعزُّر وتمنُّعِ(المصدر نفسه، ص506).
ویستهل شوقي قصیدته بقوله:
ضمّي یا سعاد قناعك أوارفعیهذي المحاسنُ ماخلقن لبرقعِ (المصدر نفسه، ص506).ویتصوّر شوقي التنافر بین النفس والجسد، أُنسا، فهویقول:أنت الذي اتخذ الجمال لِعزّهمن مظهر ولسرّه من موضع (المصدر نفسه، ص507).ثم یتحدث شوقي عن مفارقة النفس للجسم اتباعا للقدر المحتوم، فیقول:أنتِ الفیّة لا الذّمامُ لدیكمذموم ولا عهدالهوی بمضیّعِودمعت فانهلّت دموعك رِقّةولواستطعتِ إقامة لم تزمعی (الابیاری ، ابراهیم، 1995م، ص508).
إذن شوقي لیس فیلسوفا کما یعتقد البعض وإنما له رأي فلسفي کشاعر یعارض به الفلسفة القدیمة لافلاطون وابن سینا فیما یخصُّ موضوع النفس، ومن هذا المنطلق یُعَدُّ شعره الذي یتضمّن رأیه الفلسفي جزءا من التراث القدیم في شعره.
ظهر التراث القدیم ایضا من خلال مسرحیات شوقي الشعریة التي طلع بها في اوخر حیاته علی الناس. کان شوقي قد اُعجب بالمسرح الفرنسي الکلاسیکي في أثناء القرن السابع عشر إذ کان الشعراء أمثال کورني وراسین یتخذون مسرحیاتهم من التاریخ ومن اعمال البطولة. فأخذ شوقي ینسج في مآسیه علی منوال هؤلاء الشعراء الفرنسیین وفکّر في أن یشخّص حیاة ملوك مصریین، فلمعت في خیاله قصة ((أنطونیووکلیوباترا)) لشکسبیر، فحاول أن یصنعها من جدید تحت عنوان ((مصرع کلیوباترا))، کما ذهب یُخرج ملوکا ونبلاء آخرین إما مصریین أواتصلوا بالتاریخ المصري أوالتاریخ العربي، فأخرج ((علي بك الکبیر)) الذي حاول الاستقلال بمصر في أثناء الحکم العثماني، کما أخرج ((قمبیز)) الملك الفارسي الذي فتح مصر، وأیضا أخرج ((عنترة)) و((مجنون لیلا)) و((أمیرة الاندلس))(ضیف، شوقی، 1953م، ص176).
إذن یبدوواضحا أنّ شوقي کان مقلّدا للفرنسیین بمدرستهم الکلاسیکیة في القرن السابع عشر، فهوفي مسرحیاته یترك عصره ویتجه الی العصور القدیمة ویختار شخصیاته من النجوم التاریخیة اللامعة، کما یستخدم لغة بلیغة، لیس فیها شئ من العبارات الیومیة المبتذلة(المصدر نفسه، ص176).
وفي مواطن اخری قد یخرج شوقي علی ذوق کثیر من الشعراء الذین الّفوا المسرحیات في الغرب. فالغربیین یستمدون موضوعهم من التاریخ ولا یحاولون تغییره بسبب نزعات وطنیة أوقومیة وإنما یحافظون علیه، کما یحافظون علی الشخصیات الذین یظهرون فیه، فیعرضونهم لا حسب أهوائهم الشخصیة أوالقومیة، وإنما حسب حقائهم التاریخیة، فهم أشخاص منفصلون عنهم، لهم استقلالهم وحریاتهم ولهم مجالهم الحقیقي الذي یجرون فیه، وهم یصورونهم کما في ذاتهم ، علی نحوما صور شکسبیر هنري الخامس والثامن. وهذا یعني أن شوقي لم یقف موقف الحیاد من أبطاله التاریخیین، فهویخالف التاریخ قاصدا لغایات قومیة، فأنه یضع الوطنیة أوالقومیة قبل اساس الحیاد في المسرحیات التاریخیة وأحداثها ووقائعها(المصدر نفسه، ص180). ففي مسرحیة ((مصرع کلیوباترا)) لم یقدم شوقي الملکة للجماهیر مثلا سیئا لتضییع حقوق البلاد، بل لتضییع البلاد نفسها، وإنما یقدمها وطنیة محبة للوطن المصري تحیي له ولعرشه، ولذلك فهویُجری علی لسانها قولها:
أموت کما حُییتُ لعرش مصر
وأبذل دونه عرش الجمال(المصدر نفسه، ص191).
