فكر الطفل العربي ...من يصوغه؟!
مداخلة:
من يصوغ العقل العربي؟
ما هو النموذج المثالي للشخصية المنتظرة بعد 20 سنة ؟!
من يصنع أقدارنا ومستقبلنا؟
أبدأ من موضوع هذه الندوة «الطفل و الحرب» (1) التي تحدّ ث فيها من سبقني عن الحرب التقليدية المعروفة بسلاحها من رشاشات ومدافع، دبابات، وطائرات وأثرها على الأطفال، والتي هي في نظري حرب ظرفية تصيب من تصيب وتخطئ من تخطئ.. لكننا سكتنا عن ذكر الحرب الدائمة والمدمرة والتي نشنها نحن وغيرنا ضد أطفالنا وأعني بها الحرب النفسية وهي أخطر الحروب... فالطفل كما هو معلوم يولد على الفطرة وأبواه يفعلان فيه ما يفعلان.
فطفلنا يعاني من القهر النفسي والاجتماعي في البيت والشارع و المدرسة ... الخ، لأننا ما فهمناه أبدا بل لأننا مجتمعات استبدادية لا تحترم الفطرة البشرية ولا العقل الإنساني بسبب عدم الاستفادة من الخبرات المتراكمة ومن النظريات التربوية في علم النفس قديمها وحديثها.
وغالبا ما نتهم خصومنا وأعداءنا بالعدوان وننسى أنفسنا وقديما قالوا: «يفعل الجاهل بنفسه مالا يفعله العدو بعدوه» وتخلّفنا أكبر عدو يهدّد مستقبل أطفالنا... ورغم عيوننا الكبيرة فإننا لا نرى أخطاءنا الصغيرة كما يقال... (كان من الأولى أن يسمى موضوع الندوة
«الطفل والحب»
لقد انشغل العالم العربي منذ أكثر من قرن بقضايا وهموم الاستقلال والتحرر ومنذ 50 سنة بالسعي لتحقيق الأمن الغذائي والسياسي،ولم يتحقق هذا أو ذاك، وفشلت المخططات الوطنية والقومية للتنمية، وانتشر اليأس وعمّ الإحباط جيلا بعد جيل في تحقيق المشروع النهضوي المتكامل... كما فشل مشروع الدولة الوطنية باتجاهيه اليساري الاشتراكي أو الرأسمالي الليبرالي وبعده مشروع الدولة الإسلامية كما فشل قبله مشروع القومية العربية.
ولم تشفع الثروات الباطنية التي تملكها بعض البلدان العربية. و انهار الاقتصاد ومعه القيم الاجتماعية والإنسانية ... وصارت شركة مثل: كوازاكي أو متسيبشي ...... تملك رأسمالا إنتاجيا أكثر مما تملك الدول العربية مجتمعة، وصار مجمل الناتج الاقتصادي المحلي العربي في نهاية القرن العشرين نحو 604 مليار دولار يتجاوز قليلا ناتج دولة أروبية واحدة وهي اسبانيا (559 مليار دولار) أما الناتج القومي الإجمالي للفرد في قوة العمل فإنه يقلّ في مجمل البلدان العربية عن نصف مستواه في دولتين ناهضتين من دول العالم الثالث، وهما كوريا الجنوبية والأرجنتين حسب تقرير التنمية الإنسانية بالمنطقة العربية الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان الصادر نهاية أكتوبر2003.
وهذا يعود في مجمله إلى غفلة الوطن العربي عن مسألة أساسية أراها بالغة الخطورة هي «فكر الطفل العربي» من صاغه ويصوغه وما هي المؤثرات الداخلية والخارجية التي ساهمت في تشكيل الذهنية العربية التي شلّت فيها القدرات وثبُطت فيها العزائم وكرست شعور الهزائم...
منذ انقراض مؤسسة «الجدات» التي كانت نموذجية في نقلها للقيم والموروث الحضاري للأمة والتي ساهمت في بناء الشخصية المتكاملة لعدة قرون (وأرى أن جلّ الحضور في هذه القاعة من خريجي هذه المدرسة التي أغلقت أبوابها بقدوم التلفاز والانترنيت ...الخ) أقول: منذ غيابها لم تستطع أية مؤسسة عربية التكفل بحماية العقل العربي الصغير من الضياع ومنحه بديلا ملائما ... ومنذ حرب 73 والرمز العربي للبطل غائب... وأمام هذا الفراغ ولغياب استراتيجية واضحة لمشروع فكرى عربي يصوغ عقل المستقبل... تسلـّّل لصوص الليل إلى مخادع أبنائنا فسرقوا منهم براءتهم وقدراتهم العقلية وسحقوا مواهبهم الإبداعية...
فمن المسؤول على هذا الحال، ومن ساهم في ذلك...؟!
أسباب عديدة تاريخية، سياسية و فكرية يمكن تقسيمها إلى داخلية وخارجية، وأهمها:
– غياب خطة واضحة تعنى بالناشئة ثقافة وعناية: صحة وحقوقا - مع التذكير أن البرامج التعليمية في كثير من بلداننا تعلّّم مفاتيح العلوم ومفاهيمها ولا تربي أو تكوّن الفكر والوجدان لدى الطفل إلاّ نادرا - وحتى هذا البرامج نفسها لم تسلم من التأثير الأجنبي ولا شك أن موضوع مؤتمرنا هذا «ثقافة التغيير أم تغيير الثقافة» يصب في هذا الاتجاه الذي نتحدث عنه. ونحن نعيش محاولة فرض مشروع أمريكي يحمل معالم جديدة لتحوير ثوابت وقيم المنظومات الاجتماعية سيما التربوية والثقافية في الوطن العربي وهذا يقودنا للحديث عن المؤثرات الخارجية فنشير إلى أن هناك استراتيجية تطبق لتدجين الطفل العربي ولتغييب وعيه الوطني وحسّه الحضاري بأدوات مختلفة عبر منابر الخطاب السياسي المتدني والخطاب الديني لأشباه الفقهاء والخطاب الانتهازي وهذه الأدوات التي ستثمر: المسجد والمدرسة (وهي في أزمة) ومختلف وسائل الإعلام وأهمّها- التلفزيون وغيره من وسائل الإعلام
وهنا يشير التقرير المذكور إلى أنه من العوامل التي تسهم في الانتقاص من القدرة على إثراء الذخيرة المعرفية هي الطابع الإستـنزافي للبرامج الترفيهية التي تبثّها وسائل الإعلام الجماهيرية والإنتاج الفني بالجملة، والآثار الممنوحة لعولمة الثقافة، وهبوط نوعية التعليم وتآكل المحفزات المجتمعية لاكتساب المعرفة» إلى غير ذلك من الأسباب كالأمية وتخلف المرأة وغياب ثقافة خاصة بالطفل سيما في مجال الدوريات والأنشطة الثقافية المتخصصة... وتدني استعمال اللغة العربية و إقامة حواجز أمام انتشار الكتاب الذي يعامل كأنه سلعة محظورة... حيث أن الكتب والمطبوعات الأكثر رواجا لا تتجاوز كمية السحب منها 5000 نسخة في الطبعة وإذا وصفنا الجهات المسؤولة عن ذلك يمكن ذكرها على سبيل المثال لا الحصر.
الأسرة وسلوك الإهمال، المحيط (الشارع) وفكر اللامعقول، المدرسة وعملية التدجين، الأنظمة وأساليب الاستبداد، وسائل الإعلام وأهمها التلفزة وأثر التخدير.
فكيف يكون حال العقل العربي وهو ينمو ويترعرع في أحضان هذه الآفات؟!
يقول المثل العربي: من يزرع الريح لا يجني العنب ,,,,, فكيف الحال ونحن نزرع الشوك في صغارنا ثم نحاسبهم في سن العشرين وما بعده عن فشلهم في النهوض بتنمية اجتماعية ثقافية. بل أننا نتهمهم بالعقوق والانحراف والإرهاب وغير ذلك من الأوصاف التي ما كانت لتكون لو كان الاهتمام بهم منذ الصغر، حيث أنه معلوم أن 80% من شخصية الإنسان الراشد تتكون قبل سن الخامسة من عمره. ولذلك أؤكد على ما جاء به التقرير المذكور من حيث:
– تعزيز الخطط الاستراتيجية للتنمية المعلوماتية والاتصالات الحديثة.
