الجوع..
.. لم أكن أعرف أنّ للجوع وجوهاً أخرى، وربما كان أهونها أن تبيت طاوياً في عالم متخم، تمنّي نفسك الشّبع، وتقنع وجودك المهمل بالكفاف، وتجلد روحك بسياط القدر، أنّك ولدت فقيرا، منسيّا، ثم تموت كاللاشيء في هذا الوجود، أو كغبار عابر لا يستفزّ الأنوف..
في العالم الطبقيّ يكثر الجوعى، وحين تقسو الحياة أكثر يتضخّم الجوع، يتمدّد نحو الروح، وهنا يتشكّل الألم بأقسى الصور ليفتح باباً واسعاً للمأساة..
هل عرفنا الجوع الكامن فينا؟ هل تسلّل الوعي يوماً في خلوة الذات ليطرح سؤاله الصعب؟ هل استمعنا مرة لهمس العقل وخفق القلب؟ أما أننا صممنا الآذان خشية الاعتراف المرّ بالجوع؟!!..
في عالمنا يا أصدقائي نسمع أصوات الجوعى، نطالع الوجوه البائسة بصمتها الصارخ، ننحاز إليها، وربما تجاهلنا الموقف تخفّفاً من ثقل الهمّ، أو هروباً من شبح المسؤولية.
ولكن عجباً، كيف نتنكّر لجوعنا الذي نتجرّعه كلّ يوم ألف مرة؟ كيف نتعايش مع هذا الداء ونمضي في دورة الأيام كأن لا شيء هناك؟!..
حملت ذاتي المرهقة إلى ساحة الحقيقة لاعترف باسمي وباسمكم، لعلّ الاعتراف يكون بداية الدرب في رحلة الشّبع الممكن أو اللامستحيل على الأقل..
في ساحة الحقيقة تحت قبّة الله، أمام الضمير والوجدان، أعترف بالجوع!.
نعم.. يا ربّ نحن جائعون!. يتآكلنا جوع عتيق لإنساننا المسحوق..
نجوع للحلم، للفرح، للأمن، للراحة..
يجوع واحدنا لشعوره بكيانه، لاعتزازه بكرامته، لنبرة صوته، للوقوف أمام مرآته!..
نجوع للحريّة في زمن المعتقلات، وسوق الشّعب للمقصلة أو القبول بالاستعباد..
نجوع للعدل كي لا نرى الدموع في الوجنات، وأنّات الجراح تعلو للسماء..
نجوع للحبّ الذي تنكّرنا له، ولم يعد طبقاً رئيسياً على مائدة الحياة..
نجوع للقلم والكتاب، للشعر والأدب، للتغزّل بالطبيعة والهيام بالألحان..
نجوع للإنسان، لكلمة طيبة، للمسة دافئة، لباقة حنوّ ورحمة وريحان..
.. أمام حضرة السماء أسجل اعترافي وأرى جموع الجوعى يوقّعون الاعتراف، أما الذين استحبّوا الوقوف على ضفّة الصّمت وارتضوا جوعهم.. فليحتملوه!..