وتتخلل المسرحیة في مواقع کثیرة تعلیقات للمصریین علی الّرومان، فیها حقد وسخط شدید، وفیها بّر بالوطن وحب، وفیها غضب علی روما وکُره، وفیها مقاومة عنیفة للعدوان، واعتزاز بأنّ مصر لن تُغلب وإن غُلبت الیوم ستکون غدا مقبرة لروما والرومان(المصدر نفسه، ص193).
کما یظهر التراث القدیم في مسرحیة ((قمبیز)) والتي تدور حوادثها أیضا في تاریخ مصرالقدیم ویتعمّق شوقي في هذا التاریخ أکثر منه في مسرحیة ((مصرع کلیوباترا))، فقد دار شوقي بصره في العصور السابقة لعصر البطالسة، وشکّل هذا العصر حقبة مظلمة في تاریخ مصر، بل شکّل مأساة کبیرة لم یسقط فیها بطل أوبطلان، وإنما سقط شعب(ضیف، شوقی، 1953م، 202).
فمسرحیة ((قمبیز)) ترجع الی القرن السادس قبل المیلاد، حین کانت تحکم البلاد الاسرة السادس والعشرون. فکان کل شئ قد فسد في تلك الحقبة المظلمة من تاریخ مصر القدیم وضعُف الجیش وانعدم الامن ولم تکن هناك حکومة عادلة، فاستغلّ قمبیز هذا الوضع المأساوي فهاجم مصر وضمّها الی ممتلکاته وأصبحت تابعة لسوس عاصمة دولته(المصدر نفسه، ص202) .
کان هدف شوقي من هذه المسرحیة الشعریة التي تعکس التراث القدیم هوإرضاء التاریخ وإرضاء الشعور الوطني المصري، حیث تفیض قطعا کثیرة منها بالحماسة الوطنیة، وهویقدّم بطلة المسرحیة(نتیتاس) ضحیة لوطنها، فهي تقول:
جئتُ أفدي وطني منسیف قمبیزَ ونارهجئتُ أفدي وطني مندنس الفتح وعاره(المصدر نفسه، ص209).
فهي مثال رائع من أمثلة الفداء لوطنها. وکذلك (تاسو) أحد شخصیات هذه المسرحیة الذي بدا قاسیا قلیل الوفاء ضعیف الهمّة في اوّل المسرحیة، نراه في آخرها قد استشعر حب وطنه امام الفتح الاجنبي، فهویحرّض علی الثورة ویُقتَل في سبیل وطنه ویستقبل القتل راضیا مطمئنا، وکذلك بالنسبة لشخصیات اخری مثل(نفریت) و(فانیس) یُظهرون حبّهم لوطنهم ویرضون بالفداء له(المصدر نفسه، ص209).
کما خلّف شوقي تراثا قدیما من خلال مسرحیات اخری وهي مآسي عربیة ومنها ((مجنون لیلی)). أراد شوقي ایضا من خلال هذه المآسي إرضاء النزعات والعواطف العربیة کما فعل في المآسي السابقة عندما أراد بها إرضاء النزعات والعواطف المصریة الوطنیة.
فهذه المأساة بکل تفاصیلها ترتبط باساطیر عربیة عن مجنون لیلی، ولها اصول تاریخیة نجدها في کتاب الاغاني لأبي الفرج الاصبهاني، فهي لیست من خیال شوقي. فیها حدث عن الحسین وحله یثرب وحکم معاویة وحدیث عن البادیة والحاضرة. فشوقي بنی هذه المسرحیة استنادا الی التراث القدیم ولیس استنادا الی مواد خیالیه، فهي بنیت من الاساطیر العربیة التي اُلّفت في القرنین الثاني والثالث عن الحب العذري الذي کان شائعا في بادیة نجد بین بني عامر وغیرها من الأحیاء والقبائل في أثناء العصر الاموي، وهوحب کان یقوم علی الطهر والعفاف وأن لاینال المحب غایته، بل یظل مفتونا بصاحبته، معلّقا بها، محروما منها ومن لقائها. وکان قیس بن الملوّح من أشهر هؤلاء المحبین، وقصّته التي رواها صاحب الاغاني وهي التي استعان بها شوقي في تکوین هذه المسرحیة(المصدر نفسه، ص232).
فالمسرحیة عربیة مستندة الی اساطیر عربیة ولکن فیها تأثیرات اروبیة، ففي بعض فصولها حدیث عن الجن والشّیاطین، کما نری تأثیرا بفکرة العرب القدیمة عن شیاطین الشعراء، وکذلك بالقصص الکثیرة عن الجنّ في ألف لیلة ولیلة، وکذلك بالقصص الدیني المعروف عن سلیمان وجِنِّه وتسخیرهم وتعذیب الاشرار منهم بالطلاسم والقماقم(ضیف، شوقی، 1953م، ص234).