و إقامة مجال معرفي يجري فيه إنتاج المعرفة بمنأى عن الإرغام السياسي.
وحتى لا نظلّ ندور أجيالا وأجيالا في دوامات فارغة نعقد مؤتمرات وملتقيات ونتحدث ونوصي وبعد 20 عاما نكتشف أننا لا زلنا نراوح مكاننا...علينا أن نبحث عن الخلل في تصوراتنا للمستقبل و للآخر...لأن الآخر الجحيم حسب تعبير الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، إذا كان هذا الآخر وبوسائل بسيطة استطاع أن يتسلل إلى عقولنا عبر ما يسمى مثلا بالإسرائيليات وكثير منا قد طالع كتبا أذكر منها .. بدائع الزهور في وقائع الدهورلابن إياس، وأخبار الجنة والنار وبعضماروى كعب الأحبار.
فإن الوسائل وسائل الآخر اليوم تعقدت وتعددت بحيث يصعب اكتشافها فهي كالورم الخبيث تسري في عقول أبنائنا وبناتنا وأمام أعيننا.
وفي الختام لنا شرعية السؤال:
أي نموذج معرفي نتفق عليه؟ وما هي ملامح رجل الغد؟
الغرب فصل في الموضوع واختار نموذجه الرمزي سبيرمان، ورمبو وطرزان الذين تناسلوا فأنجبوا جورج بوش الأول والثاني وطوني بلير وغيرهم. والشرق أبدع بوكيمون وصدّره للعالم كرمز يلخص أعجوبة جنس الرجل الأصفر ودهشة الأجناس الأخرى.
ونحن العرب ماذا نريده:
صحيح أن جل المنظومات العربية وضعت برامج مناهج تحدد من خلالها ملامح المواطن المزعوم. والذي تصفه بالمواطن الصالح المتسامح. لكن هذه المنظومات لا يمكن أن تحقق هدفها المنشودة لأنها ببساطة ليست هي التي تصنع الوعي، فاقتصر دورها على التعليم فقط..
وهنا نجد الرأي العام والعامة العمياء هي التي تصنع غالبًا المنظور الفكري مع الأسف بل تساهم في صياغة الفكر العربي وهذه العامة منقسمة:
– فئة ترى نموذجها في الحكام فتريده ناصريا أو بومدينيا أو صداميا، أو قذافيا أو بوشيا. وشريحة أخرى تراه إصلاحيا فتريده أفغانيا(جمال الدين الأفغاني) أو باديسيا.
وشريحة أخرى تراه نهضويا ،طهطاويا.
وهناك من تراه توفيقيا بين هذا وذاك وبين أولاء وهؤلاء فيأخذ من المصلحين حكمتهم ومن النهضويين تجديدهم ومن العلماء عبقريتهم ومن الرؤساء جبروتهم وجنونهم...
وهل يمكن أن تتحقق هذه المواصفات المتناقضة في شخص واحد، الرمز الجامع ؟
هذه أسئلة تحتاج إلى جواب دقيق لمعرفة النموذج المعرفي المطلوب إنتاجه من الرجال...
وبناء على الأجوبة المقدمة يمكن تحديد الأهداف والغايات التي تؤسس لنموذج معرفي عربي، واع، أصيل ،متفتح ومستنير كما جاء في تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان ولكن لا يتأتى هذا بدون العودة إلى الذات والمصالحة معها، وباكتساب مناعة قوية لعقول صغارنا من كل المؤثرات والآفات، وببناء مناهج مدرسية عقلانية وإخراج مجتمعاتنا العربية من الدروشة السياسية والثقافية.
وقديما قيل: أعطني مناهجك الدراسية أقول لك ما هو مستقبلك، واليوم نقول قل لي كيف تفكر اليوم أقول لك كيف تصبح غدا.
---------------
هامش(1) قدمت هذه المداخلة في (ندوة الطفل والحرب) بمناسبة انعقاد مؤتمر الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب بالجزائر 2004.