الجمعة ٧ آذار (مارس) ٢٠٢٥
بقلم بلال الأورفه لي

الحبّ والجنون وما وراءهما

تأمّلات في الأدب العربيّ مع أسعد خير الله

حلّ البروفيسور أسعد خير الله ضيفًا استثنائيًّا على كرسي الشيخ زايد للدراسات العربيّة والإسلاميّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، في أمسية أنيسة أدارها الدكتور بلال الأرفه لي، كان عنوانها ’الحبّ، والجنون، وما وراءهما: تأمّلات في الأدب العربيّ‘. وخير الله باحث مخضرم وأستاذ عتيق، وجّهت أبحاثه صوب حجز مكان للأدب العربيّ على خارطة الأدب العالميّ.

بعد أن قدّمه بلال الأرفه لي بحديث مؤثّر استعاد به سنوات التتلمذ عليه، بدأ خير الله بعودة إلى طفولته في بحمدون وتأثير محيطه العائليّ على بلورة رؤيته للعالم وتحفيز انسحاره بالكتب والأدب، سيّما زوج عمّه التي كانت موهبتها عجيبة في سرد القصص، وقد يسّر له تملّك والده فندقًا في البلدة التعرّف إلى وجوه وثقافات من العالم، جعلته يتجاوز مبكرًا الأفق المحلّيّ. استعاد خير الله بحنين ذكرياته تلك التي جعلته يرى في الأدب ذاك البُعد التفاعليّ التشاركيّ، من الـمُشاعرة في سوق عكاظ إلى الـمُسامرة في المجالسات الأدبيّة، التي كانت تتقاطع فيها وتتمازج فنون السرد والشعر والتاريخ.

كان هذا الفهم المتعدّد للأدب محوريًّا في تأمّلاته حول التراث العربيّ المكتوب، تابع خير الله، مستشهدًا بألف ليلة وليلة، ديوانًا للحكايا مؤلّفة نصوصه من هنا وهناك، مراوغ بين الشفاهة والكتابة، ما جعله بدءًا متعدّد الأوجه والأبعاد متمتّعًا بمرونة موعِبة لثقافات من العالم مختلفة.

تحدّث خير الله عن التحدّيات التي واجهها الأدب العربيّ في السياق العالميّ، وبيّن كيف أساءت المناهج الاستشراقيّة فهم الأدب العربيّ، ووجدت فيه ’قطعًا متناثرة‘ لأنّها لم ترقَ إلى فهم بنيته وسياقه الفريد الناظم لتدفّق الكتابة في مؤلّفاته. أشار خير الله إلى أنَّ الشعر والأدب العربيّين لا يحتاجان وحدة عضويّة تقليديّة تيسّر انسياب الكتابة، واستشهد على ذلك بنصّ القرآن. واستكمالاً لفكرة التدفّق والبنية في الأدب العربيّ، عرّج خير الله على المصطلحات النقديّة التي تناولت الشعر بوحي من بناء الخيمة، كعامود الشعر مثلاً. لكنّ الأهمّ، على قول خير الله هو الفهم العام للإنتاج الأدبيّ العربيّ، فإذا كان بيت الشعر خيمة، فالقصيدة كلّها هي محطّ رحال القبيلة مثلاً أو قل هي القافلة التي يسيرون فيها جميعًا، فالصورة الكبيرة التي تنتظمها روح الجماعة تلك هي هدف العمل الأدبيّ. وتعقيبًا بيّن خير الله كيف يُخطئ بعض الغربيّين في قراءة القرآن وفهمه، إذ يعدّونه مجزّأ وأحيانًا غير مترابط، وأوضح أنَّ هذا التصوّر المتحيّز المحتكم إلى ’جماليّات صحيحة‘ بعينها يعيق فهم للقرآن كنصّ متكامل.

ومع تفصيله مسألة مكانة الأدب العربيّ في الأدب العالميّ، رأى خير الله ضرورة التحوّل إلى رؤية عالميّة لفهم نصوص الثقافة العربيّة ودراستها، ومنها قصّة مجنون ليلى التي كانت مدار درسه وبحثه عبر السنوات، وهي الحكاية المتنقّلة عبر لغات وأنماط أدبيّة مختلفة. ونبّه خير الله إلى مرونة هذه القصّة وقابليّتها للتكيّف عالميًّا لبساطتها ووقعها المؤثرّ على العقل والقلب. تتماهى القصّة، رأى خير الله، مع نموذج أعلى في اللاوعي البشريّ، فالمجنون يجمع بين ثلاثة عناصر: الحبّ، والجنون، والشعر؛ معبٍّرًا عن رؤى شاملة وعالميّة تخترق الثقافات جميعها. ومثّل على ذلك بالنفحة الصوفيّة التي تُجلبب القصّة في الشعر الفارسيّ، وفيه يصعب فكّ الرموز إن أغفل القارئ البُعد الصوفيّ هذا.

وفي الختام حديثه، شدّد خير الله على أهمّيّة التنوّع وتعزيز فهم منفتح على الثقافات ووجهات النظر المختلفة، واستحثّ الطلّاب على خوض تجارب جديدة دون أفكار مسبقة أو تحيّزات. فالأدب العربيّ يرى خير الله حريُّ به أن يُدرَّس لذاته وبأدواته، بعيدًا عن المفاهيم المسبقة التي عرّفته وقيّدته في الأكاديميا الغربيّة. فعسى أن تلقى دعوته صدى طيّبًا لوضع الأدب العربيّ في مكان يستحقّه. وإلى لقاء آخر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى