الجابري بين الفكر والـسـيـاســة
لم يعد الأستاذ محمد عابد الجابري بيننا.. رحل المفكر المغربي الكبير رحمه الله في مطلع هذا الشهر(ماي 2010) بعدما فكّك العقل العربي المتكلس وحلّل عقده المنفوثة وقوّض أركانه السائدة والبائدة بكتاباته العميقة والجريئة وكتبه المتعددة من نقد التراث والعقل العربيين... إلى المدخل في القرآن الكريم...
ولا شكّ أن منطقتنا ستنتظر ردحا من الزمن كي تتوحم على رجل في عقل الجابري ومن ثم تنتظر دهرا كي يأتيها المخاض بمثله في ظل هيمنة السياسي على الأوكسجين الثقافي.
والجابري قبل أن يتفرغ للفكر والفلسفة كان عضوا قياديا موجها ومحررا في الحزب المغربي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
فهل استطاع العقل المفكر للجابري أن يتجرد من القناعة السياسية لصاحبه؟!
وأي الاثنين منهما (الفكر، السياسة) كان الصرح عند الجابري ليكون الآخر ظله، في تلك الفترة الانتقالية على الأقل؟!
أسئلة راودتني ذات مرة عندما تحدث الأستاذ الجابري في حصة تلفزيونية حول موضوع العلاقات المغربية الجزائرية وقال كلمة فيها رائحة السياسة أكثر من الفكر فوجدت قلمي يتحرك توضيحا واستيضاحا لا تطاولا بتاريخ: 09-08-1997م على صفحات جريدة العالم السياسي التي كانت تصدر بالجزائر، وهذا نصه:
«المفكر الجابري والجزائر:زلة لسان أم رأي سلطان؟!»
لم يكن منتظرا أن يكبو جواد الجابري على جرح الجزائر فيسقط المفكر المغربي من سمو الفكر ونقد العقل العربي إلى وحل السياسة.
وهو يصرّح في حصة تلفزيونية بثتها قناة (ART) مساء السبت 26 ــ 07 ــ 1997 بحضور ثلة من المفكرين أمثال برهان غليون وكلوفيس مقصود وغيرهما.. جمعتهم ندوة حول مشروع القومية العربية وأسباب فشله.
عند تحليله للموضوع أعطى الأستاذ المفكر عابد الجابري مثالا محليا عن سبب فشل قيام وحدة المغرب العربي قائلا:
"-لأن المغرب شبعان دولة بينما الجزائر جوعانة دولة، تأخر تطبيق مشروع اتحاد المغرب العربي.."
أي أن الجزائر حديثة الاستقلال والنشأة كدولة لذلك هي لا تريد الوحدة قبل أن تحقق ذاتيتها الداخلية وتنعم بدولتها ردحا من الزمن.
لا شك أن ملايين المتتبعين للحصة المذكورة في القارات الخمس قد صدمهم قول الجابري وهم يعلمون أنه المفكر الذي يعرف جيدا مفهوم الدولة ونشأتها وتاريخ دولة الجزائر الذي يجر خلفه أكثر من23 قرنا، وأنه لا مجال للمقارنة بين المغرب والجزائر من حيث محاولة الإقرار بأن المغرب متخم بعناصر الدولة وأهمها الحرية والديمقراطية، هذا افتراء على التاريخ، ثم من قال إن الدولة الجزائرية ولدت سنة 1962 غير جارنا (الفيلسوف) وجيسكار ديستان في قولته عند زيارة الجزائر:
"فرنسا التاريخية تحييّ الجزائر المستقلـــة؟" مما يعني أن الحضـــــور الكولونيالي لا يزال قابعا في عقل المفكر محمد عابد الجابري. وأنه بتصريحه الغريب كان كمن يبعد القذى عن عينه ليضعه على جبينه.
إن في الجزائر والمغرب شعبا واحدا تربطه الأرض بتضاريسها والتاريخ بمفاصله والدين بأحكامه واللغة بلهجاتها،،، وهذه عناصر شكّلت وجدانا واحدا رغم محاولة الغزاة جعل الجزائر جسدا والمغرب جناحا مفصولا عنه...
إن الحب إحساس لا وطن له، فالجزائر توّحدت مع الدولة العثمانية عن طيب خاطر في حين عزف المغرب عن ذلك، ومنذ مؤتمر طنجة عام 1957م والجزائر تسعـى إلــى الـوحـدة وإلـى تحــقيق هذا الحلــم الشـعبي، لا أريد هنا أن أتحدث باسم الدبلوماسية حتى لا أنزلق في الهفوة نفسها التي ورّطت الأستاذ الجابري وصار كأنه الناطق باسم القصر الملكي، لكن الشهادة للتاريخ تلحّ على قلمي ليذكر أن أول من فرض التأشيرة على الجزائريين لدخول المغرب، ليست الجزائر ،وليس حكامها من أعلن تجميد مشروع المغرب العربي منذ سنة، بسبب خلافات مع الصحراويين في الجنوب.
نحن نقدّر جهودك ونعتزّ بك من كل الأوجه، لكن هذا لا يعفينا من إماطة اللثام عن الحقائق، لأن الجزائر ليست ضيعة لأحد.. والمواطنة ليست ذنبا ولأننا لا نقبل إرضاء الأخوة المشارقة بتعليق عوامل إفلاس القطرية والقومية العربية على مشجب بعض البلدان التي تختزل فيها المأساة العربية كالجزائر والعراق وليبيا وفلسطين في أشكال مختلفة..
وبالتالي نعتبر كلامكم تنظيرا فلسفيا يوحي ببداية تصحّر فكري، وهذا ما لا نتمناه، ضف إلى ذلك أن الأحكام الجاهزة تنقص من مصداقية المفكر وقد صدق المثل: لكل عالم هفوة ولكل جواد كبوة.. المواطن العربي يرنو إلى الإنعتاق الفكري وإلى التحليل العلمي الذي يسمو على سوسة السياسات الظرفية ووسواس الحكام و أوهام النخبة". انتهى النص المنشور.
واليوم بعد رحيل المفكر الكبير محمد عابد الجابري أعدت نشر هذا التوضيح لأتساءل:
ـ هل كنت مجانبا للصواب حينما تصوّرت أن الكبار لا يخطــؤون، أو لا ينبغــي أن يخــطـأوا ولو بزلة لسان؟!
رحم الله الجابري الذي أضاف إلى المكتبة العربية والعالمية عشرات المؤلفات بخصوبة فكرية بعيدا عن عالم السياسة.