وهناك ایضا مسرحیة اخری منظومة تعکس التراث القدیم وهي مسرحیة ((عنترة)) وهي مأساة موضوعها الحب والصراع بینه وبین التقالید العربیة، ومحور هذه المسرحیة عنترة البطل العربي الذي اشتهر في العصر الجاهلي. کما أنّ هناك حدیث علی لسان بطلة المسرحیة عبلة عن تحریر العرب من استرقاق الفرس والروم واستعبادهم، وتتمنّی بطلا یلتف حوله العرب، بفكّ أعناقهم من الرّق وذلّه(المصدر نفسه، ص245). کما تعکس هذه المسرحیة الحیاة العربیة في العصر الجاهلي بما فیها من خُلق وعادات حسنة. فالبطل عنترة مَثَلٌ من أمثلة الخُلق الرفیع عند البدوسواء في شجاعته ومروئته أوفي کرمه وعطائه لماله للیتامی والفقراء، أوفي عفافه وفضائله. أمّا عبلة فمثال للوفاء والایمان بالفضائل المعنویة الخفیة لا الفضائل الجسدیة الظاهرة. فالمسرحیة في تصمیمها وفي نموّها ونهوضها تعبیر عن الاخلاق العربیة الکریمة(المصدر نفسه، ص249).
النتيجة:
إنّ التراث الذي خلّفه شوقي من خلال شعره کان اساسا في بعث روح الصمود والمقاومي عند المصریین امام الاحتلال الانجلیزي وحُکمه الجائر علی مصر. لمّا کان للعرب من حضارات وتاریخ حافل بالحوادث ومقاومة الاعداء في الحروب، وما لهم من لغة وامجاد وعلوم،كانت مصر ككل المدن والبلادالمقهورة تنجب شعراءمن ابنائها ليكونواشهودهاعلی بشاعة الانسان حين يقتل اخاه الذي يرفض الاستغلال والعبودية(فتح الباب، حسن، 2007م، ص169). وكان شوقي من بين هؤلاء الشعراءحين رأی أن یستمد التراث القدیم من هذه العناصر ووضعها في قالب شعرِي بدیع یتناسب وعقائد وافکار وادراك المصریین. ومن خلال هذا التراث تحدّث شوقي عن اللغة العربیة وذکر الاسواق والمواسم التي کانت میدانا للعرب للتباهي بها واختیارهذه اللغة، لغة للقرآن عند مجئ الاسلام. کما تحدّث عن الفراعنة ومجدهم العریق، الحضاري والحربي. وایضا تناول الحدیث عن مولد النبي(ص) والخوارق والمعجزات التي تزامنت مع هذا المولد الشریف وکانت هذه الخوارق والمعجزات آیة من آیات قدرة الخالق عزّ وجلّ لقهر قدرة الظالمین. وکذلك تناول شوقي الحدیث عن غزوات الرسول(ص) ضد اعداء الاسلام. کما تطرّق في الحدیث عن قیام الدوله الامویة والعباسیة والفاطمیة. وتکلم عن رأیه الفلسفي في معارضة علماء کبار. وتحدّث ایضا عن الحوادث التاریخیة في مسرحیاتة ((مصرع کلیوباترا)) و((قمبیز)) و((عنترة)) و((مجنون لیلی)). صوّر شوقي في هذه المسرحیات الإباء والکرامة والخلق الرفیع والوفاء والوطنیة الصادقة وصراع التقالید والتحریر من الرّق. وهذه المسرحیات بُنیت علی اصول تاریخیة قدّمت تراثا غنیّا باقیا علی مرّ العصور.
المصادر
1. الابياري،ابراهيم:الموسوعة الشوقية،دار الكتاب العربي،الطبعة الاولی،بيروتـ لبنان 1995م.
2. القران الكريم.
3. ضيف،شوقي: في التراث والشعر واللغة،دار المعارف ـ 1119 كورنيش النيل ـ القاهرة ج.م.ع 1987م.
4. ضيف،شوقي: شوقي شاعر العصر الحديث، دار المعارف ـ1119كورنيش النيل ـ القاهرة ج.م.ع.1953م.
5. عبود،مارون: المجموعة الكاملة في النقد الادبي،المجلد الرابع،دارمارون عبود.
6. غطاس كرم،انطوان: في الادب العربي الحديث والمعاصر،دار النهار للنشر،2004م.
7. فتح الباب،حسن:سمات الحداثة في الشعر العربي المعاصر، الهيئة المصرية للكتاب،القاهرة،2007م.
8. مبارك،زكي:احمد شوقي،دار الجيل،بيروت ـ لبنان،1996م.